الفنون في مليانة قصة قديمة. فالملياني يعشق الفن الأندلسي، والمسرح. الأوّل أنار طريقة جمعيات مثل "الزيرية". والثاني أبرزته فرق هواة، أبرزها الفرقة المسرحية "محفوظ طواهري" . وهذا لا يعني اضمحلال الفنون الأخرى، إلا أنها أقلّ حضورا مثل الفن التشكيلي الذي حمل مشعله خريج المدرسة الوطنية للفنون الجميلة قبل أن تتحوّل إلى مدرسة عليا، الفنان سيد علي نجاعي. والفن الشعبي الذي يسجل علامات في المنطقة. وفنون أخرى تنتعش أحيانا، وتسكن أحيانا أخرى. الموسيقى.. أندلسي فشعبي فجاز أكّد الطبيب والفنان يوسف عزايزية ل"المساء"، مكانة الفن الأندلسي الكبيرة في المجتمع الملياني. والدليل التوافد الرهيب للجمهور على حفلات الجمعيات الأندلسية التي بقيت منها اثنتان فقط في مليانة، وهما فرقة "الزيرية" برئاسة المتحدّث، والتي تأسست في 16أفريل 1997. وفرقة "اليوسفية" ، في حين توقفت فرقتا "العناصر" و"البلابل" عن النشاط. جمعية "الزيرية" بدأت كمدرسة بثلاثة مستويات بعد استفادتها أولاً، من الكورال الذي أسّسه الفنان إبراهيم بن قريشي بمساعدة عزايزية. وشاركت في مهرجانات وطنية. وتحصّلت على المرتبة الأولى بقصر الثقافة في الجزائر العاصمة، وكذا بابن زيدون (سوليست رجال ونساء). ثم نظمت تظاهرتَي "الأيام الأندلسية بمليانة" ، و"ليالي مليانة"، لتتوقّف، حاليا، عن تنظيم الفعاليات الفنية لنقص بل انعدام الإمكانيات. وفي هذا قال عزايزية: "نظّمنا التظاهرات الخاصة بالفن الأندلسي في مليانة. استضفنا كل الفنانين الكبار في هذا النوع من الموسيقى في بيوتنا، وبيوت محبي الفن الأندلسي من المليانيين، مثل نور الدين سعودي رحمه الله. وفي طبعة استضفنا الشيخ فرقاني وعائلته. وقال إنّه سعيد بزيارة مليانة، المدينة التي غنت عنها زوجته". وهكذا لم يمنع غياب الفنادق (بناء فندق خاص مؤخرا) ولا حتى قاعة للتدريب، من تنظيم "الزيرية" فعاليات فنية، وتسجيل ثلاث أسطوانات، وإصدار كتيّب عنها. إلاّ أنّ الأمر ازداد صعوبة بعد عملية الترميم المتواصلة لدار الشباب التي تحتضن كل مقرات الجمعيات، والتي دفعت بالزيرية إلى التدريب في بيت الفنانة المصورة مفيدة جزار بمليانة. أيضا توجد قاعة المسرح البلدي، إلاّ أنّها لا تستقطب أكثر من 200 مقعد، ليتم تنظيم عدّة طبعات من الأيام والليالي بثانوية "محمد عبده". كما أكّد يوسف عزايزية ل"المساء" الحبّ الشديد للجمهور الملياني للفن الأندلسي، إضافة إلى كونه ذوّاقا، ومتطلبا، لينتقل في حديثه إلى حضور الفن الشعبي في المدينة، علما أنه من مؤديه. وسبق له تسجيل ثلاث أسطوانات تضم مجموعة من الأغاني، من بينها الأغنية التي اشتهر بها كثيرا، والتي لحنها، بينما كتب كلماتها الأستاذ أحمد بن رباح بعنوان "مليانة بلادي نبغيك" . وفي هذا قال: "الفن الشعبي، أيضا، حاضر في مليانة. أذكر أسماء الفنانين القدامى مثل لخضر بوعداين، وجزار عبد الرزاق، وشرشال محمد، ثم جيل ثان من بينهم جيلالي بوعداين، وسايح سيد أحمد، وكوحيل بن يوسف وغيرهم". ودعا الفنان إلى تخصيص مقر ل"الزيرية" التي سبق لها أن شرّفت الوطن من خلال مشاركتها في تظاهرة "مسقط عاصمة الثقافة العربية (2006)" ، وفي العديد من المحافل الوطنية، بالإضافة إلى نجاح كلّ أبنائها في الدراسة، وحتى إنقاذ بعضهم من الضياع بفعل المشاكل النفسية والعائلية التي كانوا يتخبطون فيها. "دردشة عائلية".. إعادة الاعتبار للفنانين المليانيّين لم يتمكّن عازف الجاز محمد رفيق بوغالية واسمه الفني محمد رفيق يانيس من الوقوف مكتوف اليدين أمام معاناة الفنانين المليانيين من عزلة، فأنشأ برنامجا على الفايسبوك أسماه "دردشة عائلية" ، يستضيف فيه ليس الفنانين فقط بل كلّ من يملك موهبة؛ حتى يقرّبه من الجمهور، وربما يعرّفه عليه أيضا. بوغالية الذي اشتغل قائد المجموعة الوطنية لتدريب الفرق النحاسية والتشريفات، وحاليا هو مدير مركزي للتشريفات في الاتحاد الوطني لأرباب العمل والمقاولين بزرالدة، قال ل"المساء" نظرا لغياب الإعلام عن مدينة مليانة، أنشأ استوديو في منزله، يستضيف فيه كلّ من يملك موهبة. ويقوم في البداية بإنجاز ربورتاج عن الضيف. ثم يقدّمه للجمهور، ويترك له فرصة الحديث عن نفسه على المباشر، والإجابة على أسئلة المتابعين، مضيفا أنّ سكان مليانة ليس لهم مرافق ترفيه عديدة، خاصة في فصل الشتاء البارد، ولهذا عمل الفنان على فتح هذا الفضاء المجهَّز بالوسائل اللازمة، للفنانين والموهوبين من شتى المجالات؛ مثلا الفن، وتجويد القرآن، وتنظيم التظاهرات؛ على سبيل المثال تظاهرة "المربى" حتى إنه استضاف السيدة رزقي المختصة في الطبخ. وتابع هذه الحلقة أكثر من 7 آلاف مشاهد. وذكر محدّث "المساء" أنّه استدعى إلى هذه الساعة 75 فنانا، في انتظار أن يعيد برنامجه إلى الواجهة بطلب من المتابعين الذين يستأنسون به، لينتقل في حديثه إلى مغامرته في استيراد الآلات الموسيقية ذات الجودة العالية، والتي تمكن العازف من تطوير فنه، وكذا عزفه على آلة الجاز منذ صغره، وعلى آلات موسيقية أخرى. وفي هذا قال: "إذا لم يسرح مستمع الجاز بذهنه بعيدا، فهذا يعني أنّ عازف الجاز لم يؤد فنه كما يجب". وأكّد الفنان ضرورة حصول مليانة على الدعم حتى تصبح مدينة سياحية. وأضاف المسؤول الوطني الأسبق للفرقة النحاسية الكشفية، أنّ الفنانين كثر في مليانة، ومن مختلف الفنون، ليقرّر دعمهم على طريقته الخاصة من خلال برنامج نظيف يُعرض على فايسبوك. كما يحثّ الفنانين على مواصلة مسيرتهم الفنية رغم كلّ العراقيل التي يتعرّضون لها وتأثير وسائل التواصل الاجتماعي، التي تحاسب كلّ هفوة، وترفع، أحيانا، "الصغير" ، وتهمّش "الكبير" !. المسرح قائم منذ الفترة الاستعمارية يُعدّ المسرح فنا أصيلا في مليانة؛ فقد برز منذ الفترة الاستعمارية. وفي هذا أكّد الفنان رضا تخريست رئيس جمعية "محفوظ طواهري" أنّ الفن الرابع متجذّر في المواطن الملياني منذ زمن طويل، لكنّه عرف ركودا بعد فقدان مليانة الفنان الممثل محفوظ طواهري الذي توفي في حريق جبل زكار رفقة 23 شابا، ليعود إلى الواجهة إثر تأسيس الفنان محمد شرشال جمعية "محفوظ طواهري" عام 1990. أما ثاني رئيس للجمعية فكان مصطفى خليفة رحمه الله. والثالث سمير بومعاد رحمه الله، ليصبح تخريست رئيسا للجمعية ابتداء من عام 2019. وتابع المتحدّث أنّ الجمعية استفادت أكثر من مرة من دعم وزارة الثقافة لإنجاز مسرحيات. وفي الأعوام الأخرى تنجز مسرحيات مما تبقّى من الدعم، مثل ما حدث مع مسرحية "هنا ولهيه" التي تمّ إعدادها ببقية الدعم الذي تحصّلت عليه الجمعية حول مسرحية للأطفال، والتي تم عرضها بمهرجان في الأردن. أما عن فضاء العرض فيتم ذلك في المسرح البلدي "محفوظ طواهري" ، على أن تكون التدريبات بدار الشباب "محمد بوراس"، في حين أنجزت الجمعية عدّة مسرحيات. والبداية كانت بمسرحية "بيت النار" . كما تحصّلت على عدّة جوائز خاصة خلال مشاركتها في مهرجان مسرح الهواة بمستغانم، إضافة الى جوائز دولية، لتقوم الجمعية بتنظيم تظاهرة "الأيام المسرحية لمدينة مليانة" في فترة العشرية السوداء، ومع ذلك جلبت الفعالية جمهورا كبيرا، وضيوفا من مختلف مناطق الوطن. وأضاف تخريست أنّ الحركة المسرحية توسّعت، فأصبح هناك أربع جمعيات في مليانة، قائلا: "حبّذا لو تُعرض المسرحيات التي تقدَّم بالمسرح الجهوي لخميس مليانة، في مليانة، ليستفيد منها الجمهور الملياني العاشق للفن الرابع، ولأن الفرق المسرحية التي تأتي من مختلف ربوع الوطن، تحبّ عرض أعمالها بمليانة، في انتظار، ربما، ترميم المسرح البلدي حتى يصبح قاعة عرض بأتم معنى الكلمة". وعاد المسرحي في حديثه مع "المساء" ، إلى الدور التربوي للمسرح؛ فقد كانت الجمعية تعرض كلّ جمعة مسرحية للأطفال. وكان الآباء يأتون إلى القاعة ويتركون أولادهم إلى حين ينتهون من شراء حاجياتهم، ليصبح العديد من هؤلاء الأطفال ممثلين في الجمعية بعد أن كبروا، مشيرا إلى أنّ الجمعية تنشط منذ عام 1990، وأن مواصلة تقديم العروض طيلة 35 سنة، ليس سهلا؛ فالكثير من الجمعيات توقّفت عن العمل نهائيا. وبالمقابل، ذكر الكاتب والأستاذ الجامعي أحمد بن رابح ل"المساء" ، أنّ الفن الرابع في مليانة مرّ بمرحلتين؛ الأولى ما قبل الاستقلال. والثانية ما بعده. ففي الأولى كانت العروض تقدَّم في ثانويتين وقاعتين هما "سبلونديد " و " فاريتي" ، وفي ثكنة عسكرية أيضا في عين المكان. وكان مصطفى كاتب يعرض المسرحيات في مليانة، خاصة في الثكنة التي كانت تضم عددا كبيرا من الجزائريين المجنّدين قسرا، وكانت تضم ما بين 5 آلاف و7 آلاف جندي. وتابع أنّ العروض كانت تقام على مستوى الكشافة التي تم تأسيسها في مليانة على يدي محمد بوراس. وكان يديرها بوزار حمدان. وكانت تساهم في التربية الوطنية. كما كانت مليانة بعد الاستقلال تستقبل الفنانين من كل ربوع الوطن بمناسبة عيد الكرز؛ مثل العنقا وقروابي ونورة والمفتش طاهر وبوبقرة، وغيرهم الذين وجدوا في المليانيين جمهورا ذوّاقا للفن، علاوة على النشاطات التي كانت تنظَّم من طرف شبيبة جبهة التحرير الوطني، لتتوالى العروض، وهذه المرة على مستوى جمعية "محفوظ طواهري" مثل مسرحيات "بيت النار" التي فازت بجوائز وطنية ودولية، ومسرحية "الإلهة غاضبة" ، ومسرحية "جذور" ، ومسرحيات أخرى مثل مسرحية "الملك يتماوت" التي ترجمها المتحدث، وأخرى كتبها بعنوان "ليل الليل" . وقد نالت هذه المسرحيات جوائز عديدة. وأشار بن رابح إلى التظاهرة المسرحية التي نظّمتها جمعية "محفوظ طواهري" في التسعينات، والتي استقطبت فرقا من مختلف الولايات. وتم خلالها استقبال فنانين ونقاد وصحفيين مثل بوزيان بن عاشور، وكذا العرض الأخير لصراط بومدين على أرض مليانة قبل وفاته. بن رابح تحدّث، أيضا، عن كتابته أغنية "مليانة بلادي نبغيك" التي أداها يوسف عزايزية، وكان ذلك عام 1997. والأغنية حققت نجاحا كبيرا، مايزال أبناء مليانة يردّدونها الى اللحظة. الرسم باق رغم غياب رواق للرسم أيضا مكانته في مليانة وإن كان ليس بدرجة الفن الأندلسي والفن المسرحي. لكنّ هناك رسّامين عصاميين بمليانة، يقدّمون أعمالا راقية. وآخرون رحلوا عن الحياة مثل الفنان وعالم الآثار جمال تواتي، والفنان جزار عبد الرزاق، والفنان قوديل لطفي وسطمبولي أحمد، الذين تركوا بصمات لا تُمحى. وفي هذا السياق، قال الفنان الرسام والبيداغوجي محمد قوادري ل"المساء" ، إنّ الحديث عن واقع فن الرسم في مليانة حديث شائك؛ فلا توجد قاعات العرض ولا فضاءات يلتقي فيها الفنانون للمناقشة؛ فكلّ فنان يعمل في بيته. والثقافة في مليانة تصرخ: "كنت في حال أفضل في السابق؛ فما الذي حدث لي؟". وتأسّف قوادري عن واقع الثقافة في مليانة، الذي كان في زمن ماض، ثريا للغاية. واعتقد أنّ الأمر لا يمسّ مليانة فحسب، بل البلد بأكمله نتيجة تغيّر المجتمع، وتراجع التكوين الثقافي في المدارس، الذي انحسر في موضوع واحد؛ " البهلوان". وقال المكوّن في مجالي السيراميك والتصميم، إنّ التكوين لم يعد على أصوله، وأنّ الفردانية أصبحت الطاغية في المجتمع ليس في الثقافة فحسب، بل في كلّ فروع الحياة، كما أصبح الاهتمام منصبا على كسب المزيد من المال قبل إتقان العمل الفني، بالإضافة الى القطيعة التي حدثت بين الأجيال. وتذكّر المتحدث بحسرة قريبه الفنان جمال توات، الذي كان يرسم في حديقة مليانة قبل أن يقبل عليها الزوّار، ولم يكن يمنعه ذلك لا مطر ولا برد ولا حر، ليطالب الشباب بالتكوين؛ فالموهبة وحدها لا تكفي، وليس من يرسم خربشة يقول إنّه فنان، أو من يقوم بعملية اللصق والنسخ. وأعاب المتحدث غياب الفكر الجماعي في إنجاز المشاريع بصفة عامة، وكذا الفراغ الذي تركه الفنانون القدامى، وقلة وعي الجمهور، الذي يفضّل أن يشتري لوحة من البلاستيك عن لوحة أصلية. كما إنّ الطفل الجزائري حينما يتعلّم المنطق والملاحظات الدقيقة، يرفض الركاكة حينما يكبر. ودعا الفنان إلى فتح أروقة وقاعات للعرض بمليانة التي تضمّ فنانين وحرفيين كثرا. كما تحدّث عن الفنان الملياني الوحيد الذي درس الفنون الجميلة، سيد علي نجاعي، الذي التقته "المساء". وبالمناسبة، عاد الفنان التشكيلي سيد علي نجاعي في حديثه مع "المساء" ، إلى مسيرته الفنية التي انطلقت من المدرسة الوطنية للفنون الجميلة التي تخرّج منها عام 1976، قبل أن يعود إليها حينما تحوّلت إلى مدرسة عليا مباشرة دون مسابقة؛ لأنّه تخرج الأوّل على دفعته، ومن ثم غادرها بعد عام؛ لأنه لم يعد عازبا، وأمامه مسؤوليات. نجاعي تحدّث مع "المساء" عن مساره في المؤسّسات التي التحق بها في مختلف الفروع التي لها علاقة بالرسم ومشتقاته، فاشتغل، مثلا، في المركز البيداغوجي الوطني للتربية، وتحديدا بوضع رسومات الكتب، ثم في مكاتب مختلفة، ليعود إلى العمل بعد تجنيده. ويعمل في مشاريع جزائرية مع الألمان والفرنسيين والإيطاليين واليابانيين، ثم عاد إلى المدرسة العليا للفنون الجميلة، ليغادرها نحو مليانة؛ حيث عمل في معهد تكوين، ليعيد الكرة. واشتغل هذه المرة في وهران مع الصينيين، ثم عاد مجدّدا إلى مليانة، وفتح شركة صغيرة للبناء. بعدها انفرد الفنان بالرسم. وشارك في المعارض الوطنية حينما كانت وزارة الثقافة تهتم بالفنان الرسام، وتدفع له تكاليف الإقامة والطعام، وتقدّم له منحة المشاركة. لكن الأمر تغيّر، وأصبح الفنان التشكيلي نجاعي يرسم أحيانا تحت الطلب وهو المختص في الرسم والنحت والسيراميك، والباهر في تقنية ثلاثية الأبعاد. وبالمناسبة، طالب سيد علي نجاعي بفتح أروقة بمليانة وأقسام للتكوين، وهو مستعد لتقديم خبراته للشباب، لكن إلى حدّ الساعة قدّم أكثر من طلب للتدريس دون رد.