قبل البارحة، حللتُ بمقعدي قرب النافذة، في الصف الأول من الطائرة .. يتوافد الركاب تباعا. جاءت سيدة لتحتل المقعد الذي على يساري. تبادلنا ابتسامتيْ مجاملة. نزعت السيدة معطفها وضعته في الرف بجانب معطفي وقبل أن تجلس قالت وكأن بيننا معرفة وحوارا سابقا يتواصل بشكل طبيعي. : -جئت في اليوم الخطأ يا أختي ربيعة ! – لماذا؟ - الرحلة هذه ليس فيها قائد الطائرة الكابتن عمر ولا المضيفة نوال ولا حتى سعيدة . - أووه ..خسارة ..! قلتُ مواسية - والآن كيف أفعل ومن يعتني بي عندما تأتيني (الحالة)؟ - كيف؟ - لم أخبرك ربيعة أنني أعاني حالة حادة من فوبيا الإقلاع والإنزال!؟ - لا يا أختي..ليس بعد! شعرت بأن الأمر جاد جدا. طويت الكتاب الذي بين يدي، الكتاب الذي أتيت به من أجل رفقة طريق السماء. جارتي السيدة أنيقة الهندام، هادئة المظهر لا تبدو على ما يرام. تقول إنها كلما قررت السفر بالطائرة إلا وقامت قبل ذلك بحساباتها الدقيقة لكي تتوافق سفرتها مع وجود من تعرفهم خلال خدمة رحلة السماء، وبفضلهم ومساعدتهم تتمكن من الالتحاق بغرفة القيادة أثناء فترتي الإقلاع و الهبوط. إنه الحل الوحيد لكي تتفادى (الحالة) الرهيبة التي تنتابها، فتجعلها لا تسيطر على نفسها من شدة الخوف، فتملأ الطائرة صراخا حين تصعد حافرة طريقها نحو السماء، أو وهي نازلة نحو الأرض وكأنها ذاهبة نحو حتفه . -تعرفي ..لم أسمع نصيحة زوجي حين قال لي يا زبيدة استني حتى يوم السبت المقبل. بصح واش ندير راني مشتاقة لبناتي وحفيدي. شعرت بشفقة نحو هذه المرأة التي تراوح بين أن تظل هنا وتغامر، أو على أهبة أن تحمل معطفها من جديد وتغادر. كانت تبحث بنظرات مذعورة في وجوه المضيفات والمضيفين عن شيء ما. ربطتْ أخيرا حزام الأمان، وكأنها شعرت بالخذلان، أو الرضوخ والقبول بالأمر الواقع. فجأة، شحب وجه السيدة زبيدة شحوبا مخيفا، وفقد ملامحه الهادئة تماما. الطائرة تشق طريقها نحو السماء، بينما هي تتشبث بطرفي المقعد تارة ، وبذراعي تارة أخرى. تثبت قدميها على الواجهة. تصرخ بقوة. كانت تنادي أمها. صوتها يغطي عليه محرك الطائرة. حاولتُ تهدءتها دون جدوى. لم تكن تسمع أحدا. حالتها أثارت انتباه بعض الركاب المجاورين. منهم من ينصحها بترديد قَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ، وآخر يتفلسف بِنيّة طيبة على أن الحياة في حد ذاتها رحلة مهشّمة لا محالة. وآخر. وأُخرى .. لا يبدو أن المرأة ترى أحدا أو تسمعه. إنها تنظر بهلع إلى سقف الطائرة صارخة والدموع تنهمر من عينيها. أغلقتُ غطاء النافذتين على يساري ومنظر الفراغ الهارب نحو الأسفل. شعرت بخوف كبير على حياة هذه المرأة التي يكاد قلبها يتوقف عن النبض من شدة الخوف، بينما يدفعها شوق لبناتها هناك. طلبت منها أن تتنفس بقوة. ناديت على إحدى المضيفات، وطلبت منها أن تحضر الماء. بنباهة أضافت المضيفة قليلا من السكر إليه. كانت المرأة ترتجف مثل ورقة خريف ذابلة. ثم فجأة .. وكأن شيئا لم يكن. استقرت الطائرة على علوّ معين. عادت الجارة إلى هدوئها بعد جُمَلِ اعتذار مبتسرة. مسحت وجهها بالورق المعطر. عدلتْ من جلستها، واستدارت نحوي، قدمت لي تمرة من علبة صغيرة أخرجتها من حقيبتها الثانية، ثم استرسلت في حديث جميل ومؤثر عن زوجها الدبلوماسي، وبناتها كل واحدة باسمها وقصتها منذ ولادتها وحتى الساعة. ومن ذاكرتها العامرة مرت بأحداث شبابها، وموهبتها الرائعة في الطبخ التقليدي، وحكايات عجيبة أخرى.. ومرت الساعات.. وحين شعرتُ بأن موعد الهبوط قد اقترب، ولأنني أحسست أن جارتي استأنست بوجودي، استدرجتها (بخبث بريء) للحديث عن حفيدها، فبرقت عيناها، وانشق وجهها الكئيب الشاحب عن ابتسامة سعادة. على الرغم من أن يدي زبيدة ترتعشان قليلا من حين لآخر. إلا أنها كانت منشغلة بأمر أهم من حياتها، أنساها المكان والزمان. إنها تحدثني عن الصغير (مراد) حفيدها، بحرارة منقطعة النظير، وبصوت مرتفع مليء بالحياة والحيوية، تصف عيني مراد، وفم مراد، وأنف مراد، وابتسامة مراد، وصوت مراد، وحركات مراد، وكلمات مراد، ومناداة مراد و..و.. نسيت زبيدة الطائرةَ ومُجْراها ومرساها، ونسيت قبطانها، وركابها، ومضيفاتها، ومضيفيها، ونسيتني أنا التي أتحايل على نفسي، وأتظاهر باهتمام شديد بمراد بطل الأبطال، *مراد* جميل الأفعال والأقوال. وحطت الطائرة بعد أن أحدثت رجة قوية، صرخت زبيدة على إثرها عاليا، لكن الركاب من جيراننا صفقوا بقوة، فالتفتتْ إليهم ثم إليّ بِحيرة، وقد فتحت عينيها على آخرهما وكأن أمرا مهما فاتها: - كيفاه .. خلاص وصلنا ؟! إنه قبطان شاطر والله ! – حمد الله على السلامة.!