الأئمة ينصحون ويدعون إلى التعاون والإقتداء بمن تصدّروا للإفتاء، وكيف تعاملوا معها، وعدم التسرع في الحكم بالمغالطة والانتصار للذات!. (السلف الصالح من كمال ورعهم وتقواهم لله تعالى، أنهم كانوا يتورعون عن إطلاق لفظ الحل أو الحرمة فيما يسألون عنه من المسائل، وإنما يستبدلون ذلك بألفاظ تفيد الترغيب أو التحذير، اعتقاداً منهم أن التحليل والتحريم حق لله تعالى وحده)!، وأنه ليس لكل واحد من الناس أن يفتي، ولو كان إماماً أو واعظاً أو خطيباً، ومن باب أولى نهي العامة وأنصاف المتعلمين عن إطلاق ألسنتهم بالتحليل والتحريم والجرأة على الفتيا!. فالحكم على رأي فقهي أو معلومةٍ ما بناءً على مصدره أو الشخص الذي عبّر عنه، هذه مغالطة لأنها لا تركز على منطقية الحجة بعينها وإنما تقوم بالتضليل وصرف الأنظار إلى الأحكام والتصورات المسبقة المحيطة بمصدر الحجة أو ناقلها. فما دار من نقاش حول عملية ذبح الدجاج بطريقة حديثة واستعمال التدويخ، كشف لنا المغالطة الكبيرة في انحراف التفكير واستعمال التشهير في الانتصار للرأي المرجوح بعيدا عن الحقيقة الشرعية، واستعماله كتجارة إعلامية ربحية، وإلا كيف نفسر التحريم والتحليل، وتشتيت الرأي الفقهي في المسألة الواحدة، والضرر الواقع بالمجتمع!. هذا الانحراف الخطير يصدر من قناة إعلامية معروفة وفي حصتها المعروفة!. علينا الحذر من هذه الفتاوى التي أخذت طابع السخرية والاستهزاء التي نسمعها في وسائل الإعلام المحلية لأنها تؤسس لفكر تطرفي ذاتي شخصي تجاري، تجاوز مهمة الإعلام ومن دون أدنى احترام لمشاعر العلماء والأئمة …ولكن نحن الأئمة ننصح وندعوا إلى التعاون وإلى الإقتداء بمن تصدوا للإفتاء وكيف تعاملوا معها، وعدم التسرع في الحكم بالمغالطة والانتصار للذات وللقناة. عن ابن عمر (أنه سئل عن شيء فقال: لا أدري، ثم قال: أتريدون أن تجعلوا ظهورنا جسوراً لكم في نار جهنم، أن تقولوا أفتانا ابن عمر بهذا). وعلى نهجهم سار التابعون وتابعوهم في التورع عن الفتيا مع ما هم عليه من العلم والفضل، فعن الشعبي أنه كان في نفر من تلاميذه، فسأله رجل عن مسألة فقال: (لا أحسنها)، وعندما ولّي الرجل قال تلاميذه: (قد استحيينا لك مما رأينا منك)، فقال: (لكن الملائكة المقربين لم تستح حين قالت: (لاَ عِلْمَ لَنَا اِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا)- [البقرة:32] »). إن من أشد الأمور خطورة، وأعظمها إثماً أن ينسب العبد إلى ربه ما لم يأذن به، وأن يتقوَّل عليه ما لم يحكم به، والمتدبر في كتاب ربنا سبحانه وتعالى يدرك مدى هذه الخطورة في تلك التوجيهات الإلهية في التحذير من هذا السلوك المشين، يقول تعالى: ( قُلْ اِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالاِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ) -[الأعراف:33]. ويقول جل شأنه: (وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ) – [النحل: 116]. ويقول عز جاهه: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَاذَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَاماً وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ) – [يونس:59] . وبالإضافة إلى كونه كذباً وافتراءً على الله، هو سبب لإضلال الناس وغوايتهم، كما بيّن ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إِنَّ اللَّهَ لا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنْ الْعِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤوسًا جُهَّالاً فَسُئِلُوا، فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا)- [أخرجه البخاري ومسلم] . وبذلك نعلم يقيناً أن التحليل والتحريم حق خالص لله تعالى ورسوله، وليس لأحد أن ينسب إلى الشريعة ما لم يأذنا به، وأن من فعل ذلك فإن الله سائله ومحاسبه عن ذلك، قال تعالى: (وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً) – [الإسراء:36] . وزيادة في ردع المتقولين والمتجرئين على الفتيا بغير علم توعدهم الشرع بعذاب النار يوم القيامة، فعن الزبير رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (مَنْ حَدَّثَ عَنِّي كَذِبًا، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ) – [أخرجه الدَّارمي]. كما بيّن النبي أن ذلك المتجرئ على الفتوى بغير علم إنما هو بفعله هذا يثقل ظهره بحمل أوزار الذي اتبعوه على فتواه، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ أُفْتِيَ بِغَيْرِ عِلْمٍ كَانَ إِثْمُهُ عَلَى مَنْ أَفْتَاهُ) -[أخرجه أبو داود. فليس أمر الفتيا بالهين واليسير، حتى كان الصحابة رضوان الله عليهم لخطورة أمره يتدافعون الفتوى كل واحد منهم يتمنى لو أن أخاه كفاه، ولقد كان نبي الله محمد صلى الله عليه وسلم، وهو صاحب الشريعة يُسأل عن أشياء لم ينزل فيها وحي، فينتظر الوحي ليعلمه بحكم الله فيها. وآيات «يسألونك» في كتاب الله غير قليلة وشاهدة على ذلك. وبذلك يرسم لنا المسلك الصحيح في هذا الأمر لنتبعه ونقتدي به، فسار الصحابة من بعده على هديه ومسلكه، فهذا أبو بكر يسأل عن شيء من تفسير القرآن لا يعلمه، فقال رضي الله عنه:« أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله ما لا أعلم »- [أخرجه البزار] . وصح عن ابن مسعود وابن عباس أنهما قالا: « من أفتى الناس في كل ما يسألونه عنه فهو مجنون …!". دخل رجل على الإمام رَبيعة شيخ مالك فوجده يبكي، فقال له: « ما يبكيك، أمصيبة دخلَتْ عليك؟، فقال: لا، ولكن استُفْتِيَ من لا علم له وظهر في الإسلام أمر عظيم، ولَبَعض من يفتي ههنا أحقُّ بالسجن من السُّرَّاق". المتأمل لحركة الفقه الإسلامي من الناحية العلمية وحركة الإفتاء، ثم يعقد مقارنة بين حال الماضين وعلومهم ومآثرهم ومصنفاتهم يجد البون الشاسع والفرق الواسع بينهم وبين من أتى بعدهم، فقد علا الأسلاف -رحمهم الله تعالى- بصون الشريعة وصون أنفسهم عن ابتذال العلم الشرعي والخوض فيما لا يحسنون، «وأجمعوا على أنه لا يحل لمن شدا شيئاً من العلم أن يفتي»، وقدموا أعظم برهان على فضلهم وورعهم، وأنهم لا يخوضون فيما لا علم لهم به ما فرح به المؤمنون، وسطَّره العلماء، واقتفى أثره المتفقهون. وإنه في هذه الأزمان ظهر المتجرؤون على الفتيا، والراكبون ظهور العاصفة، ظنوا العاصفة ترفعهم ونسوا أنها قاصفة تُردي!، فنفثوا الفتاوى، ونشروا الفوضى، وأظهروا كل عوراء وعرج من شاذ الفتاوى ومستنكر الأقوال. وليعلم المفتي عمن ينوب في فتواه، وليوقن أنه مسؤول غدا وموقوف بين يدي الله، وقد كان كثير من السلف الصالح إذا سئل عن مسألة لا يعلم حكمها قال للسائل: لا أدري، أو قال : الله أعلم، عملاً بما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، قال: سمع النبي قوماً يتمارون في القرآن، فقال: "إنما هلك من كان قبلكم بهذا، ضربوا كتاب الله بعضه ببعض، وإنما نزل كتاب الله يصدق بعضه بعضاً، ولا يكذب بعضه بعضاً، فما علمتم منه فقولوا، وما جهلتم منه فكِلوه إلى عالمه" – رواه أحمد (6741). فأما ما كان مع المفتى به دليل شرعي، فالواجب على المفتي الرجوع إليه، وإن لم ينشرح له صدره، وهذا كالرخصة الشرعية التي تنضبط بشروطها، كما هو في موضوع ذبح الدجاج وغيره بالطريقة الحديثة!.