تكوين 50 أستاذا وطالب دكتوراه في التّعليم المُتكامل    جامعة هواري بومدين..خزّان الجزائر من الإطارات    وفد مجموعة الصداقة البرلمانية الجزائر-أذربيجان يلتقي نظيره الآذري    تحضيرات مُكثفة لإنجاح موسم الحصاد..عام خير    تسهيلات بالجملة للمستثمرين في النسيج والملابس الجاهزة    المسيلة..تسهيلات ومرافقة تامّة للفلاّحين    مطالبات بتحقيقات مستقلّة في المقابر الجماعية بغزّة    تقرير دولي أسود ضد الاحتلال المغربي للصّحراء الغربية    أساتذة التّعاقد بالمملكة يحتجّون ويطالبون بسحب كل العقوبات    العنف في ملاعب كرة القدم.. السم في الدسم    العاصمة.. ديناميكية كبيرة في ترقية الفضاءات الرياضية    حريصون على تعزيز فرص الشباب وإبراز مواهبهم    وكالة الأمن الصحي..ثمرة اهتمام الرّئيس بصحّة المواطن    استفادة جميع ولايات الوطن من هياكل صحية جديدة    حكومة الاحتلال فوق القانون الدولي    غزّة ستعلّم جيلا جديدا    جراء الاحتلال الصهيوني المتواصل على قطاع غزة: ارتفاع عدد ضحايا العدوان إلى 34 ألفا و356 شهيدا    بن طالب: تيسمسيلت أصبحت ولاية نموذجية    الشباب يبلغ نهائي الكأس    بونجاح يتوّج وبراهيمي وبن يطو يتألقان    خلافان يؤخّران إعلان انتقال مبابي    قال بفضل أدائها في مجال الإبداع وإنشاء المؤسسات،كمال بداري: جامعة بجاية أنشأت 200 مشروع اقتصادي وحققت 20 براءة اختراع    بعد إتمام إنجاز المركز الوطني الجزائري للخدمات الرقمية: سيساهم في تعزيز السيادة الرقمية وتحقيق الاستقلال التكنولوجي    سوناطراك تتعاون مع أوكيو    الأمير عبد القادر موضوع ملتقى وطني    باحثون يؤكدون ضرورة الإسراع في تسجيل التراث اللامادي الجزائري    أهمية العمل وإتقانه في الإسلام    الأقصى في مرمى التدنيس    هذا آخر أجل لاستصدار تأشيرات الحج    رفيق قيطان يقرر الرحيل عن الدوري البرتغالي    "العميد" يواجه بارادو وعينه على الاقتراب من اللّقب    جامعة "عباس لغرور" بخنشلة: ملتقى وطني للمخطوطات في طبعته "الثالثة"    المدرب أرني سلوت مرشح بقوّة لخلافة كلوب    مدرب مولودية الجزائر باتريس يسلم    أمن دائرة عين الطويلة توقيف شخص متورط القذف عبر الفايسبوك    سيدي بلعباس : المصلحة الولائية للأمن العمومي إحصاء 1515 مخالفة مرورية خلال مارس    بطولة العالم للكامبو: الجزائر تحرز أربع ميداليات منها ذهبيتان في اليوم الأول    مهرجان عنابة للفيلم المتوسطي: حضور لافت في العرض الشرفي الأول للجمهور لفيلم "بن مهيدي"    مشروع "بلدنا" لإنتاج الحليب المجفف: المرحلة الأولى للإنتاج ستبدأ خلال 2026    هلاك 44 شخصا وإصابة 197 آخرين بجروح    أحزاب نفتقدها حتى خارج السرب..!؟    حوالي 42 ألف مسجل للحصول على بطاقة المقاول الذاتي    حج 2024 :استئناف اليوم الجمعة عملية حجز التذاكر للحجاج المسافرين مع الديوان الوطني للحج والعمرة    الجزائر العاصمة.. انفجار للغاز بمسكن بحي المالحة يخلف 22 جريحا    الفريق أول السعيد شنقريحة يترأس أشغال الدورة ال17 للمجلس التوجيهي للمدرسة العليا الحربية    من 15 ماي إلى 31 ديسمبر المقبل : الإعلان عن رزنامة المعارض الوطنية للكتاب    المهرجان الوطني "سيرتا شو" تكريما للفنان عنتر هلال    شهداء وجرحى مع استمرار العدوان الصهيوني على قطاع غزة لليوم ال 202 على التوالي    مهرجان عنابة للفيلم المتوسطي: فيلم "بنك الأهداف" يفتتح العروض السينمائية لبرنامج "تحيا فلسطين"    إستفادة جميع ولايات الوطن من خمسة هياكل صحية على الأقل منذ سنة 2021    السيد بوغالي يستقبل رئيس غرفة العموم الكندية    حج 2024: آخر أجل لاستصدار التأشيرات سيكون في 29 أبريل الجاري    خلال اليوم الثاني من زيارته للناحية العسكرية الثالثة: الفريق أول السعيد شنقريحة يشرف على تنفيذ تمرين تكتيكي    شلغوم العيد بميلة: حجز 635 كلغ من اللحوم الفاسدة وتوقيف 7 أشخاص    فتح صناديق كتب العلامة بن باديس بجامع الجزائر    الدعاء سلاح المؤمن الواثق بربه    أعمال تجلب لك محبة الله تعالى    دروس من قصة نبي الله أيوب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الشيخ ابو جرة سلطاني يشرع في تفسير القرآن الكريم على صفحات الحوار
نشر في الحوار يوم 16 - 04 - 2015

الحمد لله الذي خلق الإنسان وعلمه البيان، والصلاة والسلام على صاحبه أفصح لسان، وأبلغ بيان وأطهر جنان..وبعد :
يسّر الله لنا أن ننظر في كتاب الله تعالى بما هو من فقه الحياة الذي تستوعبه آيات التنزيل ويتجدد بها الدين على رأس كل مائة عام كما بشّر بذلك المصطفى (ص)، ونحن معتقدون أن تجديد الدين لم يعد بوسع جهد فردي الإضطلاع به، فقد تشابكت العلوم وتداخلت المسافات الزمانية والأبعاد المكانية في عصر متسارع الخُطى يساند تارة ويتعاند أخرى، بيْد أن للجهد الفرديّ قيمته إذا تلقته الأمةُ بالقبول وعالجه علماؤها بالثقاف، وقد فرغنا، حتى الآن بحمد الله تعالى وفضله- من تفسير نصف القرآن ونحن عازمون على استكمال نصفه الثاني، إذا كان في العمر بقية وفي الوقت بركة وفي فتوح الله نصيب، وقد بدا لنا أن ننشر نماذج من هذه المحاولة نستلهم من خلالها ما يتكرم به علماء الأمة ودعاتها ومفكروها وأئمتها من رأي حصيف، ونقد عفيف، ومزاوجة بين تالد وطريف، ونحن على مثل اليقين أن الخير في هذه الأمة مطمور في صدور أفاضل رجالها يحتاج إلى تحريك يفتح أجنحة الفكر ويستحت انفعالات الذكر ليكون الرأي بعد تقليبه- أكثر سدادا والمقصد أكثر رشادا، وأسميته ابتداء : "تفسير المؤمنين".
سيقول كثير من الناس: ما الجديد في تفسير المؤمنين والمكتبات تعدّ بالآف المصنفات في هذا الباب؟ وسيقول آخرون وهل الأمة بحاجة إلى تفسير جديد وهي أمة قليلة القراءة كليلة النظر عليلة الذوق والأثر !!ويتساءل آخرون : لماذا لم يُذهب إلى ما هو أجدى للأمة وأنفع من التقعيد للسياسة الشرعية التي ما كتب فيها علماؤنا إلاّ شذرات كانت صالحة لزمانهم وألفوها بنفسية الأمة الغالبة فجاء فقههم "فقه المتغلَّب" ونحن اليوم أمة مغلوبة على أمرها تحتاج إلى فقه الإستضعاف لا فقه الإستخلاف؟ وينْبري آخرون إلى الفتيا في جواز نشر كلام الله في الصحف السيّارة والأوراق الطيارة وعدم جواز ذلك لأن أوراقها تنتهي إلى مواقع غير طاهرة إذا لم ترقبها أعين ساهرة ونفسيات على الحق ظاهرة.
ولست أحب استباق الزمن بما هو من الفضل والمنن، كما ليس عليَّ جُناح في ما أخطأ الناس به أو ما تعمدته قلوبهم أو سالت به أعناق المطايا وسبق فيه السَّيف العذل، إنما واجب الوقت يضعني أمام مسؤوليتين هما على كلِّ مؤمن درَاكٌ وليس لدعوة العصر منهما فكاك.
الأولى : الحرص على عدم تأخير بيان الحق عن وقت حاجته، وإني أرى إرهاصات إعادة إخراج خير أمة سبق أن أخرجت للناس قد أظلنا زمانها وآن أونها، فوجبت المساهمة في وضع أساسات بنيانها بما هو في الوسع والطوق، وما أنا على أحد بوكيل، فرسول الله (ص) لم يفسِّر القرآن لمن حوله من الصحابة (عليهم الرضوان) وهو بذلك زعيم لو أراد، ولكنه ترك لكل أمة "حقها" في قدح الزناد بما ينفع العباد ويصلح البلاد، فحرص (ص) على بناء العقيدة وبيان الشريعة وإتمام مكارم الأخلاق مكتفيًّا بما هو من واجبات الوقت، فلما أكمل الله له الدين وأتم له النعمة ورضي له ولأمته الأسلام دينا، خطب في حجة الوداع، جامعا وملخصا لحقيقة هذا الدين ومعلنا أنه ترك للأمة ما إن تمسكت به لن تضل بعده أبدا "صفاء" كتاب الله، تنزيلا وجمعا وقرآنا وحفظا، تم "إيفاء" السنة، قولا وفعلا وإقرارا وتقريرا، ليحدد الناس من بعده مقاماتها وصفاتها ويسرحوا لزمانهم وفي مكانهم ووفق أحوالهم، حقائق دينهم واستقامة شريعتهم ووضوح منهاجهم، لتظل الأمة من بعد رسولها على الصراط المستقيم، فلما انتقل رسول الله القدوة(ص) إلى الرفيق الأعلى واستخلف المؤمنون على أنفسهم صاحبه في الغار أبا بكر الصديق (رضي الله عنه) لم يفسّر للأمة القرآن ولم يأمر أحد بتفسيره، وإنما اهتم بجمعه وخفظه لما استحرّ القتل في الناس جهادا في سبيل الله ضد المرتدين ومسّت سيوف البغاة حفظة كتاب الله تعالى فخشى الخليفة ومن حوله ضياع بعض آيات وسور الكتاب الحكيم، فتشاوروا وعقدوا العزم على نقل القرآن من الصدور إلى السطور قبل أن يؤول مصير من سمعوه غضا طريا إلى القبور، فلما أفضى الصديق (رضي الله عنه) إلى ربه وتولى الخلافة من بعده الفاروق عم بن الخطاب (رضي الله عنه) لم يفسّر القرآن للناس، وإنما استكمل جهد صاحبه حتى آل الأمر من بعده إلى الخليفة الثالث ذي النورين عثمان بن عفان(رضي الله عنه) الذي تم على يديه المباركتين جمع القرآن وترتيبه وفق آخر "عرضة" عرضها رسول الله(ص) على جبريل (ع) في آخر شهر رمضان سبق انتقال روحه الطاهرة إلى باريها، واستقر أمر الأمة على هذه النسخة التي طابقت آخر "ختمة" للقرآن الكريم كله، بعد تمام الدين وكمال النعمة، وتم إتلاف ما كان بين يدي بعض الصحابة (عليهم الرضوان) مما جمعوه للحفظ الخاص بهم، ولم يكن مع أيٌّ منهم مصحف كامل، جمْعا ولا ترتيبًا، لما ثبت من صلاة أبيّ بن كعب التراويح بالناس بأمر من الفاروق عمر(رضي الله عنه) فقرأ بهم من الفاتحة إلى الناس بالترتيب الذي سمعه من رسول الله(ص) ولم يعترض أحد من حفظة القرآن على هذا الترتيب المصحفي للمصحف الذي بين أيدينا اليوم المسمى ب "المصحف العثماني" المرتب وفقًا وتوفيقا بحفظ الله له وجمعه واتباع ترتيبه الموحى به عند تمامه وكماله لا بحسب زمن نزوله وتنزله وإنزاله، لقوله تعالى : "لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ " القيامة 16/19، فما احتاج الأمر إلى تفسير لأهل سليقة.
فلما أُعجم على الناس فهم كلام الله وأشكلت بعض مسائله على الأفهام وظهر على ألسنتهم اللّحن والتصحيف ونشأ في الأمة الفَرقُ الضالة والمؤوّلة للقرآن ليطاوع هواها انبرى جهابذة الأمة ينافحون عن كتاب دينهم ومرجع هدايتهم، فبيّنوا العقائد والعبادات وثبتوا أحكام الربط بالحق وأوضحوا حدود الحلال والحرام وسائر التكاليف الشرعية..فظهرت حركة تأليف واسعة في شتى مناحي العلوم الشرعية واللغوية وبعض مبادئ العلوم الفلكية والجغرافية وعلم الحساب والأثار والأحياء كان الهدف منها خدمة القرآن الكريم، فلما توسعت الفتوحات ظهرت التفاسير الناقلة للكتاب والسنة إلى مستويات فهْم الأقطار المفتوحة بناء على تفسير رسول الله(ص) لبعض آيات الكتاب المبين كتفسيره الظلم بالشرك، والإلقاء باليد إلى التهلكة بترك الجهادثم ما ثبت عن الخلفاء من "تأويل" لبعض الآيات المتشابهة، فاستنار بهذا الجهد سبيل الحق للناس، وفق معطيات الزمان والمكان وأحوال الإنسان، ثم توسعت حركة التفسير لتشمل الكتاب كله، وفق قواعد صارمة وضوابط دقيقة، عاش اللّاحقون على رصيد السابقين في جميع ما له صلة بالتكاليف الشرعية، مع اجتهاد علماء كل جيل في هوامش "مستجدات" العصر وقضايا المعاش والعلاقات بين الناس كلما توسعت رقعة التعايش وكلما طرأ على البشرية من التحولات ما يستوجب المواكبة والتأصيل
وحول هذا المقصد دندن فكرنا معتقدين أن "المعجزة القرآنية" باقية في الناس ومستمرة في العطاء كلما وجدت من يتفاعل معها بما هو واجب وقت لا يتأخر فيه بيان الحق عن وقت حاجة الأمة إليه، وهو ما حاولت استفراغ الجهد فيه ميّمما شطر السابقين في ما ليس فيه اجتهاد من عقيدة، وعبادة، وحلال وحرام، وخلق، وقصص، ملتمسا فضل الله في ما دون ذلك، معتقدا أن الأمة اليوم بحاجة إلى تفسير أجتماعي للقرآن الكريم تتداخل فيه السياسة بالإقتصاد والثقافة بالعلاقات، والدعوة بالدولة، والشريعة بالقانون، والجماعة بالمجتمع وصهْر كل ذلك في بوتقة ما جاء به جميع الأنبياء والمرسلين (عليهم السلام) في القول المكرور والنداء المشهور : "اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ" هود:50 .
هذه هي مسؤوليتي الأولى في هذا الجهد الدعوي.
الثانية : بيان حاجة الأمة إلى فهم مرونة هذا الدين وشموله "وواقعيته" في أطر ربانية لا يندّ عنها نصّ ولا يخرج عنها فهم ولا يبتعد عنها سالك لسبيل المؤمنين، ولست أزعم لنفسي الإحاطة بشوارد الحق ولطائف الخلق ومعجزات التنزيل "وفقهيات" التأويل..فقد قطع الله عن الخلق بعد رسوله الكريم- أسباب التواصل مع الغيب ولم يترك لهم من هذا الباب إلاّ عطاء الفهم بعميق النظر وواسع التفكّر والتدبّر إذا لم يكن على قلوب الناس أقفالها لكي لا يجمد هذا القرآن في القرون الثلاثة الأولى المشهود لها بالخيرية فيقال : ما أُرانا نقول إلاّ معادا، أو يقال : هل غادر الشعراء من متردم؟ والحق ليس كذلك، فلكل أمة عطاؤها، ولكل جيل قضاياه وقد أكرمني ربي بأن اشتغلت في حقل الدعوة والإمامة ستة عشرة سنة دأبا (متتاليات) بين سنوات 79-1994 ثم تقطعت بي الأسباب بضع سنين لأعاود الكرَّة إلى العبّ من ميراث النبوّة السائغ فالفيت أن أعظم ما يتحدث به الناس في الدعوة والسياسة والإقتصاد وعلاقات السلم والحرب- هو كلام الله المفسِّر بسنّة رسوله (ص) في حكمه، وقضائه، وقدوته، وقيادته..وفي "بشريته" أيضًا، كونه أسوة كاملة في الدين والدنيا، لأنه كان نبيا رسولا، يلتزم بما يقول قبل أن يقول، ويأتمر بما يأمره الله به قبل أن يبلّغه للناس، ذلك أن القرآن الكريم هو المنهج وهو، في الوقت نفسه المعجزة، فمنه المنطلقات وفيه المقاصد والغايات، وهو يتضمن الوسائل والطرائق "والآليات" فالدعوة به إلى الله والمعجزة فيه بالله والوسائل ميسَّرة في آياته بفضل الله : "ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ " النحل : 125.
ومهما قيل/ في الدعوة ورجالها، تبقى فهوم الناس مختلفة ومستويات إدراكهم متباينة وقدرتهم على الإستعاب متفاوتة، وانتفاعهم بما يسمعون موكولا إلى استعداداتهم الفطرية واهتمامهم بما يسمعون و"حرقتهم" على هذا الدين وثقتهم في هذه الدعوة، فعن أبي موسى الأشعري (رضي الله عنه) قال : قال رسول الله (ص) : "إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضا، فكانت منها طائفة طيبة، قبلت الماء، فأنبت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس فشربوا منها وسقوا وزرعوا، وأصاب طائفة منها أخرى، إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه بما بعثني الله به، فعلم وعلّم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به"، متفق عليه.
فالأمرُ في هذا الدين صائر إلى واحدة من ثلاث :
نفس طيبة تقبل الحق وتأخذه من أي وعاء جاء، فتنبت الكلأ والعشب الكثير، وتقدم للبشرية "قيمة مضافة" من علمها وهملها.
ونفس خدومة تنقل الخير للناس وتحفظ لهم الفضل بعد المعروف وتقرّ بأن الله خلق البشر متفاوتين في الذكاء والعطاء والملكات والتفاعل مع حركة الحياة، فتمسك العلم وتعيه وتحفظه وتنشره في الناس فيشرب القوم مما أفاء الله به على عباده "فشربوا منها وسقوا وزرعوا" وتلك إشارة للدعاة والعلماء والأئمة والمرابطين على ثغور الحق.
ونفس جدباء عارية من ثرى الخير والنماء "إنما هي قيعان" طبيعتها متحدّرة رعناء "لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ" وهؤلاء هم الذين لا ينظرون إلى مقاصد العلوم وغايات الدعوة، إنما يأخذون "بأذن كلب الغنم" كما وصفهم المصطفى (ص) فلا هم فقِهوا ما يقال لهم وما يكتب، ولا هم فقُهوا عن الحق ما أراد، وقد شبههم القرآن الكريم بحجر "الصوّان" فقال فيهم: "فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ" البقرة :264، فتعوذ بالله من استقبال الصفوان لمياه الأمطار ومن قيعان الأرض التي لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ.
حسبُنا في هذه المحاولة المجتهدة أن عشنا مع كتاب الله تعالى لحظة بلحظة، هدى، ورحمة، وموعظة، ونورا، وذكرا..وشفاء لما في الصدور، عشنا مع وحي المشيئة بالقدرة، ونقلنا ما فتح الله به إلى من يفتح الله عليه بجهد مقل وعقل مستقل، وتقصدنا بهذا الإجتهاد، بعد مرضاة الله تعالى، ثلاثة غايات قدرنا أنها، إن تحققت فسوف تسد ثغرة في رباط الدعوة إلى الله في عصر طغت فيه الصورة على الصوت وعلت اللُّمعة عن الخطاب، وصار العقل لا يركن إلى المطولات ولا تصبر النفس إلاّ لمن دنا فتدلى.
أما الغاية الأولى، فتيسير الفهم على من صارت اللغة العربية "لكْنة" في لسانه ورطنة في بيانه ووقرا في أذنيه وروْنا في فؤاده، فصار من واجبات الوقت أن "يوطأ" فهم كلام الله للمؤمنين، في القرون الأخرى، كما وطأ مالك بن أنس (رضي الله عنه) كلام رسول الله للقرون الأولى، وذلك مطمح سامق يكفينا منه شرف المحاولة ونبل المقصد وإخلاص النية وصواب تلمس طرائق الأولين
وأما الغاية الثانية، فحسن التنزيل على واقع لم تعد فيه الغلية لأهل الإيمان، وذلك بتثبيت الحكم الشرعي كما أنزله الله، والبحث بعد ذلك- في مساحات الضرورة والإضطرار "فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه" مع إقرار أن حالة الإستضعاف في الأرض لا تحلل حراما ولا تحرم حلالا ولا تسقط واجبًا ولا تعطل تشريعا، وإنما هو بحث عن عفو الله في رحمته في "فقه" إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان مهادنة للباطل لامداهنة للظالمين، وفي نصوص القرآن الكريم ما يغني ويقني "وأنه هو أغنى وأقنى" النجم: 48.
وأما الغاية الثالثة فالإنتحاء تلقاء الشأن الإجتماعي، الذي أحسب أن الرباط على ثغره من أوكد العبادات اليوم، مع أن مسمى "الجبهة الإجتماعية" درج فقهاء عصر الغلبة على إدراجه في باب المعاملات، عندما كان الدين عندهم لا يفصل بين العبادة والمعاملة إلاّ في أبواب الفقه لتيسير الفهم، أما واقع الحال اليوم فمنفكة عبادات الناس فيه عن معاملاتهم، وكأن الدين عند كثير من المسلمين اليوم منحصرا في قواعد الإسلام الخمس !! فأين قوله تعالى : "قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ" الأنعام : 162.

ليس كل ما في هذه المحاولة جديدا، ولكن اليقين الثابت أن فيه "تجديدا" للفهم واجتهادا متناسبا مع فورة العلم وطفرة الإعلام وتسارع أقضية الناس، والنظر في أحوالهم بلسان زمانهم، فالله لم يقل : وما أرسلنا من رسول إلاّ "بلغة" قومه !! وإنما قال : "وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ" إبراهيم:04، والفرق بين اللسان واللغة شاسع، فهناك لسان الحال ولسان المقال ولسان السؤال ولسان الزمان والمكان والإحسان..والمتأمل في المواضع التي وردت فيها لفظة "لسان" واشتقاقاتها اللغوية (وهي أربع وعشرون مرة) يدرك ما أرومه ويعذرني عما ألومه، ففصاحة اللسان التي تحدث عنها موسى (ع) ونسبها لأخيه هارون (ع) ليست فصاحة قول إنما هي رباطة جأس وضبط انفعال، كما سوف ترى بيانه في هذا السِّفْر المبين، فإذا حاولت نقل كلام الله إلى قومي في العالم الإسلامي- بلسانهم، فما قصدت من بساطة اللغة "وواقعية" الطرح والتنزيل إلاّ إعادة ربط المسلم بحقيقة هذا الدين وذلك بمواجهة النص القرآني للواقع دون تكلّف ولا مماحكة ولا ليّ لأعناق النصوص وتطويعها لفقه الهزائم، فالقرآن هو "وحدة القياس" التي يقاس عليها تمام الدين وكمال النعمة، لكن فهم الواقع مسألة ضرورية لوضع فوارق ما بين بيان الحُكم والتدرج في تطبيقه، ولقد اطلعت على أغلب ما كتب السابقون واللاحقون، من محاولات ابن عباس (رضي الله عنهما) في تنوير مقباسه إلى الطبري، والقرطبي، وابن كثير، والرازي، والبيضاوي، والألوسي،إلى الطبرسي، ورشيد رضا، والطاهر بن عاشور، وسيد قطب، وسعيد حوى، والشعراوي مرورا على المختصرات وألفاظ القرآن كالصفوة والجلالين وأفدت أيما فائدة، ولم أجد في ما كتب هؤلاء جميعا ثلمة لهامز ولا ثغرة للامز، فالتعامل مع كلام الله عبادة : تلاوة، وتدبّرا، وسماعًا، وتفسيرا، فما يكتب فيه أحد كلمة إلاّ بقدر الله، فإذا جانف صاحبها الصواب نفت آيات الله خبائث الناس وكشفت قدرة الله الخطايا والطوايا فذهب الزبد جفاء ولم يبقَ ، إلاّ ما ينفع الناس، أليس الله هو القائل : "إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ" الحجر: 09.
لذلك فمعالجة الواقع للقرآن، وفصْل ما بين منطوق الحكم ومفهومه في واقع يحتاج إلى أكثر من سبيل لسلوك أقضية الحياة في مسارات الحق وفق تدرج متاح مطلوبه أن يجعل الواقع غير متصادم مع الحق ومرغوبه أن يجعله مطابقا له خاضعا لسلطانه، وهي ليست مسألة جديدة تماما، فقد دندن حولها كثير من أساطين العلم وجهابذة الشريعة، لكن الجديد فيها هو جمع ما تفرق وتوليف بين ما تنافر، لذلك حاولت أن أختط لنفسي منهجا وسطا بين تاريخية الطبري، ومقاصدية ابن عاشور، وجمالية سيد قطب، وروحانية الشعراوي فلقيت نفسي مضطرا إلى أن أنتصر حينا لحجيّة المقاصد في تدابير شؤون الحياة وأقضية الوجود، وأجنج حينا آخر إلى روحانية المسالك النفسية والعلاقات الإجتماعية في منظومة القيم، وأميل أخرى إلى تاريخية الرسالة وجهادية الدعوة والبلاغ والبيان في مواكب الرسل (عليهم السلام) وما غادرت مسحات الجمال وآسار اللغة وسحر البيان في تناغم تسبيح الكون كله في بدائع الخلق وسلطان الملك.

إن ما هو مسْطور في هذه المحاولة الجريئة هو قراءة ثانية لما كان قد سيق إليه السابقون في محاولة للأخذ من كل نهج بطرف، ولكن اليقين الثابت فيه أنه تحاشى أربعة مزالق كانت مظنة للطعن ومطية للخوف والتوجس، وهي :
استبعاد الإسرائيليات كلها رغم ما في بعضها من نفع وجواز.
الإعراض عن الموضوع والمتروك والضعيف من الأحاديث.
الإكتفاء بالعموميات الفقهية وعدم الخوض في التفاصيل والخلافات.
النزوع تلقاء الراجح من أقوال المفسرين وطيّ الكشح عن المرجوح والمسكوت عنه من تهافت المتنطعين ومراء المتفرقين ولجاج المتكلمين.
إن هدفي من نشر هذه التجربة في صحيفة يومية، هو استفزاز عقول أهل العلم ليقدحوا زناد الفكر والنظر فيفيضوا علينا بما أفاد الله عليهم من يقينيات قاطعة وتجليات موصولة بالحق، لأن على مثل اليقين أن عتابا صادقا من بعض الناصحين ستنزّ به أقلامهم وتجود به أفهامهم، كما أن سيولا ناقدة وسيوفا حاقدة ستطال هذه الطريقة في إقراض هذا الفصل أو ذاك بما ليس مألوفا، وذلك سلوك يسعدني، ولن يكون عندي كأبغض الحلال، أبادر بالقول في هذه التقدمة : إن من ارتضى هذه المحاولة و فهم مقاصدها وأدرك مراميها، فليمسك النافع منها بمعروف: وليسرح ما غلب على ظنه ضرره بإحسان، أما من ارتآى أن يرده جملة بغير نظر فليقل للناس خيرا أو ليصمت
أملي الكبير -بعد الطمع في توفيق الله ومرضاته- هو أن تحظى هذه المحاولة بما هو من شرف الإهتمام بكلام الله والعناية به والذبّ عن حياضة، فلا مجاملة في الحق ولا تهاون مع ما هو أغلى ما في هذا الكون وأشرف وأكرمه، والتماسي إلى أهل الرواية والدراية أن يتابعوا ما ينشر بالرصد ويقوموه بالنقد ويرشدوا صاحبه بالنصح والتوجيه والتذكير والتقويم إلى ما هو أرشد، فالحق فوق كل أحد ولا يخاصمه إلاّ المبطلون، وسوف أكون أسعد خلق الله بقبول ما يصدر منكم وتلقي كل إشارة ورصد كل عبارة بقلب سليم وقلم قويم متمثلا مقالة الفاروق عمر (رضي الله عنه) : "رحم الله امرأ أهدى إليّ عيوبي".
وعلى الله قصد السبيل.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.