تركت مكة وقلبي يتفطر، أقسم أنني لم أشبع من رؤية بيت الله العتيق، كانت أيامي بها مبرورة….تمنيت لو تعلقت بأستارها وقبلت مرارا حجرها الأسود …حجزني كثرة المحبين لها…وخوفي من أن يمس أذاي وليا لله… آه يا قلبي…كم هو جرحك غائر، زاد لهيب حبك..ونداء الروح يلحّ عليّ كي أعود مرة ومرات. كان نبينا صلى الله عليه وسلم يحن إلى مسقط رأسه مكةالمكرمة التي قضى فيها أيام الصبا والشباب، ….أتاه أحد الصحابة، كان قادماً من مكة، فسأله عن مكة، فردّ عليه الصحابي بقوله: تركتهم وقد حيدوا، وتركت الأذخر وقد أغدق، وتركت الثمام وقد خاض، فما كان منه صلى الله عليه وسلم إلا أن انهمرت الدموع من عينيه الكريمتين. قد كان من قبلنا محبون وكان مشتاقون وكان هائمون أحبوا بيت الله الحرام فجاوروها عبادا زهادا…حجوا وقدسوا….حجوا وزاروا المدينة …جاوروا عبادا وعاشروا ….زاروا القدس أولى القبليتن ومسرى نبينا الكريم ومنها معراجه إلى السماء….لها في القلب منزلة… يممت وجهتي إلى المدينةالمنورة طيبة الطيبة يسكنها الحبيب ويجاوره في البقيع جمع لا يشقى بهم جليس وهم خير أنيس. ولئن كانت زيارة المدينةالمنورة ليست جزء من أعمال الحج، فإن بها مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبها مسجده الذي قال فيه: لا تُشَدُّ الرحال إلا لثلاث: المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا. متفق عليه مشيت ومقصدي مدينة رسول الله بها خير الخلق وفي جنباتها تنزل الوحي وحب المدينة جزء من حب رسول الله صلى الله عليه وسلم، جزء من حب الإسلام ينمو في وجداننا كلما قرأنا السيرة ودرسنا تفاصيلها. عاينت المدينةالمنورة فانطلق لساني: اللهمَّ اجعل لي بها قراراً وارزقني فيها حلالاً طيباً, وصلت الفندق، عاينت الفندق والغرفة، توضأت، وأسرعت الخطى فشوقي يزداد، دخلت المسجد النبوي من باب السلام أو حيثما تيسر لي الدخول, صليت فرضا أقيمت له الصلاة أو صليت تحية مسجد الحبيب…وأسرعت لأسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى وزيريه وصاحبيه وصهريه أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما، ودعوت الله أن يمتعني بها وأن يلحقني ربي بالصالحين ويدخلني في عباده المؤمنين وصليت في الروضة ما تيسر دون أن أضيق أو ألحق أذى فالكل محب والروضة جاء فيها "مَا بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي، رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ. وَمِنْبَرِي عَلَى حَوْضِي" الموطأ. زرت مقبرة البقيع وفيها قبور الصحابة والصالحين وجبل أُحُدٌ وفيه: أُحُدٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ…وقعت فيه غزوة شهيرة وبه قبور الشهداء منهم أسد الله حمزة بن عبد المطلب ومصعب بن عُمير رضي الله عنهما….70 شهيدا من خير الصحب ومسجد قباء أول مسجد في الإسلام في المدينة أسس على التقوى من أول يوم ومسجد القبلتين المسجد الذي تحولت فيه القبلة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام. طابت أيامي بالمدينةالمنورة، ألفيت فيها الحنانا***وذقت فيها الأمانا، بلغت أسمى جوار ***لما دخلت المدينة هي مليئة بالذكريات العطرة، كل شبر فيها يحكي قصة، وكل موضع فيه ذكرى… المسجد النبوي… حجرات أمهات المؤمنين.. بيوت الصحابة…. السقيفة… البقيع، جبل أُحُد …، الخندق… مصلى الرسول… قباء…. مسجد القبلتين… سوق المدينة…. هنا وضع الرسول صلى الله عليه وسلم قدميه الشريفتين… هناك جلس… في الجهة الأخرى نام… غير بعيد جهز جيشا… في تلك الزاوية توضأ… في الزاوية الأخرى باع أو اشترى فيها الآبار التي كان يشرب منها رسول الله والطرقات التي كان يغدو ويروح فيها….وفيها وفيها والمدينة تاريخها يحكي الكثير وما زالت شواهدها بعضها قائم, من استطاع أن يزورها فلا يحرم نفسه بدعوى أنه لا يسن إلا زيارة المسجد النبوي الشريف ومقبرة البقيع وشهداء أحد ومسجد قباء ومسجد القبلتين. فأشد ما يؤلم أن تلغى مشاعرنا الجميلة بدعوى اتباع صحيح السنة وصحيح السيرة….يا هؤلاء لسنا في معرض الكلام عن الحلال والحرام … تأملوا قول الله: قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ…. قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ. وفي المدينة آثار قائمة إلى الآن منها محطة قطارالحجاز, ومسجد العنبرية أنشئا على يد السلطان عبد الحميد الثاني وبها مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف أكبر مطبعة في العالم لطباعة المصحف الشريف ومكتبة المسجد النبوي, وموقعة غزوة الأحزاب وحصن كعب بن الأشرف اليهودي من بني النضير, خرب يوم إجلاء بني النضير, بقي منه جدران ترتفع 4 متر وسمكها متر. عدت إلى بلدي والمفروض أن تكون المدينة قد طبعتني بأخلاق سيد المرسلين…بصدق الصديق….وتقوى الفاروق …وحياء ذي النورين …وعلم علي وشجاعته ونصرته للحق وجهود سائر الصحب وجميع التابعين والمؤمنين وصلاة ربي على من أقام صرح المدينة.