كونوا في منتهى التيقظ والاحتراس    العرباوي يشارك في قمّة المؤسسة الدولية للتنمية    خفض نسب الفائدة على القروض الاستثمارية.. ثمرة المشاورة الدائمة    الإذاعة الوطنية تربط جسور التواصل بين المواطن والسلطات    المشارك في المؤتمر 6 لرابطة"برلمانيون من أجل القدس": أعضاء وفد مجلس الأمة يلتقي إسماعيل هنية باسطنبول    اتفاق على استمرار وتوسيع التشاور مع باقي الفصائل الفلسطينية    الجزائر ..دور ريادي في ترقية وتعزيز الأمن الطاقوي    الرابطة المحترفة الأولى"موبيليس" (الجولة ال 24): تأجيل مباراة شباب قسنطينة- اتحاد الجزائر.. مولودية الجزائر بخطى ثابتة نحو اللقب، شبيبة الساورة تكتسح وادي سوف بدون تعب    يعيشون وضعية صعبة مع فرقهم: قبل توقف جوان.. 3 لاعبين يثيرون المخاوف في صفوف "الخضر"    الجزائر تصدّر 2.5 مليون قلم أنسولين إلى السعودية    مخلفة خسائر في الأرواح والمعدات في صفوف قوات الاحتلال: الجيش الشعبي الصحراوي يستهدف قواعد عسكرية مغربية    السلامة والصحة في الوسط المهني.. أولوية أولويات الجزائر    تحدّ آخر يرفعه الرئيس تبون.. وإنجاز تاريخي    مواجهة كل من يسيء للمرجعية الدينية ولثورة نوفمبر    انطلاق الاختبارات التطبيقية في شعبة الفنون.. لأوّل بكالوريا    قسنطينة: دخول "قريبا" فندق سيرتا العمومي حيز الخدمة بعد إعادة تهيئته    برج بوعريريج.. 152 مليار لتحسين واجهة عاصمة الولاية    الدورة الأولى للمشاورات السياسية بين البلدين مقرمان يترأس مع نظيره بالدوحة مضامين مذكرة التفاهم    بطولة إفريقيا لكرة الطائرة/ سيدات: فوز مشعل بجاية مام آسيك ميموزا الإيفواري    تعزيز القدرات والمهارات لفائدة منظومة الحج والعمرة    الحراك الطلابي العالمي الدّاعم للفلسطينيّين يصل إلى كندا وأوروبا    النخبة الوطنية تتألق في موعد القاهرة    وزير الموارد المائية والأمن المائي من سكيكدة: منح الضوء الأخضر لتدعيم وحدة الجزائرية للمياه بالموظفين    الترجي التونسي لدى الرجال يتوّج باللقب    مهرجان عنابة للفيلم المتوسطي: انطلاق ورشات تكوينية في مهن السينما لفائدة 70 شابا    "حكاية أثر" مفتوحة للسينمائيين الشباب    برج بوعريريج.. 7 مخازن عملاقة لإنجاح موسم الحصاد    سونلغاز تفتح أزيد من 550 منصب شغل بولايات الجنوب    العدوان الصهيوني على غزة: ارتفاع حصيلة الضحايا إلى 34 ألفا و454 شهيدا    البنك الإسلامي للتنمية: السيد فايد يشارك في الاجتماعات السنوية من 27 أبريل إلى 2 مايو بالرياض    انطلاق أشغال منتدى دافوس في الرياض بمشاركة عطاف    لحوم الإبل غنية بالألياف والمعادن والفيتامينات    داس عنابة يؤكد: مرافقة قوية لمسنين دار الصفصاف لإدماجهم اجتماعيا وتدعيمهم صحيا    الرئيس يكرّم قضاة متقاعدين    وزير التربية لجمهورية زامبيا يزور جامعة الجزائر 1    عطاف يجري بالرياض محادثات ثنائية مع نظيره السعودي    مهرجان عنابة للفيلم المتوسطي: طرح الصعوبات التي يواجهها المخرجون الفلسطينيون بسبب الاحتلال الصهيوني    بغالي: الإذاعة الجزائرية ترافق الشباب حاملي المشاريع والمؤسسات الناشئة من خلال ندواتها    الجزائر الجديدة.. إنجازات ضخمة ومشاريع كبرى    الصهاينة يتوحّشون في الضّفة    استئناف حجز التذاكر للحجاج المسافرين مع الديوان الوطني للحج والعمرة بالنسبة لمطار أدرار    إتصالات الجزائر ترفع سرعة تدفق الأنترنت إلى 1 جيغا لفائدة مشتركيها الى غاية 9 مايو المقبل    فلسطين : العدوان الإرهابي على قطاع غزة من أبشع الحروب التي عرفها التاريخ    نطق الشهادتين في أحد مساجد العاصمة: بسبب فلسطين.. مدرب مولودية الجزائر يعلن اعتناقه الإسلام    استئناف أشغال إنجاز 250 مسكن "عدل" بالرغاية    15 ماي آخر أجل لاستقبال الأفلام المرشحة    أكتب لأعيش    الاتحاد لن يتنازل عن سيادة الجزائر    لو عرفوه ما أساؤوا إليه..!؟    رياض محرز ينتقد التحكيم ويعترف بتراجع مستواه    شبان "المحاربين" يضيّعون اللقب    إنجاز جداريات تزيينية بوهران    تفكيك مجوعة إجرامية مختصة في السرقة    منظمة الصحة العالمية ترصد إفراطا في استخدام المضادات الحيوية بين مرضى "كوفيد-19"    حج 2024 : استئناف اليوم الجمعة عملية حجز التذاكر للحجاج المسافرين مع الديوان الوطني للحج والعمرة    أهمية العمل وإتقانه في الإسلام    مدرب مولودية الجزائر باتريس يسلم    دروس من قصة نبي الله أيوب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



السلطة غير مثقفة …. و لا يوجد مثقفون في الجزائر
نشر في الحوار يوم 18 - 07 - 2015


حاوره: رمضان نايلي
إعلامي، كاتب، ناقد، شّاعر ومفكر جزائري..شردته قصيدته الشّهيرة " أيّها الحزب ..تعدد أو تجدد أو تبدد " لعشرين سنة كاملة..يُقيم في لندن منذ سنة 1985..له إطلالة أسبوعية ثابتة يومي الأربعاء والجمعة على جريدة العرب الدوليّة بمقالاته النّقديّة والفكريّة.. والعديد من المؤلفات التي تجمع ما بين الأدب والفكر والترجمة ..أزراج عمر في هذا التّصريح ل " الحوار " :
ما هو جديدك الشعري وماذا يحكي؟
منذ رحيلي من الجزائر إلى بريطانيا أصبحت أكتب القليل من الشعر، ويعود هذا -ربما – إلى جدَة الحياة التي انخرطت فيها في هذا الفضاء الانجليزي الغربي بكل جوارحي، وهو فضاء يختلف كليا عن مسرح حياتي في الجزائر. أحيانا يحتاج الشاعر إلى قاموس جديد ومختلف وهو يبحر داخل الحياة الجديدة التي يجد نفسه يتحرك فيها ويحاول أن يفهمها وأن يقيم معها علاقة صحبة. في بريطانيا أدركت بوضوح أن الشعر مسألة شخصية مثله مثل الحب والعقيدة الروحية، ومن هنا رحت أتكأ على سجل ذاكرتي التي تبرز على نحو ساطع في القصائد التي كتبتها هناك، وأعني هنا الذاكرة التاريخية والوجدانية، وذاكرة الأمكنة، والناس، والطفولة، وجراحات انحرافات الاستقلال، وإخفاقات بلادي في أن تمضي بسلام إلى ضفاف التقدم والتطور. إلى جانب هذا البعد، فقد أضافت الغربة إلى موهبتي بعدا آخر وهو بعد حس التأمل، وتفلسف تعرجات الحياة والموت وغربة الإنسان في هذا الكون الذي يمثل لي لغزا محيرا فعلا. في بريطانيا اكتشفت حقيقة مدهشة ومؤلمة في آن واحد، وهي أن هذا العالم ليس دائما، وأن الحضارات ستزول يوما ما، وأن ما يسمى بالتاريخ ليس سوى حيلة اخترعها الإنسان لكي يتجاوز ويقهر الموت ولو على نحو رمزي فقط. نعم، أدركت بعد ذهابي إلى موسكو، وأثناء لقائي بعالم فلكي روسي هناك وأعلمني بحقيقة فيزيائية وهي أن الشمس ستنفجر يوما وأن الأرض سترحل بعد انطفاء جاذبية الشمس، وأن الحياة ستتلاشى فيها ولن يبقى شيء. أذكر أنني أحسست في تلك اللحظات أن الشاعر الحقيقي ينبغي أن يضطلع بدور "جلجامش" الاكادي البابلي الذي غامر بحثا عن عشبة الحياة لقهر الموت، والذي أدهشه أن " الحياة التي تنشد لن تجدها، حينما خلقت الآلهة البشرية قدَرت الموت على البشرية وضبطت الحياة بيدها".
لقد قادتني هذه التجربة إلى قراءة تاريخ الحضارات، وتاريخ النسل البشري، وتساءلت مرارا هكذا: أين ملايين البشر الذي عاشوا هنا وهناك على هذه الأرض؟ لماذا لا يوجد تاريخ لملايين الناس البسطاء الذي توارت أخبارهم ولا أحد يذكر شيئا عن وجودهم، وأصواتهم وتفاصيل حبهم، وحزنهم، وغنائهم، وكدحهم، وأسفارهم؟ ولماذا يختزل كل هؤلاء في تاريخ الملوك وأبطال الحروب، وما يشبه ذلك؟ لقد أدركت أن مهمة الشاعر هي أن يكتب التاريخ الكلي للإنسانية، وأن يبحث عن هذا التاريخ في تلك الأصوات التي لم يؤرخ لها فنيا أحد. في بريطانيا، أحسست بالوحشة الوجودية أكثر من الوحشة المتولدة من فراق الأهل والأصدقاء، أو من بعدي عن تلك الأمكنة التي اختلط فيها حلمي بأعشاب البراري، وبكلام الأنهار الذي كان يصب في منحدرات ضفاف لانهاية لها. لقد قادني كل هذا إلى فهم آخر لمعنى الحياة وصرت أفهم أن معنى الإنسان في هذا الكون يحدده ويشكله عمله الخيري، ومساعدته للآخرين على التحرر من الفقر الروحي أولا. هذه أول مرة أفشي فيها هذا السرَ، وهو أنني انخرطت بكثير من الدهشة والحرقة في التأملات البوذية لعدة سنوات دون أن أفقد انتمائي الروحي. لقد منحت لي البوذية القدرة على التحرر من مطالب الجسد، وجعلتني أدرك أن الحرية لا توجد خارج أنفسنا، بل هي تقيم في ذواتنا، كما فهمت أن الذين لم يتحرروا في ذواتهم سيبقون أسرى إلى الأبد. في هذه المرحلة قرأت الكثير من الفلسفة، وانغمست في دراسة علم الفلك، والأساطير، والقرآن والإنجيل بعهده القديم وعهده الجديد، واستمعت إلى موسيقى الجاز الحزينة الناطقة بتاريخ العبيد السود المرحلين من أوطانهم الافريقية إلى أصقاع الغرب، كما قرأت مختلف أطوار الشعر الانجليزي والفرنسي والألماني والروسي. ولقد ساعدتني الأسفار الكثيرة في أوروبا، وآسيا، والعالم العربي أن أقرأ كتاب " الطبيعة "، وهكذا صارت مهمتي أن أفهم الثقافات وأنتقم من جهلي الذي كان بمثابة القفص الذي كان لابد من كسر قضبانه. في هذا المناخ كتبت في في لندن ومدينة هيستنغز ، وأمكنة مختلفة من هذا العالم مجموعة شعرية بعنوان " الطريق إلى أثمليكش وقصائد أخرى " وطبعتها في بيروت / لبنان، ثم مجموعة أخرى بعنوان " ضيفك الآن خريف" وهي لم تطبع بعد. أرى أن المرحلة البريطانية قد فتحت لي مسارات كثيرة ، ولايزال هذا النبع يتدفق وستنهل منه موهبتي في المستقبل. عدت إلى الجزائر في عام 2007م لكي أفهم من جديد وبعين المغترب هذا الوطن و بعد ست سنوات من المرَارة والإحباط جراء ما آلت إليه الأمور في بلدي سيء الحظ، اغتنيت بتجربة جديدة وإن كانت مؤلمة ثم قررت أن أعود إلى الغربة لكي أحمي نفسي من التلوث الأخلاقي ومن الاحتباس الحضاري، ولكي أدافع بطريقتي الخاصة عن مستقبلي الشعري والفكري.

كيف تتعامل مع اللغة في كتاباتك الشعرية؟
لا توجد لغة جاهزة للشاعر تمنح لتجربته الشعرية خصوصية، ونكهة وهوية فريدة ومتفردة. شعريا، فإن اللغة ليست سلسلة من المفردات، وإنما هي الرؤية الخاصة للحياة، إنه بقدر ما يخترع الشاعر هذه الرؤية المختلفة، فإنه بذلك يملك لغته الخاصة وملامح مشروع حياة جديدة. أعتقد أن سجموند فرويد على حق في استنتاجه الذي استخلصه من تحليله للحلم وبنيته العميقة (والذي هو اللاوعي في آخر المطاف)، حيث قال بأن الحلم (باعتباره الطريق الملكي إلى فك أسرار اللاوعي) مؤسس دائما وأبدا على عنصري الاستعارة والكناية، وهكذا فإن الشاعر الذي يكتب حلمه الخاص به (والحلم هنا ليس مجرد حلم عادي وإنما هو حلم الحرية والتقدم والجمال، وحلم قهر الموت في الحياة، وفي التاريخ والحضارة)، فهو بذلك يكتب استعاراته وكناياته الخاصة به. في هذا السياق بالذات أريد أن أذكَر بالتمييز الذي اقترحه المحلل النفسي المصري الشهير مصطفى صفوان بين الاستعارة وبين الكناية، وبهذا الخصوص كتب ما يلي "إذا قلت: أبحر بدلا من السفينة، فإن هذا هو الاستعارة " ويضيف قائلا إنه " ليس هناك اتصال بين الدوال مهما كان الحال في الاستعارة" إلى جانب هذا يضيف صفوان، قائلا " فإن الاستعارة تولَد معنى جديدا"، أما عندما تعتمد الكناية فإنك تشرع فورا في نحت علاقات الاتصال أو كما قال صفوان " في الكناية تجد دائما بعض الاتصال". وبهذا الخصوص، يقدم الدكتور صفوان هذا المثال ليشرح ما يعنيه بالكناية هكذا" سأري لك الخوف في قبضة من الغبار، لأن الغبار مرتبط بالموت، وبالنتيجة فهو مرتبط بالخوف"، وهكذا فإن الشاعر يكني ولا يعني، ويسأل ولا يجيب، يلمح ولا يصرَح، ويرمز ولا يعيَن، ويسير في منطقة العدم والظن، ووراء الرغبة المستحيلة التي لا يمكن أن تخضع للمفهوم، ويشيح بوجهه عن أقفاص اليقين، وجراء كل هذا فإنه يبحث عن المفقود والفقدان. إنه بفعل هذا كله لا تصبح اللغة مرآة في القصيدة، بل تكون هي البصيرة التي تساعدنا على القبض على الأشياء والتي بواسطتها يزيح الستار عن ما تخبئه تضاريس الحياة. لاشك أننا دائما ورثة لغة ما سبقت ولادتنا وهي كامل السجل الرمزي. إن هذا السجل الرمزي السابق على ولادتنا هو قيد يقيدنا ويصوغ الهوية لنا كمعطى قبلي وهنا يمتحن الشاعر، حيث أنه ينبغي على الشاعر أن يخلق مسافة بينه وبين الموروث ويخترع لنفسه منطقة أخرى ومنظورا جديدا. وبدون ذلك، فإنه لن يفك الارتباط بشكل أو بآخر بهذا الموروث ويبقى أسيرا له الأمر الذي يؤدي به إلى السقوط في فخ تكرار هذا الموروث، وبذلك يفقد صوته الخاص. إنه بسبب فك الارتباط الذي أتحدث عنه يشعر الشاعر دائما بالمنفى والاقتلاع وأحيانا يقع في الارتباك ويحس ربما بعدم الانتماء. إنه بدون معايشة تجربة هذا النوع من المنفى، فلا يمكن اكتشاف الحرية ولا يمكن إنجاز عملية التحرر الإبداعي في الشعر وفي الحياة أيضا، هذا هو ما تعلمته في مهجري البريطاني على مدى أكثر من عشرين سنة، وهو ما أحاول أن أتعلمه مجددا، وعلى نحو مفتوح دائما. إن علاقة الشاعر باللغة وبالسجل الرمزي كله ينبغي أن تكون دائما علاقة نفي واغتراب ودهشة. لاشك أن هذا المنظور الجديد هو ما بدا يعلن عن نفسه في تجربتي الحياتية، وهذا ما أسعى أن أفعله في قصائدي التي أنتظر أن تأتي دائما من جهة المستقبل الغامض والمفاجئ. ربما بسبب هذا كله صرت بطيئا في كتابة الشعر، مثلما صرت أكثر بطأ في فهم الحياة التي لا ندرك بعض أسرارها، إلا حينما يقترب منا الموت الذي يغلق باب الاجتهاد دوننا. بهذا الخصوص، أعترف أنني تعلمت الكثير من فلسفة هيدغر ومن تنظيرات جوليا كريستيفا وجاك لاكان، وفي السنوات الأخيرة من آلان باديو وغيرهم، وصرت أدرك أن الشعر والتفكير جاران يقيمان في منزل واحد وأرض واحدة وفيه يتحاوران في ظل إحساس بالوجود وغرابته، وغربته لخصه الشاعر الألماني جورج تراكل في هذه الجملة " شيء غريب هو الروح على هذه الأرض".

لك تجربة طويلة في مجال الشعر، كيف ترى واقعه اليوم في الجزائر في ظل بروز أسماء شابة تكتب الشعر؟

-بصراحة، فأنا لم أطلع بقدر كاف على مجموع ما كتبه ويكتبه جيل الشباب والشابات، كما أنني مشغول بمشاريعي الشعرية والفكرية وليس لدي متسع من الوقت للانخراط في القراءة الجادة والاستيعاب الشامل، وفي العملية التحليلية النقدية لهذه الكتابات حتى الآن على الأقل، ثم فأنا لا أحب إطلاقا أن أكون وصيَا على أحد، لأنني أؤمن أن الزمان هو وحده الذي سيقيَم ما نشر من شعر من قبل، وطوال فترة غيابي عن الجزائر التي تقدر بعشرين سنة ونيف وما ينشر الآن في ظل غياب النقد الأدبي المؤسس فكريا في الجزائر، وفي ظل الفقر المدقع الذي يميز الاقسام الثقافية التي لا تسند إلى أهلها في الصحافة الوطنية.



ماذا يمثل لك الشعر في حياتك؟

الشعر بالنسبة لي هو فعل يعصمني من الموت في التاريخ.
كيف ترى صمت المثقف الجزائري إزاء ما يحدث في الجزائر من مشاكل وفي العالم العربي كذلك؟
-هل يوجد مثقفون في الجزائر؟ لا أعتقد في ذلك طبعا. هناك متعلمون وكتاب، وإعلاميون، وسياسيون بدون شك، ولكن لكي تكون مثقفا ينبغي أن تتجاوز مجال تخصصك وتخلع عنك الجبن، والطمع، والانتهازية، وأن تقيم مسافة بينك وبين الحكام. مرة قال لي صديقي الشاعر العظيم رسول حمزاتوف " إن الشاعر الحقيقي ينتقد النظام مهما كان حسنا. بهذا المعنى فإن مهمة، وليس مهنة، المثقف هي نقد المركب الكلي، أي مركب القيم والثقافة والفكر الذي "يلد" الطغيان، والاستبداد، وقمع الحريات والخيال الإبداعي. في اعتقادي فإن مايسمى، خطأ، بالمثقفين في الجزائر هم في الحقيقة مجرد ( متعلمين). إن شريحة كبيرة منهم، وهي تمثل الأغلبية، لا موقف لها ماعدا موالاة السلطة بكل محمولاتها الثقافية، والأخلاقية، والقيمية، والأخلاقية، وهناك نفر من المعارضين، فهم ليسوا بمقاومين، وهناك بطبيعة الحال وبقوة الأشياء، كما يقول الفرنسيون، فرق بين المعارضة وبين المقاومة. لا يوجد الآن مثقف جزائري له مشروع تحرر ذاتي وتحرير شامل للمجتمع سلوكا وفكرا. أنا أتحدث عن الوقت الراهن (أي الآن) فقط لأن للجزائر بعض المثقفين الذين حاولوا في الماضي الاضطلاع بالمقاومة الثقافية والفكرية والفنية وجلهم قد مات، وإذا بقي قليل من هذا الصنف على قيد الحياة فهم محبطون في الغالب، وهم أيضا خارج فضاءات التأثير المباشر والحاسم.

هل تعامل السلطة الجزائرية مع المثقفين جدّيا أم أنّها لا تعيرهم اهتماما إلا المثقف الذي يسبح في فلكها؟
-السلطة الجزائرية تتميز بأنها غير مثقفة ولا تملك مشروعا ثقافيا متحضرا على جميع الأصعدة (المعمار كهوية متطورة ذات خصوصية، والسياسة كفن وكحكمة وقيادة روحية، والتاريخ كقوة فكرية وعاطفية وقيم، ومثل عليا، والآداب، والفلسفة، والموسيقى، والسلوك البشري المثقف) وغير ذلك من العناصر التي تصنع البيئة الثقافية وهندسة الوجدان. على هذا الأساس أقول: إن فاقد الشيء لا يعطيه، وأعني أن السلطة غير المثقفة لن تقدَر المثقفين، ولا تبحث عنهم، ولا يهمها وجودهم من عدمه. إن الذين صنعوا الحضارات البشرية العملاقة هم المفكرون والفلاسفة والشعراء والأدباء والموسيقيون والمعماريون والفنانون بمختلف فصائلهم، والشخصيات الاجتماعية المسكونة بهاجس الحضارة ومقوماتها وقيمها والقيادات السياسية المفكرة التي تنشد العظمة. من الذي صنع روما الحضارية، هل هو مايكل أنجلو أم بيروقراطيو الثقافة الذين عينهم الملوك والأباطرة؟ من الذي يستطيع أن يذكر لي أسماء بيروقراطيي الثقافة في عصر هذا الفنان والنحات العظيم أو في عصر الشاعر الأسطورة دانتي الياجري الذي يعود الفضل لشعره العابر للتاريخ في صنع اللغة الايطالية؟. مرَة قال أحد السياسيين بأن البلد الذي ليس فيه شعراء كبار وفنانون كبار لن يكون فيه سياسيون كبار، وهكذا فإن المشكل الأول الذي "يخنقنا" في الجزائر هو غياب المفكرين وفصائل المثقفين المبدعين في مراكز صنع القرار والشأن العام، أما المشكل الثاني الذي " يجر التخلف إلى بيوتنا" أيضا فيتمثل في كون الذين ينعتون بالمثقفين في الجزائر خطأ لا دور لهم في المجال العام ولم يقدموا نموذجا يكون عنوانا وبوصلة للشعب. لاشك أن هناك عندنا من يكتب الرواية، والشعر، والقصة، وبعض الشذرات النقدية غير المؤسسة على الطاقة الفكرية والفلسفية والعلمية الحديثة والمتطورة والمبتكرة ذاتيا. نعم، هناك مغنون وموسيقيون وباحثون في مجالات العلوم الإنسانية ومعماريون أفراد يتحركون في بيئة أشبه بالصحراء القاحلة وينتجون " أي شئ " وبشكل منعزل وفي ظروف متعبة وقاسية، ولكن هؤلاء مبعثرون، ومشتتون، ولا يجمعهم جامع في صورة " متَحد معرفي وفني" أو "متَحدات معرفية وفنية متحاورة ومتكاملة في ظل التنوع والهدف الحضاري الوطني". نعم، يوجد في الجزائر خدمة السلطة يدعون بالمثقفين وهم ، ربما، أكثر ديكتاتورية وتوحشا ونرجسية وفقرا روحيا من السلطة التي يناشدونها ويأكلون على مائدتها باسم الثقافة والفن والفكر.

ما هو موقفك كمثقف جزائري مما يحدث في غزّة وفي مختلف البلدان العربية التي تعيش أزمات أمنية؟

-لهذا السؤال شقان، أما ما يحدث في غزة من حصار وتقتيل وتجويع فهو ظلم فادح وواقع يكشف أن عصرنا لايزال محكوما بالعنف والعدوان، وأن كل منجزات الحضارة لم تبن عالما إنسانيا خارج تقاليد ثقافة الغابة. لاشك أن إسرائيل هي كيان لا أخلاق له، أما العرب في المركز المشرقي ومواليهم في المناطق الطرفية فليسوا سوى مشاركين لها في تأبيد تقادم مأساة الشعب الفلسطيني، أما ما يحدث في البلدان العربية منذ ما يسمى بالربيع العربي فهو في تقديري ليس ثورة بأي مقياس يقبله العقل، وإنما يمكن أن يفسر على أساس مجموعة من العوامل والعناصر المتشابكة والمتبادلة التأثير وهي:1- أنَ ما يحدث هو بمثابة التعبير اليائس بثقافة التخلف ضد ثقافة التخلف نفسها، عن الفشل الذريع في بناء دولة المواطنة الحديثة والمتطورة والعادلة والديمقراطية في بلداننا، 2- النكوص السلبي واللاوعي إلى الماضي في شكل إحياء لتراث الصراع والاقتتال الطائفي والاثني، علما أن ما يحدث ليس سوى محاولة يائسة وبائسة للعودة إلى مرحلة ما قبل الدولة الحديثة ومفاهيمها وقيمها وأسسها،3- اتخاذ هذا النكوص شكل تعبير شعب يمزق إلى ملل ونحل متناقضة ومتضادة وترجم إلى انتفاضات عنيفة ضد الخيبات والأزمات المركبة وفي مقدمتها الأزمات الاجتماعية، وضد ديكتاتورية الأنظمة المتعاقبة على الحكم – منذ حصول الكثير من بلداننا على استقلالها الشكلي – في الجغرافيا التي تدعى بالشرق العربي أو التي تدعى بالمغرب الكبير في بناء الإنسان/ المواطن الحداثي والشروط السياسية الديمقراطية والمادية والعلمية والثقافية والنفسية والاجتماعية المتطورة التي تنطلق منها عمليات هذا البناء. ويلاحظ أن هذه الانتفاضات لم يتوفر لها سند التنظيم والقيادة الفكرية والسياسية. وفضلا عن ذلك، فقد تميزت هذه الانتفاضات في أغلبها بتورط أطراف من الذين حركوها في مشاريع ترمي إلى إنشاء كيانات أو لنقل تجمعات اثنية أو طائفية تطمع أن تحقق لنفسها شكل الدولة/ الاثنية الثقافية أو العرقية، أو الدولة/ الطائفة الدينية مع الاستعانة بالقوى الأجنبية الاستعمارية قديما، 4- عدم انطلاق هذه الانتفاضات من موقف ثوري وطني من أجل فكَ الارتباط بقشور النماذج التنموية المستوردة استيرادا أعمى; وفي صلبها نموذج الرأسمالية المتوحشة المفروضة على واقعنا الذي لم ينتج الرأسمالية فكرا، وتكنولوجيا، وثقافة، وبنيات سياسية واجتماعية، أو مشروعا فكريا وبنياته التنظيمية مضادا لهذا الوحش الذي هو بصدد افتراس ما تبقى من هوياتنا التاريخية. أعتقد أن الذي يحدث الآن وما سيحدث تباعا من تداعيات في الكثير من الدول المدعوة بالعربية أو المغاربية، من صراعات واقتتال بين ألوان طائفية وأخرى إثنية، وبين هذا الفصيل أو ذاك وبين الأنظمة الديكتاتورية العنيفة هو مخاض صعب وقاس جدا، خاصة وأن هذه الصراعات ومختلف أنماط الاقتتال هذه لم تعد محكومة بالداخل وتناقضاته فقط وإنما هي في قبضة القوى الخارجية التي لها برامجها الخاصة بها، وفي مقدمتها برنامج إدامة الصراع والاقتتال لإنهاء الوطنيات التي صنَعتها مرحلة التحرر الوطني ضد الاستعمار الأجنبي الكلاسيكي كخطوة أولى فقط.

لو أتيحت لك الفرصة لتقلد منصب حكومي رفيع هل تقبل به؟
-أهم منصب هو أن تكون إلى جانب شعبك ووطنك وأن لا تخونهما، وأن تخلص للإبداع والفكر وللنفس أيضا، أما المناصب الحكومية فينبغي أن تكون مهمة وطنية لمساعدة الناس على التقدم وليست مهنة سياسية مؤسسة على وازع الحكم التسلطي. كل الذي أتمناه حقيقة هو أن أستمر في الكتابة وأن أساهم في محو أثقال التخلف التي تقيد خطوات وطني.
*أيزعجك أن يقول بعض الكتاب الشباب أنّ الساحة الأدبية الجزائرية يحتكرها البعض من الأدباء؟
-أعتقد أنه لا يوجد شيء لكي يحتكر، فاتحاد الكتاب الجزائريين ميَت، والجمعيات الثقافية مصابة بعدوى إنفلونزا كرنفالات الأحزاب والتكتلات، والعلاقات الجهوية والشللية. ووزارة الثقافة مشغولة بتحويل الشعراء إلى مديرين، ومستشارين لا يستشرون إذا حضروا بقوة الجسد، ولا يسأل عنهم إذا تمادوا في الغياب، وإلى مكلفين بمهام استقبال الراقصات والمغنيات والممثلات الوافدات، وهي تمعن في احتراف مهنة التكريمات ودفن الكتاب بعد طبعه. في الحقيقة فإن ما تسميه ب " الساحة الأدبية الجزائرية " هي مجرد افتراض لفضاء لا وجود له، فالموجود هو الفراغ الذي حار في أمره حتى علماء الفيزياء الذين قالوا وكرروا القول بأن الطبيعة لا تعرف الفراغ ،ويبدو أن واقعنا المسكين قد أفلح في تكذيب هؤلاء العلماء ولو إلى حين.
*ماذا كنت تتمنى أن تكون لو لم تكن شاعرا وكاتب مقالات وناقد؟
-لقد تمنيت مرارا أن أكون راقصا مدهشا ومغنيا عذبا، وأسافر دائما من أرض لأخرى وبلا توقف حتى أتعرف على شعوب المعمورة وأصادق الناس في كل مكان، وأدعوهم إلى إقامة دولة عالمية منسجمة وموحدة بلا حدود.
هل حدثت لك قصة طريفة دائما في مجال الكتابة، أي خلال ندوات أو محاضرات أو شيئا من هذا القبيل؟
-مرة دعيت إلى ليبيا لإحياء أمسية شعرية فلبيت الدعوة و سافرت من لندن إلى طرابلس لهذا الغرض، وحينما حان وقت إلقاء الشعر توجهت إلى تلك القاعة المخصصة لي ولم أجد فيها أحدا ماعدا مرافقي الذي دعاني رسميا، والكراسي الكثيرة والميكرفون المثبت طوليا مثل الصفصافة. انتظرت طويلا ولم يأت الناس إلى القاعة أبدا، و بعد مدة رأيت شخصا لم ألتق به من قبل يناديني من بعيد باسمي واستغربت ذلك، ذهبت إليه ولما اقتربت منه قال لي " لا أحد سيأتي إلى هذا المكان لأن القذافي قد شنق في هذه القاعة بالذات عشرات الضحايا". وبمجرد أن انتهى من كلامه ودعني وذهب، أما أنا فقدت عدت إلى القاعة واسترسلت في قراءة قصائدي على مسامع أرواح أولئك الضحايا والدموع تسيل من قلبي وعيني.
*أترى أنه بإمكان القنوات الخاصة الناشطة اليوم تقديم الإضافة للمشهد الأدبي الجزائري وفي تشجيع الفاعلين فيه على البروز؟
-إنه يمكن لهذا أن يحدث لو أسندت مسؤولية الأقسام الثقافية للمثقفين والنقاد والمبدعين الناضجين و البارزين، ولو كلف نقاد ودارسون ومحللون متخصصون ومحترفون لفن الحوار الثقافي والفكري والفني لتقديم كل أجناس الإنتاج الأدبي والفكري المنشورة أوالمطبوعة في كتب ومناقشة أصحابه.
*من هو عمر أزراج وبما ذا يحلم؟
أولا ، فأنا لست عمر أزراج، وإنما " أزراج عمر ". إنه هكذا يعرفني القرَاء منذ أكثر من 40 سنة، وهكذا أريد أن أسمَى ولا ينبغي أن يغيَر أحد ما إسمي الفني الذي هو جزء من هويتي التي عرفت بها كأديب وشاعر وإعلامي وككائن اجتماعي في الجزائر وفي المشرق العربي وفي البلدان الأجنبية التي ترجمت فيها نصوصي. من هو أزراج عمر ؟ هو يساوي مواقفي وكتبي، وما أكتبه وأنشره، أما ما تبقى فهو مجرد تفاصيل وجزئيات. بماذا أحلم؟ بدلا من أن أحلم بشيء ما، فأنا آمل أن نوسَع فضاء الجزائر حضاريا وروحيا بما يعادل، على الأقل، مساحتها الشاسعة التي تتجاوز مساحة أوروبا الغربية كلها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.