في كل صيف، ومع ارتفاع درجات الحرارة إلى مستويات خانقة، قد تتجاوز أحيانا 45 درجة مئوية، يبرز إلى السطح جانب من الحياة، لا يسلط عليه الضوء كثيرا، رغم أنه يمثل عمادا حقيقيا من أعمدة المجتمع، إنه كفاح أصحاب المهن الشاقة، أولئك الذين يشتغلون تحت لهيب الشمس، في ظروف قاسية، من أجل لقمة العيش، في صمت ونكران للذات، ففي فصل الصيف، لا تكون حرارة الطقس في بعض المناطق، مجرد أرقام على نشرات الطقس، بل شعور خانق يهاجم الجسد، وفي منتصف النهار، تصبح الطرقات لاهبة، الهواء ثقيل، وقد يرى السراب، وتحت كل تلك الظروف القاسية، تتبخر الراحة، ويذوب الجهد كعرق على جبين العامل. الوقوف لبضع دقائق تحت تلك الظروف، وفي الشارع، كاف لإرهاق إنسان عادي، فكيف يمضي آخرون ساعات طويلة تحت أشعة شمس لا تعرف رحمة؟ فهي ليست حرارة عابرة، بل امتحان يومي للتحمل الجسدي والنفسي، لإنسان لم يختر مهنته الشاقة، ويتطلب منه صبرا لا يملكه الكثيرون، وقوة لا ترى، إلا بين أشخاص تعودوا على شقاء الحياة، وكأن أجسادهم تأقلمت مع تلك الظروف، فلا مجال للشكوى ولا للراحة، وإنما كفاح في صمت، وسط ظروف لا تراعي لا ضُعف الإنسان ولا تمنحه لحظة هدوء طيلة تلك الأشهر الحارة. العمل في عز القيظ.. حين ينزوي معظم الناس داخل بيوتهم، أو في أماكن مكيفة، هروبا من الحر، يخرج عامل البناء مبكرا، حاملا أدواته الثقيلة على كتفه، متجها نحو الورشة، هناك، في العراء وتحت أشعة الشمس الحارقة، يبدأ يومه الذي قد يمتد لثماني أو عشر ساعات، لا يشتكي، فقط يبلل رأسه بالماء كل ساعة، ويستمر في مشقته اليومية، إلى جانبه، نجد الحرفيين، وعمال الطرق والسائقين، والباعة المتجولين، وكل من يرتبط عمله بالشارع أو بالأماكن المفتوحة، يقاومون الحر والتعب والعرق، مدفوعين بالحاجة والإصرار لا خيار لهم. من أجل الرزق... لا رفاهية في الخيارات الكثير من هؤلاء العمال لا يملكون ترف اختيار التوقيت، أو المكان المناسب للعمل، فالدخل اليومي الذي يتقاضونه لا يكفي غالبا سوى لسد الرمق، ما يجعل التوقف عن العمل خلال الصيف، خيارا غير وارد أبدا، فعامل النظافة، يستيقظ قبل الفجر ليجوب الشوارع، ويجمع النفايات قبل أن تعج المدينة بالحركة، بعضهم يعمل في زي ثقيل، وسط روائح خانقة وحر قاتل، دون أن يلتفت إليهم أحد، أو يتوقف ليقول "شكرا". كما أن الكثير من الباعة المتجولين يفترشون الأرصفة، ويعرضون منتجاتهم تحت الشمس طيلة النهار، يتصببون عرقا، لكنهم يستمرون لأن لا خيار آخر لديهم، ورغم شدة هذه المهن، فإن الكثير من العاملين فيها يفتقدون إلى أدنى شروط الحماية أو الدعم، لا مظلات واقية، لا ماء بارد في المتناول، ولا حتى لباس مناسب يخفف من شدة الحرارة، والأسوأ من ذلك، أن بعضهم لا يملكون حتى تغطية صحية، أو تأمينا اجتماعيا، ما يجعلهم عرضة للأمراض والإرهاق المزمن دون دعم يذكر. درجات الحرارة المرتفعة خطر حقيقي حول هذا الموضوع، تحدثت "المساء" مع الدكتورة صافية مدريس، طبيبة عامة لدى مصلحة طب العمل بالجزائر العاصمة، والتي أكدت أن العمل تحت درجات حرارة مفرطة، لا يجب اعتباره أمرا عاديا، بل هو خطر صحي حقيقي، قد يؤدي إلى مضاعفات خطيرة، إن لم يؤخذ على محمل الجد، وأضافت أنه في عز الصيف، عندما تتجاوز درجات الحرارة 40 أو 45 درجة مئوية، يدخل الجسم في حالة إجهاد حراري شديد، فالعرق يتبخر بسرعة، ويبدأ الجسم بفقدان السوائل والأملاح، ما يؤدي إلى الدوار، تسارع ضربات القلب، ضعف التركيز، وفي بعض الحالات الإغماء أو حتى السكتة الحرارية. أوضحت الطبيبة أن أسوأ ما في الأمر، أن أغلب العمال الذين يشتغلون في البناء أو الطرقات أو النظافة، لا يحصلون على فترات راحة كافية، ولا يشربون كميات مناسبة من الماء، وبعضهم لا يرتدي اللباس الواقي المناسب، وهو ما يضاعف من احتمالية الإصابة بضربات الشمس أو الجفاف. وتنبه الطبيبة، إلى أن فئة العمال الموسميين أو غير المسجلين في الضمان الاجتماعي، هي الأكثر عرضة للخطر، لأنهم لا يملكون تغطية طبية، ولا يتلقون توجيها صحيا وقائيا من أي جهة مسؤولة. والأخطر من ذلك، تقول الدكتورة، أن معظمهم يشتغلون دون حماية اجتماعية أو صحية، لا ضمان اجتماعي، لا تأمين ضد الحوادث، ولا رعاية طبية منظمة، وعندما يصاب أحدهم بضربة شمس أو إرهاق شديد، يكتفى بقارورة ماء بارد، أو أقراص مسكنة من صيدلية الحي، ثم يعود في اليوم التالي، كأن شيئًا لم يكن، لهذا لابد من رفع وعي هؤلاء، لضمان حمايتهم وتحقيق ظروف عمل أكثر ملاءمة، دون خطر على صحتهم.