في حواره مع "المساء"، قدّم الكاتب يوغرطة عبو قراءة صريحة لمساره الإبداعي وتحوّلاته بين الشعر والرواية والدراسة، مبرزا تقاطع تجربته الأدبية مع اهتماماته العلمية في علم النفس الاجتماعي، ومعايشته اليومية لتحوّلات المجتمع. كما أكّد أنّ ما يقدّمه من أعمال هو انعكاس لأسئلة المرحلة، ولتجارب شخصية ووطنية، تشكّلت في سياقات تاريخية مختلفة من أحداث 2019 إلى زمن الجائحة، وصولا إلى انشغاله بالذاكرة الوطنية، وقضايا الشباب والمرأة. ❊ تنتقل بسهولة من نوع أدبي لآخر. ما الذي يحدّد، بالنسبة لك، ما إذا كانت الفكرة ستتحوّل إلى قصيدة، رواية، أو دراسة؟ ❊ لا يمكن الكاتبَ أن يعيش على هامش المجتمع الذي ينتمي إليه؛ إذ يلاحظ يوميا ما يجري داخل المجتمع من تفاعلات، الإيجابية منها والسلبية. فالكاتب، إذن، يشخّص ما يشاهده، ثم يحوّل ذلك التشخيص إلى منتوج أدبي. ملاحظتي لكلّ ما حدث سنة 2019 دفعتني إلى كتابة وتأليف الشعر قبل أن أكتب نصوصا سياسة واجتماعية في ظلّ جائحة كورونا، حيث توّلدت لديّ تساؤلات عديدة. ثم إنّ مجموع التجارب التي مررت بها أخذتني نحو مجال الرواية؛ حيث أصدرت سنة 2022 "الآلام المجتمعة". وأرى أنّ الدافع نحو اختيار نوع الأدب، يعود إلى الظرف المعيش. أستذكر الكاتبة أحلام مستغانمي التي قالت: "حينما نغادر حبا نكتب شعرا، لكن حينما نغادر وطنا نكتب رواية". وبالمقابل، جمعت بعض القصائد التي كتبتها إبان الأحداث التي عاشها الشعب الفلسطيني، وقد نوَيت نشرها خلال الصالون الدولي الأخير، لكن الظروف حالت دون ذلك. ❊ في "ما يقوله الأموات" تعبّر عن حياة جزائريين دُفنوا معا. لماذا اخترت العالم الآخر لسرد قصة الجزائر وتناقضاتها؟ ❊❊ أردت من خلال "ما يقوله الأموات" سرد تاريخ الجزائر عبر محطاته المختلفة، مع ذكر التناقضات، والإنجازات والإخفاقات التي تخلّلت كلّ مرحلة. إنّها ليست رواية تاريخية بقدر ما تكون رواية تتكلّم عن التاريخ بطريقة تمزج بين الحقيقة والخيال، وبين التراجيديا والفكاهة. شخصيات الرواية تنتمي إلى أجيال وشرائح اجتماعية مختلفة؛ فإذا نظرنا إليها نظرة شاملة، فتمثل كل حقبات تاريخ الجزائر انطلاقا من حرب التحرير مرورا بالعشرية السواء، وغيرها من المحطات. فعلى سبيل المثال، الدا سماعيل الذي عانى الويلات في سجون الاستعمار قبل أن يتم تهريبه من شخص كان يظنّه يعمل ضدّ الثورة. أو النّا زوينة التي كانت ستتزوّج من أحد قادة جيش التحرير لولا أنّ أباها عاقبها بعنف بعد أن خرجت لتحتفل بالاستقلال دون لبس الحايك. كما كتبتُ عن حياة، ابنة المجاهد التي ثارت على إيديولوجيا المدرسة الأساسية... هكذا، إذن، التقت الشخصيات في قبر واحد، وتحاورت في ما يشبه مسرحية ساخرة بعض الأحيان، ومؤلمة أحيانا أخرى. واستطعت عبر "ما يقوله الأموات" وضع اليد على الجراح التي آلمتنا لعقود من الزمن، لا سيما غداة الاستقلال، وخلال العشرية السوداء. فهذه الرواية بقدر ما تكون واقعية إلاّ أنّها تحمل في طياتها جملة من التساؤلات الفلسفية، حول العديد من المواضيع؛ كالحياة والموت، والحب، والحرية... كما إنّ الحوار بين هذه الشخصيات يبرز كلّ التناقضات الموجودة داخل المجتمع، بين مختلف الأجيال والشرائح الاجتماعية. وضعت عبر "ما يقوله الأمو" اليد على الجراح التي آلمتنا لعقود من الزمن ❊ في "ما بعد الأحلام" يختبر طارق أشكالا متعدّدة من المنفى. ماذا أردت أن تقول عن المنفى الداخلي والأمل لدى الشباب الجزائريين؟ ❊ يدور الموضوع الأساسي للرواية حول الحلم؛ ما جعل البعض يَعدّ "ما بعد الأحلام" مكمّلة ل "الآلام المجتمعة"؛ حيث كتبت عن قوّة وسحر الكلمة. في حياة كلّ واحد منا مشروع ناجح يبدأ بحلم. فالحلم يعاش ويحقَّق رغم الظروف والعقبات التي يجب علينا أن نتخطاها. هذا ما فهمه طارق، الشخصية الأساسية للرواية، والذي مرّ بمشكل لم يثبط عزيمته، بل رفع التحديات من أجل تحقيق أحلامه. وفي آخر الرواية، لما رأى أنّ حلمه يتحقّق صرّح بكلّ حكمة قائلا: "لنرتفع أعلى، ولنرَ إلى ما بعد الأحلام". وأرى أنّ كلّ شخص يسعى إلى التغيير ومواجهة الأعراف، يجد نفسه مضطهَدا. فالأنبياء والحكماء والقادة عاش معظمهم حياة المنفى والهجرة. وعلى غرار هؤلاء انتفض طارق على بعض العادات السيئة؛ كاحتقار المرأة، وإهانتها؛ ما تَسبّب في طرده من القرية قبل أن يهجر الوطن، ويسلك طريق المنفى، إلاّ أنّه بفضل إصراره العنيد، تمكّن من تحقيق أحلامه، والعودة منتصرا. أؤمن بالأمل، وأؤمن بالحلم رغم كلّ الصعوبات التي نواجهها يوميا. رسالتي التي أردت أن أوجّهها للشباب عبر روايتي، مفادها أنّ الحلم سيتحقق لا محالة إذا تحلينا بالعزيمة والإصرار. على شباب اليوم دراسة رؤية آيت أحمد ومحاولة فهمها ❊ كرّمت 18 امرأة جزائرية بارزة في كتابك "الجزائريات المتفوّقات". ما الذي دفعك لذلك؟ وما الرسالة التي ترغب في إيصالها؟ ❊❊ كتابي "الجزائريات المتفوّقات" هو طريقتي للتعبير عن تقديري واحترامي الكبير لما قدّمته المرأة الجزائرية في شتى ميادين الحياة. تطرّقت من خلال هذا الكتاب لمشوار 18 امرأة من نساء الجزائر العظيمات، منهن مجاهدات، وملكات، وصحافيات، وطبيبات، وفنانات، ورياضيات، ذلك أنّ المرأة الجزائرية تفوّقت في كلّ الميادين، وعلى كلّ الأصعدة، الوطنية منها والدولية. فكفاح المرأة الجزائرية يمتد لمئات، إن لم نقل لآلاف السنين. عملها، نضالها وكفاحها ألهمني لتأليف هذا الكتاب. الحلم سيتحقق، لا محالة، إذا تحلينا بالعزيمة والإصرار ❊ في دراستك التي نشرتها عن فكر آيت أحمد، ما هو الجانب من إرث هذه الشخصية الفذّة، الذي تَراه الأكثر أهمية لفهم الجزائر اليوم؟ ❊ لقد فكّرت في ردّ الجميل لهذا المناضل عبر التنقيب في فكره، ورؤيته للشؤون السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، من خلال محاولة فهم خطاباته، ومقالاته. لقد استطاع الحسين آيت أحمد طيلة مشواره العريق سواء قبل الاستقلال أو بعده، بناء منظومة فكرية منسجمة، ومتكاملة، على شباب اليوم دراستها، ومحاولة فهمها. تكويني الأكاديمي وكذا الرياضي يلعب دورا هاما في كتاباتي ❊ هل يؤثر تكوينك كطبيب نفس اجتماعي وخبرتك في لعبة الشطرنج، على طريقة بناء شخصياتك، وأفكارك؟ ❊ على الباحث الجامعي خاصة في علم النفس الاجتماعي، أن يتحلى بمستوى عال من الملاحظة، ورؤية نقدية للمجتمع بكلّ أطيافه. فعالِم النفس الاجتماعي يلاحظ، ويفسّر سلوك الفرد داخل الجماعة، ثم يقدّم من خلال استنتاجاته، حلولا واقتراحات. أجد نفسي ملزَما بتقديم رأيي حول التغيّرات المختلفة التي يعيشها العالم بصفة عامة، وبلدنا بصفة خاصة. أقوم بهذا الواجب بطريقتي الخاصة، عبر نصوصي، وشخصياتي التي أستوحيها من خلال ملاحظتي للواقع المعيش. وقبل أن أصبح كاتبا كنت لاعبا، ثم مدرّبا دوليا في الشطرنج. أرى أنّ هذه الرياضة الفكرية ممارسة مشوّقة وثرية في آن واحد، لما تساهم في تطوير الخيال رغم أنّها لا تفسح مجالا واسعا للمشاعر، عكس الكتابة؛ لهذا فتكويني الأكاديمي وكذا الرياضي يلعب دورا هاما في كتاباتي.