يكشف لنا الغرب كل يوم التطرف المستتر الذي تخفيه نخبه الحاكمة ويسيطر على دهمائه المضلّلة، ونحن وحدنا من يجري وراء الأصوات" الحرّة" القليلة التي تزيّن الكذبة الغربية الكبرى، وهي أصوات على أية حال لا تسمن ولا تغني من جوع، أما آن الأوان لنؤمن بتعصب الغرب في أغلبيته ونتعامل معه على هذا الأساس؟ الغرب الرسمي أو ذاك الذي يلعب بحياة كوكب الأرض، إذ ما يكاد ينهي حربا أشعلها هنا حتى يزرع حروبا هناك، لم يشأ هذا الغرب أن يترك تعصّبه المركّب، ونظرته السلبية المسبقة، وصورته النمطية عن المسلمين رغم مساحيق الديمقراطية التي يبديها تجاه قضايا الإسلام، وقد يكون أكثر تطرفا من الحركات اليمينية العنصرية التي أصبحت تجاهر لديه- باسم حرية الرأي وتنوّعه- بنازيتها وفاشيتها، وتجد لها موقعا سياسيا في حركة المجتمع أو مجموع التجمعات الغربية، وقد تفرد لها وسائل الإعلام"المستقلة من أجل هدف واحد" مساحة واسعة وتغطية متميزة، خاصة إذا تعلق الأمر بمعاداتها للإسلام والمسلمين، ولكن هل كان هذا الغرب المنافق المتربّص أن يفعل ما هو فاعله، لو لم يجد من يؤازره من حكامنا ونخبهم، ويمده بالمشورة والعون والعمل؟!؟ لم يرض الغرب عن تركيا بعد تغيير وجهة سيرها في طريق العلمانية لما يقارب القرن من الزمن، حتى وإن تخلت عن لباس لغتها، واستبدلت حروفها العربية بالحروف اللاتينية، ولم يتقبلها في »حظيرته« وإن أسرفت في إعداد مناخات السقوط الأخلاقي الذي يعاني منه الغرب ويهدد حضارته بالأفول، نتيجة جنون النزعة الفردية وتقديسها وجعلها دائرة محورية على حساب قيم الأمة، ولم يقبل بها عضوا في اتحاده الأوروبي الذي تحكمه الجغرافيا والمصالح المشتركة قبل أي اعتبار آخر، وما زال يتلكأ في ذلك- برغم تقاسمها معه لتلك المبادئ- كلما نفذت شروطا فرضها عليها، إلا وفاجأها بسلسلة أخرى من الشروط التي تستوجب شروطا غيرها. البرلمان الأوروبي أرجأ مؤخرا دراسة طلب كل من ألبانيا والبوسنة- إلى أجل غير معلوم- في الانضمام إلى اتحاد أوروبا" العجوز"الذي سبق وأن أدخل في عضويته أفقر العائدين من المعسكر الاشتراكي المطاح به وأكثرهم شراسة وعنصرية فيه، في وقت تسوّل بهذه العضوية أمام بعض الدول الأوروبية القوية التي استفت شعوبها في المسألة فلم تقبل، وما زال يشحت أمام أبوابها مقدّما الكثير من الإغراءات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية وإن بقيت على إصرارها. هل هناك أسباب موضوعية لرفض طلبات تركيا وألبانيا والبوسنة سوى كون هذه البلدان إسلامية، وتنتمي في بعض ديمغرافيتها إلى حضارة الشرق؟ قد يرد أحد ويقول إن في المسألة أسبابا إجرائية وأخرى تتعلق بحقوق الإنسان وثالثة بتفشي الفساد في هذه الدول، مما جعلها لا تستوعب ولا تلتزم بشروط الالتحاق باتحاد أوروبا المفتوح على البعض والمغلق على البعض الآخر، إلا أن الحقيقة هي غير ذلك تماما، فكثير من المنضوين تحت رايته دخلوه بإرث هو الأكثر تخلفا في مسيرة التطوّر البشري، فالمشكل يكمن في إسلام هذه البلدان حتى لو كان إسلاما وراثيا ويعتبر أكثر من معتدل، إنها عداوة تاريخية للإسلام والمسلمين، ولعل التهجّم على عودة المريض الليبي الميئوس منه إلى عائلته قبل حق الرحيل، قد أعطت الدليل الذي لا يحتاج إلى محاججة، وأزالت كل غشاوة عمن ظل ينكر تطرف الغرب وعنصريته أيضا. المواطن الليبي العربي المسلم عبد الباسط المڤرحي اتهم سياسيا وليس جنائيا، كما يقول العارفون بالمسائل القانونية الذين أكدوا أنه لا دليل على إدانته بالجرم المنسوب إليه ظلما وعدوانا، والذي حوكم به حتى نهشته الأمراض في ثماني سنوات قضاها مسجونا ومنفيا، في قضية ذهب فيها ضحية التآمر على الجماهيرية الممانعة، وقد حيك السيناريو واختلقت الأدلة في حبك جريمة ليس لليبيا ناقة فيها ولا جمل، ومع ذلك فضّلت أن تنهي المعضلة بما يشتهي كاتب القصة، وتعترف بجرم لم ترتكبه، وتعوّض- بدل الجاني الحقيقي- عائلات الضحايا، وتدفع أكثر من ثلاثة ملايير دولار، وتقدم مواطنيْن اثنين من مواطنيها قربانا للتخلص من حصار فرضه الأقوياء الذين لم ترضهم مواقف الجماهيرية، وطبّقه بقسوة الأشقاء الذين يكونون حسدوها على تلك المواقف. يعلم الكثير من أهالي الضحايا بضعف أدلة الإثبات وربما بزيفها، ولكنهم رضوا بالسخاء الليبي وبعدالة اسكتلندا وعندما تطورت العلة في جسم المڤرحي، وقرّر الأطباء أن أيامه معدودة- أطال الله العلي القادر على كل شيء في عمره- وتحركت ليبيا مطالبة باستعادة ابنها إلى أسرته، طبقا للقوانين والأعراف والنواميس البشرية، واستجابت الحكومة الاسكتلندية إنسانيا لذلك، حتى إذا جاء إلى مريضنا المتهم البريء حق الرحيل استقبله راضيا مطمئنا وقد اغتسل برؤية أهله وعشيرته ووطنه، كشف الغرب المتطرف عن وجهه الحقيقي برفض المسعى، بل وانتفض معه معظم أهالي الضحايا الذين تاجروا في دماء ذويهم الذين تذكروهم فجأة، واسترجعوا ذكراهم، وهم الذين نسوهم عندما قبضوا ما لا يستحقون ممن لم يفعل في طائرة البانام ما وقع لها، وثاروا في وجه وزير العدل الاسكتلندي، كي يعدل عن نيته في السماح للسجين المريض أن يعود إلى بلاده، وحسنا أنه لم يسمع لكل تلك الأصوات التي ما زالت تؤلم العلاقات التي تحكم حضارة الشرق بالحضارة الغربية. إن حكاية عبد الباسط المڤرحي المحتفى برجوعه ليبيا وعربيا وإنسانيا، وما أثارته من ثرثرة كبيرة على الساحة الغربية، تؤكد أن الغرب ملة واحدة، ليس فيه إلا قلة قليلة من الأحرار بعيدة عن مصادر القرار، ومن ثم فهي لا تستطيع أن تؤثر في الرأي العام الغربي الذي تتنامى عنصريته وتطرّفه وكرهه للآخر، إلا أن هذه الحكاية جديرة بأن تدفعنا- أنظمة ونخبا وشعوبا- إلى إعادة القراءة في علاقاتنا بهذا الغرب، ابتداء من التسلل إلى الكواليس العلمية المحرّمة علينا لاكتساب القوة، وانتهاء باستثمار حاجاته إلى كفاءاتنا ومواردنا وخيراتنا وأسواقنا...