محمد مصطفى حابس: جنيف/ سويسرا الصراع بين القوى وُجِدَ منذ أن خلق الله الخلق، فمعركة الحق والباطل أزلية أبدية، شاءت حكمة الله سبحانه أن تكون ليمتحن عباده أولاً، وليمكنهم من دخول الجنة بانتصارهم على شهواتهم ثانياً.. هذه الصراعات ليست كما تبدو للبعض سطحية، إنما هي تستهدف أعمق ما في الإنسان، وهي أشد ضراوة وأقوى فتكاً، لأنها لا تستهدف الإنسان من حيث جسده المادي، بل هي تستهدف الإنسان من حيث عمقه وعطاؤه وقيمه ونماؤه، إنها الحرب القذرة، حرب الشائعات، والمستقرئ للتاريخ الإنساني يجد أن هذه الشائعات عاشت وتكاثرت في أحضان كل الحضارات، ومنذ فجر التاريخ والشائعة تمثل مصدر قلق في البناء الاجتماعي والانتماء الحضاري لكل الشعوب والبيئات، ثم جاء الإسلام واتخذ موقفاً حازماً من الشائعات، ومن أصحابها، ومن مروجيها، بسبب ما في نشرها وبثها بين الأفراد من آثار سلبية على تماسك المجتمع المسلم، وتلاحم أبنائه، وسلامة لحمته، والحفاظ على بيضته، بل لقد عدَّ الإسلام هذا سلوكاً مزوراً منافياً للأخلاق النبيلة والسجايا الكريمة، والمثل العليا التي جاءت بها وحثت عليها الشريعة الغراء، من الاجتماع والمحبة والمودة والإخاء والتعاون والتراحم والتعاطف والصفاء، وهل هذه الشائعات إلا نسف لتلك القيم ومعول هدم لهذه المثل؟ هذا الذي يروج له أعداء الإسلام والمسلمين- على تعبير الشيخ محمد راتب النابولسي- حفظه الله، بقوله إن الشائعات "ألغام معنوية وقنابل نفسية، بل وأيضا رصاصات طائشة تصيب أصحابها في مقتل، وتفعل في غرضها ما لا يفعله العدو"، وهذه كلها مركزة على شائعات "لبث الخوف والمرض وإثارة القلق، والرعب، وزرع بذور الفتنة، وإثارة البلبلة بين الناس"، ولاسيما في أوقات الأزمات والمحن، كما هو حال أمتنا اليوم، مع توفر أدوات وأبواق التواصل السريع للأخبار بأنواعها، الثقيلة كالقنوات التلفازية والجرائد، والخفيفة الفتاكة كالإعلام الإلكتروني بأنواعه وأشكاله وسمومه.
مأساة الروهينغا في عين وكالة الأنباء الفرنسية من ذلك قضية المجازر والاضطهاد التي يتعرض لها الروهينغا المسلمون في ميانمار هذه الأيام، إذ لاحظ مرصد تداول الإشاعات في شبكة "هيئة مكافحة الإشاعات" مؤخراً، إعادة نشر العديد من الصور والمقاطع الدموية الكاذبة المنسوبة لقضية بورما، والتي سبق أن نشرت بين عامي 2010 و2016 ونفاها المرصد عدة مرات، ولأهداف خاصة لبعض الدول المغرضة أعيد نشرها حالياً عبر "الواتساب" و"تويتر"، ومن جهات خارجية لهدف الإساءة والتشويش على الجرائم التي تتعرض بحق وحقيقة أقلية الروهينغا المسلمة في بورما، حيث تداولت أخيرا بعض المواقع صورا قديمة مكذوبة لشعوب أخرى منها البوذية لخلط الأوراق على أنها حديثة وخاصة بالأراكان، وصادف أن نقلها مفكر إسلامي معروف في أوروبا في موقعه الإلكتروني بالفرنسية دون تمحيص في نقله للخبر، لتجد وكالة الأنباء الفرنسية ضالتها الكبرى وفرصتها السانحة للتشنيع بشخص المفكر الإسلامي خصوصا والمسلمين في أوروبا عموما، بدل التركيز على عدالة قضية الروهينغا، والتطهير العرقي الذي يتعرضون له اليوم والعالم لا يكترث بل يغط في سباته العميق؟. من هذه الإشاعات أيضا ترويج أخبار تكاد تصبح قناعات أن عدداً كبيراً من الناس في الغرب في المدة الأخيرة، ابتعد عن الدين لما يروج عن الإسلام بأنه دين الإرهاب، ودين القتل، ودين التخلف، ودين التمزق، ودين الفقر، ودين البأس؟!. إشاعة نزول الفيلم الذي يسخر من النبي؟ من جهة أخرى، تناقلت وسائل التواصل الاجتماعي، بين المسلمين خاصة فرية تحت عنوان "خبر منذ ساعة .. عاجل وهام جداً"، يقول كاتبه: " استيقظوا يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم وقوموا جميعاً يدا في يد للتصدي للعنة هولندا وأوباشها بالدعاء عليها بالإهانة والخسران .. لقد جرى لهولندا ما جرى للنملة ذات الأجنحة.. مسبقاً لقد انهار اقتصادها وهوت وهي في طريقها إلى الإفلاس والمسلمين يعرفون من المفلس.. أكبر سلاح هو الدعاء"، مضيفا كذبا أو جهلا "لقد نزل الفيلم الإباحي عن النبي ( ص).. نعم الفيلم الذي يسخر من حبيبنا ونبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم .. حان الوقت للدعاء عليهم ومقاطعة المنتجات الهولندية بصدق وجدية .. أكثر من مليار مسلم يضرب الاقتصاد الهولندي .. "، خاتما إشاعته بقوله "أرسل الرسالة إلى أكبر عدد من المسلمين، أوإن لم ترسلها تكون خائنا للأمانة"، أو مثل ما يروج البعض لمثل هذه الدعايات، بقسمه قائلا:"بالله عليك أرسلها لعدد معين وأنت مأجور"؟.
"الغيبة والطعن في الحكام معصية لله تعالى وخراب للديار" ؟! أما نوع آخر من أصحاب الإشاعات فيكتفي بإرسال فتاوى مفبركة على أنها الحق المبين ومن خرج عنها فهو مخطئ خائن للبلاد والعباد، كصاحبنا الخليجي هذا الذي كتب تحت عنوان "الطعن في الحكام معصية لله تعالى وخراب للديار"، قائلا "إن من أسباب زوال نعمة الأمن والرخاء غيبة ولاة الأمر من الحكام والعلماء وتصديق الشائعات عنهم وعمل المظاهرات عليهم ومناصحتهم جهرا لا سرا، وهذا الفعل منهج مخالف للسنة المطهرة يهددنا في ديننا وأمننا، فيجب الانتباه لمن هذا منهجه، وإن ادعى الإصلاح وظاهره الصلاح؛ فإن من أعظم الفساد في الأرض الطعن في حكام المسلمين وعلمائهم الربانيين، لقصد زعزعة ثقة الرعية بهم فتشتعل فتنة لا ترحم أحدا، وهذا هو منهج رأس المنافقين اليهودي ابن سبأ عليه من الله ما يستحقه"!!. أي حكام تتكلم عنهم يا هذا، هل الحكام الذين زكاهم وأبقاهم الاستدمار الغربي في دولنا العربية، أم هم بيادق الشر في أيادي العدو الذي عن طريقهم يمتص أرزاقنا وينهب خيراتنا ويفقر شعوبنا، أم أراك تتكلم عن حكامنا الذين يبذرون خيرات الشعوب في كباريهات العدو وشعوبهم تموت فقرا وجوعا و مرضا؟، حكامنا الذين يبيعون ذممهم بثمن بخس، بل ويخونون العهود والمواثيق، بل وينكدون العيش على رعاياهم الذين استخلفهم الله عليهم؟.
إشاعة الفاحشة بين الناس بالظلم سلوك قذر لا لشيء إلا لأن السلوك القذر إشاعة للفاحشة بين الناس بالظلم والاحتقار والتهوين وترويج الأكاذيب عن ضمائر الأمة وصفوتها وخيرتها من علماء وأئمة، وبالتالي توهين عزائم المسلمين وتقوية أعدائهم، وإشعارهم أنه لا أمل لهم بالنصر الموعود، وأن الإسلام قد انتهى منذ قرون، وأن بريق حضارتهم قد أفل.. هذه عين الأفكار التي تروج هذه السنوات من بعض الأبواق، مبنية على سوء ظن بالمسلمين عموما، متناسين قول الله عز وجل: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ﴾- ( سورة الحجرات: 12)، و قول الرسول: (( إِيَّاكُم والظَّنَّ ، فإنَّ الظنَّ أكذبُ الحديثِ ))، ضاربين عرض الحائط أن مثل هذه الشائعات وهذه النماذج من الأخبار والتحاليل، لها أحياناً آثار سلبية على الرأي العام، وصناع القرار في العالم، وكم كانت سبباً في أن يصرف الأعداء عن مواجهة المسلمين إلى تفتيتهم من الداخل كما يقع اليوم في عالمنا الإسلامي..رغم كل ذلك، عزاء المسلم في كل حال قول الله عز وجل: ﴿ وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً ﴾- ( سورة آل عمران : 120)، ﴿ وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾. ( سورة آل عمران : 139 )و ﴿ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ، وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ * إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ ( سورة آل عمران :173-175). فلا يليق بالمسلمين أن يتخلوا عن ثوابتهم مهما كانت قوة الصدمة، ولا أن تهتز بعض قناعاتهم، أمام أعاصير الدعاية الكاذبة والإشاعات المغلوطة، والله ناصر عبده و لو بعد حين ﴿ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾.