هما مشهدان في غاية التناقض وقعت عليهما أنظاري في بحر هذه السنة.. وكلاهما في مقبرة واحدة تضم قبور العديد من عظماء الثورة الجزائرية. أما الأول، فقد كان له أبلغ التأثير في نفسي لأنه ذكرني بمرحلة من تاريخ بلادي كان فيها الإنسان الجزائري إنسانا حقا وصدقا، وأعني بها مرحلة الحرب التحريرية، وأما الثاني، فكان له تأثير بالغ السلبية لأنه وضعني وجها لوجه مع المرحلة الشاذة التي تعيشها بلادي اليوم. أربعة من المجاهدين واقفون وقفة خشوع وترحم قبالة قبر الكومندان حميمي، ولن أقول عنه الرائد حميمي، لأن كلمة الكومندان نبعت من جبالنا وحملت في طواياها عظمة الثورة الجزائرية وشموخ ذلك المجاهد، بمعنى أنها تعربت رغم أنفها. لم يجيئوا خصيصا للترحم على قائدهم، ولكنهم اغتنموا فرصة دفن شخصية وطنية أخرى، فعرجوا على القبر الذي تظلله نبتة الإخديوج الزاهية. وسمعتهم يتلون الفاتحة مطأطئين رؤوسهم وكأنهم يتلقون في الوقت نفسه أوامر قائدهم الكبير. لمسة الخشوع التي بدت على وجوههم لم أشهدها من قبل على الرغم من أنهم نيفوا على الثمانين. خلتهم أطفالا ينزلون عند أوامر أبيهم، ويعيشون في الماضي الذي صار بعيدا على الرغم من قربه. وما كان مني إلا أن أكبرت ذلك الوفاء من جانبهم حيال قائدهم العظيم. قلت في نفسي إن الصلة لم تنقطع بين أولئك المجاهدين الأربعة وبين مرحلة هي من أزهى مراحل هذا الوطن. أما المشهد الثاني الذي عشته بنفس المقبرة، فقد وجدت نفسي مقحما عليه بحكم أن المساحة التي اجتمع فيها عدد من الناس لقراءة الفاتحة على روح أحد عظماء الثورة التحريرية لم تسمح لي باتخاذ زاوية أخرى. وكان علي أن أسمع ما لم أكن أحب سماعه. قال أحد قدماء المجاهدين بنبرة فيها الكثير من الأسى: لكأن هذه الجزائر تعاقبنا اليوم على ما بذلناه من جهد في سبيلها. وهو يقصد بذلك أن الحكم في الجزائر أشبه ما يكون بطائرة لم تعرف الإقلاع، وأن أبناء الجيل الطالع يلومون المجاهدين على تضحياتهم. ولم أجد بدا من قراءة كلامه ذاك قراءة أخرى، وتحميله معاني قد لا يقوى على تحملها. قلت في نفسي: الخطأ الذي ارتكبه المجاهدون بعد استقلال البلاد هو أنهم أرادوا البقاء على الكراسي إلى أبد الآبدين. لم يدركوا أن جزائر عام 1962 كان بها ثمانية ملايين نسمة، وأن جزائر يومنا هذا يبلغ تعداد شعبها حوالي أربعين مليونا من البشر. وذلك يعني أن الذين يحكمون هذه الجزائر ما زالوا يعيشون بعقلية عام 1962، ولم يريدوا يوما تسليم المشعل إلى الأجيال الطالعة. وهنا بالذات تكمن نقطة الضعف فيهم، وتمنعهم من النظر إلى واقع الجزائرالجديدة. ليس المهم أن يجتمع المجاهدون ويتحدثوا عن المعارك التي خاضوها، بل المهم هو أن يعملوا على تنوير الأجيال الجديدة بسلوك من أدى دوره وراح يتأمل أبناءه وهم يتحركون صوب الغد المشرق. الجهاد لا يعني البقاء في الكرسي الواحد على مدى خمسين سنة. الجهاد هو فهم أبناء الجيل الطالع وما يعتمل في صدورهم، ولذلك، فلا عجب في أن نسأل واحدا من هؤلاء عن البطل الجزائري الفلاني ويجيبنا بأنه قد يكون لاعبا في فريق ميلانو.