أكّد الأستاذ سليم سوهالي في حديثه إلى "المساء" ، أن أخطر ما يواجه الشعوب النامية في القرن الحادي والعشرين، لم يعد الغزو العسكري المباشر، بل ما يُعرف ب "حروب الوعي"، معتبرا إياها حروبا صامتة لا تحتل الأرض، بل تستعمر العقول، وتشوّه الهوية، وتزرع الانقسام داخل المجتمعات؛ حتى تنهار الدول من الداخل دون أن يطلَق فيها عيار ناري واحد. أشار الباحث والفنان سليم سوهالي، إلى أن هذه الحروب تُدار من مخابر فكرية وإعلامية خارجية، لا تصنع الأخبار الكاذبة فحسب، بل تُعيد تشكيل صورة الشعوب عن نفسها، وعن الآخر. وهي تموّل مراكز دراسات، وقنوات، وصفحات إلكترونية ومنظمات، تعمل وفق منطق استراتيجي يرمي إلى تقسيم المجتمع على أسس إثنية، أو دينية، أو لغوية، أو جغرافية، وكذا تأجيج النزاعات الطائفية، كما حدث بين السنّة والشيعة، أو بين التيارات الإسلامية المختلفة، علاوة على دعم تيارات إيديولوجية متطرفة؛ مثل القومية المتعصبة، والإسلام السياسي المؤدلج، أو الحركات الانفصالية العرقية. وأضاف سوهالي أن هذه الأطراف لا تتحرك بدوافع ثقافية أو إنسانية، بل وفق حسابات جيوسياسية، هدفها إضعاف الدول، وتحويل شعوبها إلى كيانات متنازعة، يسهل التحكم فيها، واستنزاف خيراتها. الذباب الإلكتروني... جيوش افتراضية تغزو العقول وأوضح سوهالي أن إحدى أخطر أدوات هذه الحرب هي ظاهرة الذباب الإلكتروني، التي هي عبارة عن جيوش رقمية منظمة من حسابات وهمية أو حقيقية، تضخ الخطابات المحرضة على الكراهية، وتنشر الإشاعات، وتزوّر الحقائق. وبضغطة زر تتحول قضية ثانوية إلى صراع هوياتي، أو يتم استهداف مكوّن مجتمعي بأكمله، فتتفجر المعارك الافتراضية، وتتحول، لاحقا، إلى احتقان واقعي. وشدّد سوهالي على أن هذه الحملات ليست عشوائية، بل تُشغَّل من قبل أجهزة مخابرات، تعرف جيدا كيف تستغل "الجهل المقدس" ، و"العاطفة المؤدلجة" ، و"الهوية الجريحة". أدلجة الهوية... من الانتماء الطبيعي إلى السلاح الإيديولوجي أضاف سوهالي أن أخطر ما في هذه الحرب هو أدلجة الهوية، أي تحويل الانتماءات الطبيعية – كالدين واللغة والعرق – إلى أدوات صراع، مشيرا الى وجود من يمجّد القومية المتعصبة على حساب المكونات المحلية، بالإضافة الى أن هناك من يطرح الإسلام السياسي بديلاً عن الانتماء الوطني. وهناك من يستثمر في الخصوصيات العرقية لتأجيج النزعات الانفصالية، مؤكدا أنها في جميع الحالات، تُشيطن الأطراف الأخرى، وتُصوَّر كأعداء وجوديين لا كشركاء في الوطن. شعوب ممزَّقة وسلطات مرتبكة أكّد سوهالي أن أخطر نتيجة لهذه السياسات هي تمزيق النسيج الاجتماعي للدول. المواطن يتحول إلى "عدو داخلي محتمل" . والدولة تنشغل بمطاردة أشباح الفتنة بدل الانصراف إلى قضايا السيادة والتنمية. وأشار إلى أن العراق وليبيا وسوريا والسودان، تمثل شواهد دامغة على ما يحدث عندما تُستثمر الانقسامات الداخلية ويُستهدف الوعي الجماعي: دول مفككة، وطاقات مهدورة، وحروب بلا منتصر. رؤية للتحصين لهذا يرى المتحدث أن مواجهة هذه الحروب الناعمة تتطلب استراتيجية طويلة المدى، تقوم على ثلاثية: "التوعية، والتحصين، والمساءلة"، عبر "إعلام وطني حر ومسؤول، يعيد الثقة بالمؤسسات، ويكشف التضليل". "تربية على المواطنة تُرسخ قيم الانتماء والاختلاف الإيجابي منذ المدرسة حتى الجامعة". "رقمنة وطنية بديلة عبر منصات ومنتجات إعلامية تنافس الذباب الإلكتروني بخطاب وحدوي وجذاب"، و"إحياء الذاكرة المشتركة من خلال إبراز النضالات الجامعة ورموز التعايش بعيدا عن التزوير والإقصاء". ويقترح سليم تفعيل القوانين والثقافة الجامعة من خلال سنّ تشريعات صارمة تجرّم الكراهية والتحريض الطائفي، وإصلاح المنظومة التعليمية والثقافية لتعزيز الهوية الجامعة المنفتحة، بالإضافة الى إنشاء مؤسسات لرصد المحتوى الرقمي، وكشف مصادر الفتنة، وكذا تمكين المثقف الوطني من لعب دوره التنويري بدل تهميشه لصالح أصوات سطحية. كما شدّد سوهالي على أن التحدي الأخطر أمام الدول الوطنية اليوم، ليس الفقر ولا الجوع، بل تفكيك الوعي، وتمزيق الهوية؛ فحين يُغتصب العقل يُسلب الوطن من داخله. والمواطن يُدفع إلى خوض صراعات لم يصنعها، واعتناق ولاءات وهمية لا تمتّ لمصالحه بصلة. فالمعركة الحقيقية ليست على النفط ولا على الحدود، بل على السيادة الفكرية للشعوب. وهي معركة وعي بامتياز؛ معركة التحرر من الوصاية، وبناء المناعة الفكرية، وحماية العقول من محارق التشتيت. ولعل الجزائر، كما أضاف سوهالي، مدعوة أكثر من غيرها، إلى صون هذا الوعي؛ باعتبارها أمانة تركها الشهداء من أجل الأجيال القادمة.