إنه لمن المحزن حقًّا، أن ترى ثاني الاثنيْن والعشرين، ممن غيّروا مسار التاريخ البشري، المجاهد عمار بن عودة، يبكي في عيد ثورة نوفمبر الستين، على حال اللغة الوطنية، التي كانت أحد مطالب الثورة التحريرية، التي خاضوها بصدقهم في المسعى وإيمانهم بالقضية، فهزوا أركان الإمبراطورية الفرنسية، واجتثوا معها عصر الكولونيالية من الجذور، وهو يذرف الدموع كأنما يقول: إني لألمح تعثّرًا أو رِدَّة لحقت برفاق المسيرة، فاختطف القادمون من الزمن الاستعماري منهم المشعل، وأحرقوا به تباشير الصبح، الذي وعدت به الثورة شعبها قبل ستين عامًا، حتى بدا أن هؤلاء هم الذين انتصروا على عميِّ عمار، وجعلوه يصرخ باكيا في يوم عيد الثورة: إنه العار كل العار، أن يخاطب المسئول الجزائري شعبه، بلغة المحتل الذي تمّ ترحيله بقوة السلاح، وربما كانت هذه الوضعية الشاذة، هي ما جعلت العرب، الذين تقول دساتيرنا جميعها إننا ننتمي إليهم، وكنا مفخرتَهم في الحرب ضد الاستعمار الفرنسي الاستيطاني، يتساءلون: هل الجزائريون منا حقيقة ؟ وهم يروْن أغلبية مسئولينا، يتحدثون بالفرنسية من على المنابر الإقليمية والدولية، التي بشّرت الثورة الجزائرية بدخولها، حيث أجاز القرار الأممي رقم 878 الصادر في 19541204 العمل باللغة العربية في الأممالمتحدة بكل منظماتها. »اللغة هي منزل الكائن البشري« هكذا قال الفيلسوف الكاتب هايدغر heidegger، غير أننا نجد للأسف »ظاهرة« قد تكون »صناعة جزائرية« وهي أن كثيرًا من المسئولين الجزائريين، الذين درسوا في الجزائر، التي تقول كل قوانينها، إن لغتها الوطنية والرسمية هي العربية، وعاشوا فيها، وتعلّموا في مدارسها، وأكلوا من خيراتها، واستفادوا من مغانمها وريعها، لا يعرفون لغة أمتهم أو لا يُحسنونها، لِعُقْدة اكتسبوها في هُويتهم، بل راحوا يمارسون على الشعب- الذي يتحرّك أفراده بهُوية سليمة غير معقّدة- أسوأ أنواع العنف اللغوي، فخلقوا فجوة في التواصل بينه »وبين النخب الحاكمة«، أدّت إلى معاداة كل ما يرمز للدولة التي يمثلها هؤلاء، فإذا كانوا لا يُحسنونها فبإمكانهم فِعْلُ ذلك، فهذا الأستاذ الدكتور جيلالي اليابس رحمه الله، المتعلِّم باللغة الأجنبية، حاضر بالفرنسية أمام طلابه القادمين إليه في الجامعة، من المدرسة الجزائرية المُعرَّبة، فوعدهم بالتدريس باللغة العربية خلال الفصل القادم، وهو ما وفّى به، وكأنه خرِّيج مدرسة ممتازة في اللغة، هنا يُطرَح أمامنا تساؤلٌ مشروع: هل هؤلاء يكرهون لغتهم أم يستكبرون عليها، حتى لا أقول إنهم دعاةٌ للفرنكوفونية التي توارثوا مواقعها في السلطة منذ الاحتلال، وتعزّزت بعد استرجاع الاستقلال ؟ على علماء الاجتماع والمختصين أن يبحثوا المسألة، وأن يجدوا الإجابة والعلاج لهذه العِلَّة الخطيرة، على انسجام المجتمع واستمرار الدولة . ألم يشعر أولئك المُتنطِّعون بلغة غيرهم بالعار أو بالحياء على الأقل، والواحد منهم يتصارع مع نفسه، في قراءة جملة سليمة بالعربية، حين يضطر إلى ذلك تحت ضغط المنصب ؟ لم يكن الصراع مع فرنسا من أجل الإدارة، بل كان من أجل استعادة كلِّ عناصر الهوية الجزائرية، التي كانت اللغة أحد ركائزها البارزة، التي لا تتسامح الثورة فيها، غير أن النخب المُفرنَسة بعد استرجاع السيادة، لم تجعل الفرنسية نافذة مفتوحة على الغرب الفرنكوفوني، بُغيَة إطْلاع مواطنيها على ما يجري في الضفة المقابلة، من علومٍ ومعارف يُثرون لغتهم والقراء بها، كما فعل نظراؤهم ويفعلون، في تونس والمغرب ولبنان مثلا، إنما راحت تحارب العربية، حتى تجرّأ بعضهم أو أحدهم على الجهر بالقول: »إن التعريب- وإن كان مُحتشمًا- جريمة إنسانية«! ولا غرو أن يكون هؤلاء ذوي حُظوْةٍ وانتشارٍ كبيريْن من طرف فرنسا، حيث يعاد تصديرهم لنا، كأدباء كبار وإن كانوا لا يمتون إلى الأدب بصلة، وقد تكون من بين هذه »الأقلية«، »أكثريّة« تظن أن التاريخ أخطأ طريقه، حينما استجاب إلى إرادة الأغلبية، ولم يجد بُدًّا أمام التضحيات الكبرى، من أن ينسحب ويترك الدولة الجزائرية، تنبعث من جديد ونجد صورة هؤلاء، في تعبير أحد المسئولين الذي قال: »ليس هناك أوروبيون أكثر من الجزائر، ولو كان للتاريخ منحًى مختلف، لكُنا اليوم بلدًا في الاتحاد الأوروبي«، ولم يُعِر هذا المسئول أيَّ اهتمام، للمساءلة التي وجّهها له المجلس الشعبي الوطني، بل نجده ثابتًا في موقعه، ولم يفعل بعد فترة إلا أنه غيّر المنصب . الدولة الفرنسية تبذل جُهدًا ماليا كبيرا من أجل تمدّدِ لغتها، حتى وإن اضطرت إلى إرشاء بعض الدول الإفريقية، ولا يضرها إن قيل عن لغتها بعد ذلك، إنها لغة الجياع، فهذا الرئيس الفرنسي الأسبق فرنسوا ميتران، يُقرِّر في قمة داكار، المنعقدة في مايو من عام تسعة وثمانين وتسعمائة وألف، إلغاء مجموع الديون الإفريقية الفرنكفونية، التي بلغت ستة عشر بليون فرنك، شريطة أن تستمر في ضمان تفوُّق اللغة الفرنسية، في التعليم والإدارة ومختلف مجالات العمل، أما الجزائر فإن فيها أنصارًا للفرنسية، يعملون بدون هوادة وبحماس كبير، على نشْرها بمال الشعب الفقير بغنى بلاده، ولن يتركوا أية لغةٍ حيّةٍ أخرى تقف أمامها، ولا قيمة للشهادات العليا الإنجليزية أو الألمانية أو الأمريكية أو غيرها، إلا إذا تمت معادلتها بالفرنسية، ويكون برنار كشنار، وزير خارجية فرنسا الأسبق، قد أخطأ لما قال إن علاقات بلاده بالجزائر »ستتحسّن« أكثر بذهاب جيل الثورة، لأن هذه العلاقات هي في أحسن حالاتها- بوجودهم- لصالح فرنسا ولغتها خاصة، وبمناسبة الاحتفال الكبير بستينية الثورة، والذي امتاز بتغييبٍ مُتعمَّدٍ للحديث عن اللغة العربية المطاح بها في جُلِّ ميادين الحياة العملية، مما جعلنا نحسّ أن التفريط في لغتنا الوطنية لصالح لغة المحتل، هو استصغار للمجاهدين في عيدهم، وإهانة للشهداء الذين يبدو أن لعنتهم بسبب تخلِّينا عن وديعتهم، هي التي تلاحقنا، وتظهر آثارها في كل ما أصابنا من أزمات متناسلة وتخلّف مُركَّب ...