احتضنت قاعة "كوسموس بيتا" في رياض الفتح، أوّل أمس، عروضًا سينمائية متنوّعة جمعت بين الدراما الاجتماعية الجزائرية، والتوتر النفسي الرمزي، والرؤية الوثائقية الملتزمة القادمة من إيطاليا. ورغم اختلاف الأساليب، فإنّ الأفلام الثلاثة التي قُدمت في إطار مهرجان الجزائر الدولي للفيلم توحّدت في موضوعها العميق "الإنسان حين يصبح هشًا أمام العنف الخفي للمجتمع، وللخوف، وللماضي". بدأت العروض بفيلم "الضحية صفر" للمخرج الجزائري أمين بن ثامر، وهو فيلم قصير مكثّف يمتدّ ل18 دقيقة، يقدّم دراما اجتماعية عميقة تنطلق من اختفاء الطفل بهاء، لتنكشف تدريجيًا خيوط المأساة العائلية. تكتشف الأمّ أن ابنها البكر عثمان، المدمن على المخدرات، هو من سلّم أخاه الصغير لشبكة للإتجار بالأطفال يقودها الطبيب النفسي الذي يُفترض أن يكون معالجًا له، قبل أن يظهر أنه الأب الحقيقي للطفلين. تتحوّل القضية بذلك من مأساة فردية إلى صدمة إنسانية تُسائل مفهوم الأسرة والثقة والأمان داخل البيت نفسه. ويستثمر بن ثامر المساحات الضيقة واللقطات القريبة والإضاءة الخافتة ليخلق مناخًا خانقًا يعكس العنف النفسي دون مشاهد صادمة، معتمدًا على انفعالات الشخصيات وتوتر الصمت الذي يسبق الانفجار. ويواصل فيلم "المجهول" لأحمد زيتوني خطّ التوتر الداخلي، لكن عبر مقاربة مختلفة تقوم على الغموض والهواجس. فالفيلم، الممتد ل13 دقيقة، يروي قصة سليمة، الفنانة التشكيلية التي تعيش وحدها قبل أن تعثر على هاتف مهجور تحت العمارة. تبدأ سلسلة من المكالمات المجهولة، تتدرج من الاستفسار عن صاحب الهاتف إلى التهديد المباشر، ثم إلى سماع صوت تعذيب في إحدى المكالمات، وصولًا إلى اتصال يكشف فيه المتحدث معرفته بهويتها ويحثّها على إعادة الهاتف قبل منتصف الليل. تدخل سليمة في دوامة من الرعب والضغط النفسي، تعكسها رسوماتها وتوتّر تحرّكاتها داخل فضاء شقتها الضيق، قبل أن ترمي الهاتف في الشارع في لحظة انهيار. وللمفارقة، تتحوّل لاحقًا إلى طرف في دوامة الاتصالات، كأنّ الغموض لا ينتهي بل يتكاثر. يعتمد زيتوني على الفضاء المغلق والصوت الهاتفي كأدوات رئيسية لبناء الإيقاع المتوتّر، ويحوّل الهاتف إلى رمز للتهديد الرقمي وللوحدة الحديثة التي تخلخل استقرار الفرد. أما الفيلم الوثائقي الإيطالي(السيد والخادم) "Padrone e sotto" لروبرتو كارّو ولوكا روسّوماندو، فيقدّم رؤية مختلفة تمامًا لكنّه يلتقي مع الفيلمين الجزائريين في اهتمامه بالهامش وبمصائر من لا صوت لهم. يمتد الفيلم على 83 دقيقة، ويركّز على قصص أشخاص يعيشون في الأحياء الشعبية لنابولي، مثل أوغو، المراهق الذي قُتل أثناء محاولة سرقة، وبيو، الشاب الذي يصطدم بغياب فرص العمل وبمستقبل بلا أفق. ومن خلال هذه الشخصيات، يرسم الفيلم خريطة اجتماعية كاملة للمدينة، مبرزًا الفقر والوصم الإعلامي والبطء القضائي وتاريخ الأزمات الاقتصادية التي تتحكّم بمصير طبقات واسعة. رغم تباين الخلفيات والأساليب، قدمت قاعة "كوسموس بيتا" ثلاث تجارب سينمائية تسائل بطرق مختلفة هشاشة الإنسان أمام الخوف والظلم والتهميش. ففي "الضحية صفر" يأتي العنف من داخل الأسرة، وفي "المجهول" ينبع من الهاتف ومن العزلة التي تحاصر الفرد، أما في "Padrone e sotto" فيتجلى في المجتمع نفسه وفي آليات السلطة.