الحمد لله فتح لعباده أبواب النظر والاعتبار، وجعل في صفحات الكون آياتٍ شاهدة على كمال حكمته، وجعل في خلق السماوات والأرض آياتٍ للمتفكرين، ودلائل باهرة على قدرته وربوبيته. إنّ التفكّر في مخلوقات الله تعالى عبادة قلّ من يلتفت إليها، مع أنها سبيل راسخ من سبل الإيمان، ومفتاح عظيم من مفاتيح المعرفة. قال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي الأَلْبَابِ. الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: 190-191]. فالكون كتابٌ منشور، حروفه الكواكب والنجوم، وكلماته الجبال والبحار، وصفحاته الليل والنهار، لا يملّ قارئه من تدبّر عجائبه، ولا ينقضي عجب الناظر في بديع صنعه. ومن هنا كان التفكّر وظيفة أولي الألباب، وقرين الإيمان الصادق. لقد وقف إبراهيم عليه السلام يتأمل جرم الكوكب ثم القمر ثم الشمس، يستدل بطلوعها وأفولها على أن ربّ هذا الوجود أعظم منها وأبقى، حتى قال في ختام رحلته الإيمانية: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: 79]. ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحيي هذه المعاني في نفوس أصحابه، فإذا جنّ عليه الليل قام يناجي ربّه، ثم يقرأ خواتيم آل عمران فيبكي ويقول:"ويل لمن قرأها ولم يتفكّر فيها". وما ذاك إلا ليُعلّم الأمة أن التفكّر عبادة مثل الصلاة والذكر، فهو غذاء العقل والروح، وعبادة العقل الواعي الذي يرى بنور الإيمان. لقد استحثّ القرآن الكريم أولي النظر والفكر على التأمل في المحسوسات والمشاهدات الكونية: السماء المرفوعة، والأرض المبسوطة، والجبال الراسيات، والإبل المهيأة للحمل والسير، فقال تعالى: {أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ.وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ.وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ.وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ، فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ} [الغاشية: 17-21].فذكر أيها النبي هؤلاء العقلاء ليخرجوا من ظلمات الجهالة إلى أنوار العلم، ومن غيّ الضلال إلى سبيل الحق والهداية. ومن التفكر المفيد أيضاً ما يتجاوز حدود النظر المجرد، ليترجم في واقع الحياة إلى عملٍ نافعٍ، وإنتاجٍ مثمر، وخيرٍ متعدٍّ ينفع صاحبه وينفع الناس. ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:"الكَيِّسُ مَن دانَ نَفْسَهُ، وعملَ لِما بَعْدَ الموتِ، والعاجِزُ مَن أتْبَعَ نَفْسَهُ هواها، وتمنَّى على الله". [رواه الترمذي]. أيها القارئ الكريم، انظر إلى جناح بعوضةٍ تدبّ على الأرض، تجد فيه من بديع الصنعة ما يعجز عنه خيال العلماء، وانظر إلى نظام الأفلاك وهي تجري في فلكها بغير خلل ولا اضطراب، كأنها جندٌ مصطفّ بأمر الملك القهّار. ثم تأمل قلبك وهو يخفق بين أضلاعك بلا توقف منذ ولدت، أليس ذلك آيةً من آياته؟ إن التفكّر في المخلوقات يورث القلب خضوعاً، ويبعث على المحبة والخشية، ويملأ النفس يقيناً بأن وراء هذا الكون رباً عظيماً، واحداً في ملكه، جليلاً في سلطانه، لطيفاً بعباده. ..قيمة النظر في جمالية الكون النظر في جمال الكون والمخلوقات هو من التفكر في خلق الله عز وجل وجميل صنعه، وثمراته كثيرة ومنها، إدراك عظمة الخالق سبحانه وبديع قدرته وعجيب صنعه وإتقانه، فلا فلتة ولا مصادفة ولا خلل ولا نقص كما قال سبحانه: صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ {النمل: 88}. ومنها: زيادة الإيمان: فالتفكر يستدل به المرء على ما لله من صفات الكمال والجلال، ويعلم أنه لا يخلق أحد كخلق الله ولا يدبر كتدبيره سبحانه وتعالى، وكلما تدبر العاقل في هذه المخلوقات وما أودع فيها من لطائف البر والحكمة، علم بذلك أنها خلقت للحق وبالحق، وأنها صحائف آيات وكتب دلالات على ما أخبر الله به عن نفسه ووحدانيته، قال ابن العربي: أمر الله تعالى بالنظر في آياته والاعتبار بمخلوقاته في أعداد كثيرة من آي القرآن، أراد بذلك زيادة في اليقين وقوة في الإيمان، وتثبيتا للقلوب على التوحيد، قيل لأبي الدرداء: أفترى الفكر عملا من الأعمال ؟ قال: نعم هو اليقين. فالتفكر طريق العبد إلى اليقين، كما قال تعالى: وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ {الأنعام:75}. وقال بعض السلف: مازال المؤمنون يتفكرون فيما خلق ربهم حتى أيقنت قلوبهم بربهم. ومنها: أن التفكر في جمال الكون وإتقانه يجعل الإنسان يدرك أن الله خلقه لأمر عظيم وهو عبادته وحده لا شريك له، وأنه سبحانه لم يخلق مثل هذا الكون الفسيح المتقن ليعبث الإنسان أو يعبد غير الخالق، بل إن المتأمل لخلق الإنسان ابتداء وانتهاء، والناظر فيما اختصه الله به من عقل وإرادة، يدرك أنه إنما خلق لأمر عظيم، قال تبارك وتعالى: وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ {الذاريات:21} قال قتادة رحمه الله: من تفكر في نفسه عرف أنما لينت مفاصله للعبادة. ومنها: أن التفكر من صفات العلماء ومن أعظم العبادات التي تقود إلى الخشوع لله: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ {فاطر: 27-28} ومنها: أن هذا التفكر بحد ذاته عبادة من أجلّ العبادات أمر الله بها وذم من غفل عنها، كما قال تعالى: قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ {يونس:101}، وقال: أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ… {الأعراف: 185}، وقال: أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ…{سبأ: من الآية9}، وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ {يوسف:105}. ومنها: أن التفكر مما يزيد التقوى ويرسخ الإيمان، قال تعالى: إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ. {يونس:6}. فلنحرص على هذه العبادة القلبية، ولنقف مع أنفسنا وقفات نتأمل فيها السماء المزدانة بالنجوم، والأرض المفروشة بالنبات، والبحر المائج بالحياة، فنزداد إيماناً ويقيناً، ونستحضر عظمة الخالق في كل مشهد وموقع.{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت: 53].