شهد اليوم الثاني من أشغال المؤتمر السنوي الثاني للمجمع الجزائري للغة العربية، بالمركز العائلي ببن عكنون، إلقاء العديد من المداخلات ضمن الملتقى العلمي "جهود علماء الجزائر القدامى في خدمة اللغة العربية.. قراءة في المنجز اللساني"، تم خلاله استعراض مساهمات علماء الجزائر اللغوية التي تجاوزت النقل والتكرار. تناول المتدخّلون جهود العلماء الجزائريين على مرّ العصور، في خدمة العربية دراسة، وبحثا، وتأليفا، ليخلّفوا تركة ضخمة في علوم اللغة؛ من نحو وصرف، وبيان وبديع، وعروض، وفقه المعاجم، تضيق بها الخزائن، وتُعدّ من أنفس الكنوز التي يجب نفض الغبار عنها، والانتفاع بها. وتأتي أعمال الملتقى لبحث هذه المتون، والتعريف بأصحابها. وترأّس الجلسة الأولى للملتقى الدكتور بشير أبرير. وتدخَّل فيها الدكتور عبد الكريم عوفي من خلال "قراءة في كتاب الجمع الغريب في ترتيب مغني اللبيب" لأبي عبد الله بن قاسم الرصاع (894). وهو من أعلام الحركة العلمية التي عرفتها الجزائر عبر مسيرتها التاريخية. وله مساهمات متميّزة تنبئ عنها مؤلفاته المختلفة، ومنها كتابه هذا الذي تضمّن في ثناياه، قضايا ومسائل، وأقوال وآراء المفسرين، والنحويين، وغيرهم. وهذا العالِم يعوَّل عليه في رسم معالم الدرس اللساني المعاصر؛ لسلامة منهجه، وطريقة تحليله ونقده القضايا التي عالجها في كتابه. المحاضرة الموالية كانت "شرح السمرقندية" للحسين الشريف الورتلاني: قراءة في المنهج والأبعاد" ، للدكتور محمد زمري. حيث أشار إلى أنّ الرسالة لقيت عناية من علماء الجزائر من أمثال (الحسين الشريف الورتلاني)، الذي أنجز شرحا وافيا لها، اتّبع فيه منهجا يلائم وقتئذ، الغاية التعليمية المنشودة، فتناول المصطلحات البيانية تناولا دقيقا، راعى فيه حدود المفاهيم، وتداخلها. والمحاضرة الثالثة ألقاها الدكتور سالم شرابي بعنوان "جهود علماء الجزائر في خدمة العربية في القرن 11 الهجري، قراءة في المنجز النحوي والصرفي" . حيث اعتبر أنّ كثيرا من علماء الجزائر اهتموا بالنحو اهتماما بالغا من خلال تدريسه، وشرح كتبه. واستعرض المتدخل أهم المؤلفات الجزائرية النحوية والصرفية في القرن الحادي عشر. وختم هذه المداخلة بذكر بعض التوصيات المتعلقة بهذه المخطوطات، وغيرها من تراثنا المخطوط. الجلسة الثانية تضمّنت محاضرات من الجلسة الثالثة والأخيرة لهذا اليوم. وقد ترأسها الدكتور أحمد عزوز. واستُهلت بمداخلة الدكتورة سارة بوفامة من جامعة الأمير عبد القادر بقسنطينة بعنوان "الدرس اللغوي عند الثعالبي من خلال كتابه " الذهب الإبريز في تفسير وإعراب بعض آيات الكتاب العزيز"، مؤكّدة أن الكتاب من المصنّفات التراثية المتميزة التي تجمع بين عمق الدرس النحوي، ودقة التحليل الدلالي، وجمال المقاربة البلاغية؛ إذ يشكل عملا لسانيا متكاملا، يكشف عن وعي المؤلف بتعالق مستويات اللغة، وتفاعلها في إنتاج المعنى القرآني. ومن خلال تتبّع منهجه في تفسير النص القرآني، يتبيّن أنّ الثعالبي لم يتعامل مع اللغة على أنّها مستويات منفصلة، بل رآها شبكة من العلاقات المتداخلة بين المستوى الصوتي، والصرفي، والنحوي، والدلالي، والبلاغي، وهو ما يجعله من أبرز العلماء الذين مهدوا – بوعي أو بغير وعي – للفكر اللساني الحديث، القائم على التكامل بين المستويات اللسانية. أما الدكتور عبد الله زيتوني فعرض "السمات المنهجية في شرح المنظومات النحوية.. النفحة الرندية في شرح التحفة الوردية" لابن أبي المزمري الجزائري، حيث تم إبراز السمات المنهجية التي تميز بها شرح المزمري. وفي طليعتها تبسيط المادة العلمية، واختصار العبارة، ووضوح الشرح بأسلوب تعليمي يتناسب مع متعلمي النحو المبتدئين، وتوظيف الشواهد والأمثلة التطبيقية؛ تعزيزا للفهم. وجاءت هذه المساهمة في سياق إبراز خصوصية الإنتاج النحوي الجزائري، ودوره في تطوير مناهج الشرح والتعليم، وحفظ اللغة العربية، وصيانة هويتها. الإنتاج النحوي وتطوير مناهج التعليم فيما تناول الدكتور أبوبكر بوقرين من جامعة الأغواط، "التوجيه اللغوي للمعاني القرآنية في تفسير هود بن محكم الهواري الجزائري. وهذا المنجز اللساني الوافر في تفسير هود، يدل على شمولية تعامله مع مختلف الظواهر اللغوية، واستعمالها في توجيه المعاني القرآنية، من ظواهر صوتية صرفية، وصرفية دلالية، وصرفية تركيبية، وتركيبية بلاغية، وبلاغية نصية، ونصية خطابية. وبدورها، قدّمت الدكتورة نسيمة شمام "الإعراب مدخلا للتفسير القرآني، قراءة نحوية في كتاب " تحفة الإخوان في إعراب بعض آيات القرآن " للثعالبي 875ه، مبرزة الصلة بين علمي النحو والتفسير، والدور الذي يؤديه الإعراب في كشف الدلالات القرآنية، وتحديد المعاني. بلورة مدرسة لسانية جزائرية أصيلة أمّا الدكتورة حنان غياط من المركز الجامعي بمغنية، فتناولت "المنجز اللغوي لعلماء الجزائر القدامى من منظور لسانيات التراث"، سعت فيه للكشف عن ملامح التفكير اللساني لهؤلاء العلماء، ورصد مقارباتهم في دراسة الظواهر اللغوية، واستثمار مناهجهم ضمن رؤية جديدة تعيد الاعتبار للجهد اللغوي المحلي، وتربطه في الوقت ذاته، بالأفق المعرفي المعاصر، مع إمكانية قراءة المنجز اللغوي لعلماء الجزائر في ضوء لسانيات التراث، وإبراز الخصائص اللسانية التي تكشف عنها مؤلفاتهم، وإلى أي مدى يساهم هذا المنجز في بلورة وعي لغوي جزائري أصيل ومتجذر؟ ومَثّل الإنتاج اللغوي لعلماء الجزائر في العصور الماضية، إسهاما معرفيا أصيلا، تجاوز حدود النقل والتكرار، تجلت فيه خصوصية منهجية ومعرفية، عبّرت عن وعي مبكر ببنية اللغة، ووظائفها، وسياقاتها الدلالية والتداولية. وقد أثبتت الدراسة أن هذه المؤلفات ليست مجرد تراث لغوي يؤرخ له، بل هي مادة علمية ثرية، قابلة للتحليل بأدوات اللسانيات الحديثة. وبذلك يمكن القول إنّ إعادة استثمار هذا التراث تمثل خطوة أساسية نحو بلورة مدرسة لسانية جزائرية أصيلة، قادرة على المساهمة في الحوار اللساني العربي، والعالمي.