هناك ثلاثة أصوات فاعلة في حياة النص الأدبي: الروائي، الناقد، والقارئ. بيد أن النقد الحداثي أحدث كثيرا من الثلمات في هذا الصرح، حينما قتل المؤلف وأحلّ محلّه القارئ، مانحا إياه سلطة التسلط على النص. وقد هلّل المبدعون لهذا الزعم، ورأوا فيه فوزا للنص، وتذليلا لعقبة كان يمثلها النقد، ثم عمد النقد الحداثي إلى الناقد وسفّه معاييره، واعتبرها من الآثار الرجعية، والسلط الأبوية التي لا تليق بالإبداع في اندفاعه نحو التجريب. عدّ كل حديث عن المعيار والقيمة من قبيل الانتكاسة التي يجب على الإبداع التنصل منها، إذا أراد أن تكون له الصدارة في إيجاد الجديد دوما.. فأحكام القارئ، مهما كانت قيمتها المعرفية، هي مجرد أحكام، ليس لها الشرعية التي كانت في يد الناقد، حينما يصدر حكمه.. ومن ثم غدا همّ الروائي إرضاء القارئ.. وهو لا يدري في أي يد سيقع نصه؟ ولا بأي معرفة سيدار الفهم في معانيه؟ وما قيمة الحكم الذي سينتهي إليه القارئ إن هو سجل رأيه. لمثل هذا الفهم نستأنس بردّ الروائي “محمد مفلاح” على سؤال “مصطفى تونسي عبد الله” قائلا: “عندما ينجز الأديب عمله الإبداعي يستعد مباشرة لمواجهة فترة جديدة كلها مخاوف وهواجس، وهنا تظهر مكانة القراء المؤثّرة بعد ميلاد النص الأدبي الذي أصبح ملكا للآخرين”.. هناك إذا فترة عامرة بالمخاوف والهواجس، سببها القراء وليس النقاد. فالقراء عادة يقبلون على النصوص قراءة، وليس المطلوب منهم أن يسجّلوا انطباعاتهم عليها.. من يفعل ذلك هم النقاد أصلا، لأنه يقع في واجبهم المتابعة، والتثمين، وإصدار الأحكام. هناك إذا نقل واضح للسلطة من جانب، وتمييعها في جمهور غير متجانس يسمى “القراء”. وتأتي المغالطة الحداثية من هذا الباب.. إذ كيف يتسنى للروائي أن يعرف ردود أفعال القراء؟ هل سيسألهم واحدا واحدا؟ هل يكتفي بعينة منهم؟ وما هو مستوى هذه العينة؟ وعلى أي أساس ستصدر أحكامها؟ إنها الأسئلة التي لم تجب عنها الحداثة، ومن ثم ورطت الروائيين فيها، حين بات اهتمامهم بالقراء يستدرجهم للنزول إلى رغباتهم المتقلبة، وأهوائهم المتحولة. فلو كان توجس الروائي من النقد لكان توجسا سليما، يستند إلى رأي شريحة متميزة، لها من الدراية والنزاهة ما يخوّلها تقييم وتقويم الأثر الأدبي. وكأن محمد مفلاح يدرك طبيعة ذلك المنزلق حين يستدرك قائلا: “أجل.. للقراء دور مؤثر في حياة الأديب، إذ يشعرونه بمسؤوليته كمبدع. يجب عليه أن يؤدي مهمته الإنسانية بوعي وجدية، لهذا يظل هو أيضا متشوقا لمعرفة رأي القراء الذين يعطون للنص نفسا جديدا”، فهو لا يقصد عامة القراء، وإنما أولئك الذين يقدّمون رأيا في الرواية. وحين تنحصر الدائرة في هذه الطبقة ندرك جيدا أن المعنيين بالأمر هم القراء المتخصصون، وتلك لعمري تسمية أخرى يتحاشى النقد الحداثي من خلالها تسمية النقاد باسمهم الحقيقي. فهم الذين يشعرون الروائي بمسؤوليته الإنسانية. وكأن الروائي لا يهمه أن يكون للقارئ العادي رأيا في عمله، سواء أدلى به أو كتبه عرضا في تعليق. ولكن الرأي الذي يؤسس عليه الروائي مقدار القيمة التي يتمتع بها عمله، هو الرأي الذي يأتيه مسنودا إلى مرجعية معرفية معتبرة، مدفوعا بتجربة عملية مؤكدة. إن الروائي لا يجتهد من أجل قراءة هذا أو ذاك، ممن يقبلون على نصه إقبال المصادفة. وإنما يطمح الروائي إلى ضرب من المتابعة التي تستغرق نشاطه في نصوصه كلها. لأنه لا يتحرّك مثل القارئ من رواية إلى أخرى، وإنما يتحرك ضمن مشروع خاص. هذا ما نلمسه في حديث “محمد مفلاح” ل”نوارة لحرش” حينما سألته: “هل الانتقال من تيمة إلى أخرى هو ما يبحث عنه الروائي عادة؟”، فأجاب: “للروائي الصادق هاجس مركزي واحد يظهر في مشروعه الأدبي كله، ولكن بتيمات متنوعة كنوتات القطعة الموسيقية. فالمشروع الأدبي هو كهذا العالم الفسيح الذي نعيشه، توجد فيه كل المواضيع التي يواجهها الإنسان منذ لحظة ميلاده إلى غاية مغادرته الحياة.” والملفت حقا في هذه الشهادة تصديرها بكلمة “الصادق” وهي كلمة قيمة، تجعلنا نعتقد أن “محمد مفلاح” يميز بين روائيين: صادق وغير صادق! فمن يكون الروائي الصادق؟ هو صاحب المشروع الذي يتنقّل بين التيمات المختلفة ضمن رؤية مؤسسة واحدة، قائمة على تصور واعتقاد راسخين. ومن ثم حينما ينوعّ بين التيمات إنما يخدم حقيقة واحدة، يؤمن بها ويسعى إلى إيصالها إلى الآخرين. وكل من تنقّل بين التيمات في غياب المشروع يعد روائيا غير صادق لا مع نفسه، ولا مع قرائه. لا يستطيع القارئ، كما يقدّمه النقد الحداثي، متابعة مشروع روائي إن هو اكتفى بالوصف.. وافقا عند عتبة: “كيف يقول النص فكرته”، ولم يكلّف نفسه الولوج إلى الفكرة في تفاعلها مع وسطها اللغوي والاجتماعي والإنساني.. وهو اهتمام لا يمكن أن نكلّف به القارئ، ولا أن نحمّله تبعاته، لأنه اهتمام مرهون بالناقد أساسا، في تتبعه لمشروع يقوم على التخطيط لا على التجريب.. لذلك نجد “محمد مفلاح” حينما تسأله الصحفية قائلة: “لقد قلت: أستهجن كل تجريب عبثي يلجأ إليه بعض الأدباء، لأنهم غير قادرين على كتابة الرواية بقواعدها وفنياتها المعروفة” يردّ قائلا: “التجريب أمر حتمي في كل الفنون والآداب، ولم أقل إنه يخلّ بالعمل، فنيًا وجماليًا، ولكن التجريب المطلوب، في نظري، هو الذي يُقْدِمُ عليه الروائي بعدما يكون قد تمكّن من أدوات فنه، أي أن يكون قد جرّب كتابة الرواية الكلاسيكية. أما من يدّعي التجريب، في أي فن من الفنون، وهو لا يتقن حتى القواعد الأساسية لهذا الفن فالنتيجة ستكون نوعًا من الكتابة العبثية. وكان سارتر واضحا في موقفه من الرواية الجديدة التي سماها ب”لا– رواية”. فالإضافة النوعية في شهادة “محمد مفلاح” تكمن في قوله: “تمكّن من أدوات فنه، أي أن يكون قد جرّب كتابة الرواية الكلاسيكية” وكأن أدوات الفن الروائي قد استكملت حقيقتها في الفن الكلاسيكي. وهو لا يقصد منه الرواية الكلاسيكية التي نعرفها، وإنما يعيّن الرواية القديمة بشتى أنواعها المعروفة، والتي تقوم في مقابل الرواية الجديدة. وهو التحديد الذي تتجاور فيه الرواية الرومانسية، مع الواقعية، والطبيعية، والسحرية العجائبية.. وكلها روايات قد سارت وفق أنساق فنية يميّزها الإطار العام للتوجه الغالب على الفن، والذي يشمل فلسفته ومعاييره الجمالية، ورؤيته للعالم. وحين يندرج الروائي ضمن هذا الإطار، يتأتّى له التجريب، ليضيف إلى الحصيلة الفنية جديدا يتميّز به هو عن غيره من الروائيين. لذلك يرفض “محمد مفلاح” المباشرة في التجريب، من غير أن يقوم ذلك على أرضية مرصوفة من قبل، ووسّم ذلك الادّعاء بالعبث..