تملّكَني مِثل غيري حزنا شديدا بسبب ما يحصده وباء كورونا يوميا من الأرواح في وطني و في صفوف الإنسانية، و لكن ما عسانا نفعل، و ما عسى البشرية بِرمّتها تفعل حِيال هذا الفتّاك غير المرئي الذي لا حول لنا و لا قوة من نِزاله، لذلك فلا مَناص لنا إلاّ أن نُجاريه ، بامتثالنا الجادّ للأمريات و النواهي التي تحول بيننا و بينه، و لعلّ أجْدَاها على الأقلّ أن نُرابط في بيوتنا إلى حين محاصرته بشكل نسبي أوْ نهائي .. وفي غمرة هذا الحزن المتجدّد مع كلّ نشرية مسائية بأرقام الإصابات و الوفيات ، و في خِضم تَواري الناس عن الشوارع بشكل شبه كلي ، سَرَى في نفسي المَكلومة طَيف فرَح خفيّ ، ظَلْتُ للحظات أتساءل عن سرّه و مبعثه، ومَكثت دهِشا لبعض الوقت حتى هتفت لاشعوريا في دخيلتي : رُبّ ضارة نافعة .. أجَل، فَكما نحن ملزمون بالمُكوث في بيوتنا إلى أمد غير محدود لمحاصرة الوباء و اتِّقاء شرّه ، و ليس لنا من حراك نمارسه سوى بضع حركات محدودة و معدودة داخل مُربّعاتنا السّكنية المعلّقة في الهواء، ولكن، أليسَ جميلا أن تتحرك بَوْصلاتُ عواطفنا المتحجّرة باتجاه أهلينا و أحبّتنا وأصدقائنا لنتواصل - من جديد - بعد ان تقطّعت أو انتفت عُرى الوَصل بيننا، بسبب انشغالاتنا اليومية الروتينية ، و حركاتنا الآلية الرتيبة مِنْ و إلى بيوتنا !؟ أتصوّر ، على خلفية هذا المشهد المتكرّر، أن الفُنون ما بعد كورونا عامّةً ، والمسرح خاصةً، سَيُعْنى، ضرورةً أو احتمالا ، إلى حدّ بعيد بالعواطف و العلاقات الإنسانية في تفاعلها و تواترها، و ستشهد خشباتنا عودة لنماذج تنتمي إلى عصر الرومانس ، و أخرى من التيار الوجودي، وثالثة من مسرح العبث، كنتيجة لِما ستفرزه كورونا من تداعيات فكرية و نفسية شبيهة بمُخلّفات الأزمات المختلفة التي عانت منها البشرية في القرون المنصرمة ، حيث أنتجت لنا الحروب و الأوبئة على مرّ العصور مسرحيات خالدات مثل : أوديب مَلكا، فَاوْست ، كارِه البشر ، طَرْطُوفْ ، مدرسة الزوجات، عدوّ المجتمع ، إستمع أيّها الصغير، في انتظار غُودُو ، و غيرها من المسرحيات العالمية التي كانت مُحصّلة للمعاناة و اليأس و التأزم الإنساني ، جَرّاء تَدَافع و تَقابُل أكثر من شُعور بعد نهاية لعبة الحروب و كارثية آثار الأمراض و الأوبئة التي فتكت بكلّ الكائنات في عشرينيات القرنين التاسع عشر و العشرين، و ما قبلهما أيضا .. و أحْسب أنّ ما أنتجه المسرح العالمي من نصوص و عروض على الإثْر عموما، و المسرح الروسي خصوصا، و لاسيما مسرحيات تْشيخوف ، ستكون - بالنظر لواقعيتها المتمرّدة - أقرب النماذج المسرحية التي سَيَنكبّ مسرحنا على مُحاكاتها و إنتاجها تأليفا و اقتباسا، اعتبارًا لمشابهة هذا المسرح ( الروسي) ، الذي يشكّل فيه البيت، و قاعة الجُلوس تحديدا، فضاءا تدور فيه و حَوالَيه جلّ أحداث مسرحيات تشيخوف ، وهذا الفضاء هو نفسه الذي تجتمع فيه عائلاتنا و كلّ أُسر المعمورة اليوم ، فضاءٌ نتقاسم أمتاره و زواياه، الضيّقة و المنفرجة ، و نُدثّرها بالحكايا و الضوضاء ، و الأحزان و الآمال ، و الفرح و البكاء ، ونستشرف في ظلّ هذه التفاعلات خَلاصًا مأمولا من الحَجْر ، و تَشوّفا إلى هزم البلاء، و الحدّ من انعكاسات إشعاعاته السّالبة على نفسياتنا الهَشّة .. أعتقد أنّ بيوتنا في زمن الكورونا، بما تشهده من حوارات ساخنة أحيانا و احتكاكات و تَشنّجات، هي مكان أو مساحة للتواصل بين أفراد العائلة ، لأنّه فضاء مشترك، و مَلاذ إجباري يأتمِن فيه كلّ فرد على حياته من الموت الرابض خلف أبواب و جدران البيوت، مثلما أَمّن فِتْيةُ الكهف على حياتهم من الموت الحتمي ، باحتمائهم بالكهف، كَمَلاذ حفِظ لهم عقيدتهم و أجسادهم من التّلف لِقرون عديدة ( مسرحية أهل الكهف ) .. أكاد أجزم ، من خلال تجربتنا جميعا لحياة الحجر الهادئة و القلقة في آنٍ ، أنّ أُسَرنا قد تنكفىء على نفسها من جديد ، تماما كما كانت، قبل انحسارها إلى عائلات صغيرة ، و أيضا قبل ظهور الأفراد بِوصفهم ذوات منفصلة لا يشدّها إلى عائلاتها المتوسطة و الكبيرة أيّ رابط أو وَازع أو مصير، و إنّ المسرح، كَممارسة فنية اجتماعية ، و وسيلة تعبيرية عن الأفراد و الجماعات في حالاتهم المختلفة، لَسَوف يُحاكي قَطعًا و يسجّل بِصدق آلام وأنّات و أحلام النماذج و الفئات البشرية في احتِشادها، تفاعلا و انفعالا، داخل فضاءاتها الحميمة احْتماءًا من الوباء أو كِفاحًا ضدّه ، مثلما هو حال الأطباء و الممرضين و عمال النظافة و أعوان الأمن و الحِماية و غيرهم من القوى الحيّة في المجتمع .. و الأكيد أنّ المسرح في تَعَاطيه - ما بعد الوباء -مع هكذا نماذج إنسانية و غيرها مثل الآباء و الأمهات و الشباب، في نضالهم و استِماتَتهم و تضامنهم ، انتصارا للحياة في مقابل الزوال و التفكّك و الفناء، سيسترجع منطقه و حقيقته ، كَفنّ يُحاكي الأفعال النبيلة، و شخصياته من طِينة لا تلين و لا تتصلّب و لا تميل : في شَراسة غرائزها و اسْتِعصاء مِقْودها، تتأبّى على الإنقياد و الإستسلام، و لا تئِنّ أو تساوم تحت طائلة أيّ رُزْءٍ، بل تكافح و تُنافح عن أفكارها و مبادئها و شرفها ، كَعنوان ثابت لوجودها و إنسانيتها ، فهي إمّا أن تكون كذلك أوْ لا تكون، و بالطبع ، هذه كانت فِطرتها و طبيعتها و حقيقة جوهرها ، تمامًا كما الشخصيات النبيلة العظيمة التي تحيا بيننا لِتصنع الحياة، و تكافح و تناضل و تموت لِتنتصر الحياة أيضا، و هذا سرّ خلودها في أعماقنا و في ذاكرة التاريخ، و مَدْعاة لأن يحتفي بها المسرح و يستحضرها كَنماذج تزخر بالحيوية و الدرامية ، لِتبثّ و تنثر -كما قال إريكْ بنتلي - المزيد من إِكْسِيرِ " الحياة في الدراما " ...