يوم بارد من أيام تشرين الثاني (نوفمبر)، وليس البرد فقط، بل الريح والمطر، أراهم قابعين هنا·· وسط المدينة الثرية، في وسط المدينة الأنيقة، القبعات الصوفية على رؤوسهم والمعاطف الشتوية تقي أجسادهم من البرد·· الشارع المخصص للمارة الراجلين مكتظ، تدب فيه حركة أيام نهاية الأسبوع، ونحن على أبواب أعياد الميلاد ونهاية رأس السنة· ها هي أكياس وعلب المشتريات تتدلى من أيديهم، أين هي هذه الأزمة التي يتكلم عنها المحللون؟ فالأسعار على الواجهات خيالية وكل شيء يبدو باهظا، الأحذية من 200 أورو إلى ما فوق، ناهيك عن المعاطف أو الحقائب، لكنهم لا يكترثون، فهناك من يشتري بعد تردد طفيف، وهناك من يمر مرور الكرام.· أما من جئت أقصدهم فلا هم من هؤلاء ولا هم من أولئك، اليوم محطتهم هنا قبالة ''الغاليري لافييت'' الشهيرة، هنا حطوا رحالهم.. مجموعة من 15 شخصا لا أكثر، ناثرين معلقاتهم على حبل غسيل مربوط على جذع شجرة، تملأ أيديهم منشورات مكتوبة على أوراق صفراء اللون يوزعونها على من يريد أخذها·. جاكلين، فرانسوا، ماتيلد، برينو·· مناضلون شاءت الأقدار أن يكون لهم عنوان ومكان، فرنسيون من مدينة نانت، أصدقاء فلسطين ومناضلون من أجلها، لا يهمهم يمينا أو يسارا، فتح أو حماس، مسيحي أو مسلم، هم ليسوا مع أي خط إيديولوجي معين، يتضامنون فقط، مؤمنون بالقضية وبعدالتها، يناهضون الإحتلال واستلاب الأرض، لجان ومجموعات وأفواج، منهم من ترك النفس والنفيس ودفع الغالي والثمين للذهاب إلى هناك.. إلى فلسطين التي يحبون، يذهبون لقطف الزيتون مع المزارع الفلسطيني وحمايته من المستعمر الغاشم، ومنهم الحقوقي الذي يتظاهر مع المئات ضد الجدار العنصري الفاصل·. مستعدون، جاهزون ومتواجدون، بالأمس اليوم، وغدا.· سلمت عليهم ووقفت إلى جوارهم، آه·· كم البرد شديد اليوم، أصابع يداي تكاد تتجمد، والصقيع يتسرب خبيثا إلى قدميّ، ما العمل؟ هل أعمل وحدي أم معهم، فأنا ذات الأصل الفلسطيني، كما يقولون هنا، بل أكثر من ذلك أنا وليدة غزة، وقفت إلى جوارهم وأخذت رزمة من الأوراق الصفراء وانطلقت محاولة توزيعها على المارة، كما يفعلون هم تماما، ولكن بعد ثلاث أو أربع محاولات خجولة إكتشفت أن الجرأة تنقصني، حاولت إقناع زبائني مقلدة ما يقوله أصدقائي المناضلون: تفضلوا سيداتي سادتي·· ألقوا النظر قليلا على وثائقنا ومنشوراتنا، تفضلوا بمساندة القانون الدولي، ناهضوا بناء الجدار الفاصل، هل تعرفون أن محكمة العدل الدولية أصدرت قرارا بهدمه، ناهضوا الإحتلال في فلسطينالمحتلة، يا ترى، هل تساندون الإحتلال؟ نحن في القرن الواحد والعشرين، هل أنتم مع المستعمر؟ هل تتجرأون على ذلك؟ هل تتواطؤون مع الحصار ضد أهل غزة؟ إنه عقاب جماعي.. أنظروا·· شوفوا·· تحركوا·· ها هي الخرائط تتكلم بنفسها.· شوفوا ما يفعله الإسرائيليون، نحن هنا ونناشد ضمائركم.· كانت الكلمات تتلعثم في فمي·· لم أكن أطلقها بالصوت الصريح الواثق· لكنهم، هم، أصدقائي، لم أشعر لديهم بأي حرج أو أية حشرجة في الصوت·· لماذا يا ترى؟ ساءلت نفسي، ربما لديهم ما ليس لدي، لديهم الوطن، وأرض الوطن التي تفسح المجال التي تطمئن وتنزع الخوف.· إنهم ينادون جاهرين ويستجدون المارة من غير خجل ولا يبالون بمن لا يبالي بهم أو يردهم بعدوانية: ''وما دخلنا بذلك، إن مشاكلنا في فرنسا تكفينا، أنتم ضد اليهود، أنتم مع الإسلاميين في حماس، مع الشموليين، مع الفاشيين، إنصرفوا عن وجوهنا أيها المتخلفون''، عندما كنت أتلقى هذه المواجهات كانت تنحط عزيمتي، ''أزعل واتنرفز'' وتتساقط الحجج والبراهين من ذهني، وتنبت بداخلي عزيمة الكلمات، آه·· الكلاب، الخبثاء، العنصريون، الغربيون، وعلى هذا المنوال.· لكن سرعان ما ألتفت إلى أصدقائي المناضلين الفرنسيين الغربيين، وأراهم يناقشون ويحللون، ويجادلون نقطة بنقطة، برهانا ببرهان، لا يهتمون بمن يشتمهم، لا، ليس لديهم وقت للتفاهات، تنير مساراتهم مهمة معينة، ثابتة واضحة: إعلام الرأي العام الفرنسي ومناصرة القضية، أما أنا، فاتجهت نحو البيت. إستأذنت منهم ومضيت، بعد بضعة أمتار، مظاهرة أخرى، هذه المرة مجموعة أشخاص مناهضين لمجتمع الإستهلاك، حاملين يافطات تنادي المواطنين بقضاء يوم كامل بدون مشتريات، يرددون بحماس: ''اليوم·· اليوم·· لا أشتري شيئا·· فلنقاوم الشراء·· فلنقاوم الإستهلاك·· فلنقاوم·· فلنقاوم''.. أكملت طريقي، وشبه ابتسامة ترتسم على وجهي، وما هي إلا خطوات قليلة، وفي عز زحمة الناس، إذ بأربعة أو خمسة أشخاص يقفون، وفي أيديهم محقن وإوزة إصطناعية يوزعون منشورات تطالب بالكف عن تزقيم الإوز، منددين بالعملية ''إنها تؤذي الحيوان ضعوا أنفسكم مكان الإوزة، تصوروا العذاب الذي يتعرض له الطائر المسكين، هل تقبلوا، أيها الناس المتحضرون، هكذا وحشية؟!·. نحن على مشارف أعياد الميلاد، كونوا طيبين مع الإنس والجن كونوا مواطنين''· إكتملت الربتسامة على وجهي، وأحكمت إغلاق معطفي لسد لسعة البرد، ثم مضيت عائدة إلى البيت، وكتبت ورقتي هذه·