شان-2024/ودي: المنتخب الجزائري للمحليين يفوز أمام رواندا (2-0)    الاقتصاد الجزائري بخير.. والقدرة الشرائية تتحسن    رافعات من الجيل الجديد تؤسّس لموانئ"ذكية" بالجزائر    آخر الروتوشات لانطلاق امتحان البكالوريا    إجراءات جديدة لإصدار تأشيرات العمرة الموسم القادم    الجزائر تتوّج بالجائزة الذهبية "اليتيم"    "حماس" تدين جريمة الاحتلال بحق سفينة "مادلين"    المديرية العامة للحماية المدنية تطلق مسابقة توظيف    مجلس الأمة يهنّئ بالجائزة الذهبية "لبيتم"    كنت مستعدا لكسر ساقي من أجل البرتغال    إجماع على استقدام جمال بن شاذلي    خطوة أخرى لتعزيز التنمية بقرى وادي الأبطال    رفع ألفي طن من النفايات    جمع 27 ألف "هيدورة"    "التطور الحضاري لمدينة تلمسان" محور يوم دراسي    عوالم من نور تتجاوز الملموس البائس    تتويج سيليا العاطب سفيرةً للثقافة الإفريقية 2025    مناقشة مشروعي القانونين المتعلقين بمحكمة التنازع والوقاية من المخدرات    12 جوان.. آخر أجل لتفعيل حسابات المكتتبين في "عدل3"    مبادرة حسنة من الحجّاج الجزائريين    برنامج "عدل 3" : ضرورة تفعيل الحسابات وتحميل الملفات قبل 12 جوان    السيد مراد ينوه بتجند مستخدمي الجماعات المحلية خلال أيام عيد الأضحى المبارك    مجموعة "أ3+" بمجلس الأمن : العمليات الانتقالية السياسية السلمية في وسط إفريقيا تمثل "تقدما لافتا" باتجاه المصالحة    مصطفى حيداوي : تقدم ملموس في إعداد المخطط الوطني للشباب وإستراتيجية قطاع الشباب    أشاد بمجهودات أعوان الرقابة.. زيتوني ينوه بحس المسؤولية الذي تحلى به التجار خلال أيام العيد    توقيف 3 مجرمين وحجز قرابة 5ر1 مليون قرص مهلوس بباتنة    عودة أول فوج للحجاج الجزائريين غدا الثلاثاء الى أرض الوطن بعد أداء المناسك في ظروف تنظيمية محكمة    ألعاب القوى/ الملتقى الدولي بإيطاليا: العداء الجزائري سريش عمار يتوج ببرونزية سباق 1500 م    عيد الأضحى: احتفال في أجواء من البهجة والتضامن والتآزر    الملتقى الدولي بموسكو: نسرين عابد تحطم الرقم القياسي الوطني لسباق 800 م لفئة اقل من 20 سنة    "قافلة الصمود" : قرابة 1700 مشارك ينطلقون من تونس لكسر الحصار الصهيوني على قطاع غزة    وهران : الطبعة الأولى لمعرض الجزائر للسكك الحديدية بدءا من الأربعاء    معركة سيدي عبد الرحمان بالشلف : بطولات وتضحيات خالدة في الذاكرة الوطنية    جامعة فرحات عباس بسطيف: 3 باحثين يتحصلون على براءة اختراع في مجال قياس الجرعات الإشعاعية    تنظيم الطبعة الرابعة لصالون الصيدلة "ألفارما" من 26 إلى 28 يونيو بعنابة    وزير الثقافة زهيرَ بللُّو يهنئ الفنانين في يومهم الوطني    حث على تعزيز أداء الخدمة العمومية عبر كامل التراب الوطني    هلاك 9 أشخاص في حوادث المرور    غزة : استشهاد 11 فلسطينيا وإصابة العشرات    الفريق أول شنقريحة يترأس مراسم حفل تقديم التهاني    عملية جمع جلود الأضاحي لسنة 2025 تشهد تقدما ملموسا    الصحفي عبد الرحمن مخلف في ذمة الله    خواطر الكُتاب.. أبعاد لا تنتهي    لماذا سميت أيام التشريق بهذا الاسم    متابعة 50 مشروعا كبيرا لضمان نجاعة الإنفاق    ناصري: كل عام وأنتم بخير    إيمان خليف تغيب عن بطولة العالم للملاكمة    بن جامع يدعو لإسقاط درع الحصانة عن الكيان الصهيوني    أعياد ودماء وخبز    شخصيات سياسية تدعو روتايو إلى الاستقالة    المغير: لمياء بريك كاتبة تتطلع إلى الارتقاء بأدب الطفل    تشييع جثمان المجاهد المرحوم مصطفى بودينة بمقبرة العالية    "وهران : اختتام الطبعة ال11 لمهرجان "القراءة في احتفال    الخضر يبحثون عن التأكيد    توسعة الحرم المكي: انجاز تاريخي لخدمة الحجاج والمعتمرين    ويلٌ لمن خذل غزّة..    هذه أفضل أعمال العشر الأوائل من ذي الحجة    عيد الأضحى المبارك سيكون يوم الجمعة 06 جوان 2025    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



علينَا الرَبْطُ بين حَضَارةِ الفِعْلِ وَحَضَارَةِ القَْولِ ... حَتَى نَعيشَ مَعَانِي القُرآن سُلوكاً
الأكاديمي والباحث في البلاغة اللغوية : مصطفى بن حبيب شريقن
نشر في الشعب يوم 05 - 02 - 2012

ترتبط حركية وانسجام أيُّ مجتمع بمدى توافر الضوابط والمعايير التي تعمل على تماسكه سواء كانت هاته المعايير قانونية أو اجتماعية أو دينية فهي تُشكل في مجملها مناخاً ملائماً للتفاهم والتعايش بين أفراده ، إلاَّ أن وجود شخصيات مفكرة وواعظة ومصلحة في نفس الوقت تعمل إلى زيادة درجة هذا التناغم المجتمعي من شأنه أن يضيف الكثير، ومن بين هؤلاء نجد الدكتور مصطفى شريقن الذي كان له السبق في إضاءة أساليب قرآنية جديدة رغم عدم تفرغه التام بالدراسات القرآنية بسبب مشاغله التعليمية والدور الإصلاحي داخل المجتمع الأغواطي، ما استدعى يومية “الشعب” إلى زيارته وخصِّها بهذا الحوار.
بدايةً، وقبل التعرف على شخصكم الكريم، أود أن أهنئكم على نيلكم درجة الدكتوراه وقبلها الماجستير في اللغة العربية وآدابها و قد كان موضوعهما حول تلوّن وتنوّع بعض الأساليب البلاغية في القرآن الكريم من خلال أسلوبي “الالتفات”و “التكرار” وسأعود إليهما لاحقا بعد قليل ..
بارك الله فيك،وجعلني الله وإياك من الشاكرين ونسأله القَبول.
هلَّا تفضلتم بالتعريف بشخصكم للقارئ ؟
مصطفى شريقن بن حبيب من مواليد 1951 بسيدي مخلوف بالأغواط، دخلت الكُتّاب مبكراً وتعلمتُ أوّل الآيات على يدي الشيخ الحاج العلمي غويرق ،ثم على يد الشيخ حدباوي الصادق رحمه الله بالأغواط . وبعد الدراسة الابتدائية على يد الحاج العيد الزاوي، والشيخ زاهية الحسين رحمه الله، التحقتُ بمعهد التعليم الأصلي بالأغواط وأثناء الدراسة شاركت في مسابقة الدخول لدار المعلمين بالأغواط التي فتحت أبوابها لأول مرة في: 6 / 01 / 1968م، ووفقني الله عز وجلّ أنْ أطويَ سنواتها الأربع في ثلاث ، تخرجت بعدها معلماً مساعداً، وعُيِّنتُ معلماً مساعداً في 10 / 10 / 1970م ،و رُسّمتُ بعد خمسة أشهر على يد المفتش الشيخ أبي بكر الحاج عيسى ، والمستشار الحاج علي جغاب رحمهما الله تعالى.وفي شهر أفريل التحقت بالخدمة الوطنية، وأثناء ذلك انْتُدِبْتُ للتدريس في مدينة بشار عامي:1972 1973م وبعد إنهاء الخدمة رجعتُ مجدداً إلى التدريس بالأغواط.وبعد شهور حصلت على شهادة : B S1 ثم BS2 ونلتُ بعدها شهادة البكالوريا سنة 1974 فعُيِّنتُ أستاذاً في التعليم المتوسط أدرّس المواد الاجتماعية (التاريخ والجغرافيا)، ثم التحقت بجامعة وهران سنة 1975 بمعهد اللغة العربية وآدابها والذي كان يرأسه آنذاك الدكتور “عبد المالك مرتاض”. تخرجت منه بشهادة الليسانس تخصص لغة عام 1979، درّستُ بعدها ثلاث سنوات بمدرسة أشبال الثورة بالأغواط إلى غاية 1982،حيث انتقلت إلى ثانوية أول نوفمبر بالأغواط وعملتُ بها ستّ عشرة سنة إلى غاية سنة 1998، وخلال هذه الفترة في سنة 1986 نجحت في مسابقة الدخول لتحضير شهادة الماجستير بجامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية بقسنطينة، وكان لي الشرف أن جَلسْتُ بين يدي الشيخ الإمام محمد الغزالي رحمه الله لأداء الامتحان الشفهي الخاص بالمسابقة ،وحضَرْتُ دروسَه في الإعجاز كلّ ثلاثاء لمدة سنة ،ثم انقطعتُ لظروف شخصية. وشاركت من جديد في مسابقة الماجستير بجامعة وهران، لسنة 1987- 1988،تخصص لغويات.وبعد سنة ونصف من الدراسة النظرية شرعت في تحضير رسالة الماجستير الموسومة ب« أسلوب الالتفات في القرآن الكريم وأسراره”، وبعد المناقشة التحقت بجامعة الأغواط أستاذاً مساعداً سنة 1998، ثمّ أستاذاً مكلفا بالدروس ،ثم محاضراً بقسمي اللغة العربية وآدابها، والعلوم الإسلامية بعد نيل درجة الدكتوراه والتي كانت بعنوان” ظاهرة التكرار في القرآن الكريم، أغراض وأسرار”.
هذا بالإضافة إلى نشاطات أخرى كالتعاون مع نظارة الشؤون الدينية في نشاطاتها المختلفة ( إلقاء محاضرات، ندوات ، دروس الجمعة..).
بالعودة إلى جذور تخصصك العلمي نجد أنه يختص باللغة والأدب العربي، في حين وجهتم دراساتكم نحو الدراسات القرآنية. فهل يرجع ذلك إلى تأثركم بالقرآن الكريم، أم ينبع من منطلق عاطفي يعكس حُبكم وميلكم... أم أنكم فعلاً تحسون بأن هناك أسراراً وإعجازاً لم تستشف آفاقه بعد ؟
في الحقيقة،على الرغم من تخصصي العلمي في الأدب واللغة العربية فإني شديد التعلق بالدراسات القرآنية على العموم، وبالجانب البلاغي والإعجازي منها على الخصوص. ومازلت مولعاً إلى اليوم ،ولاعجب في ذلك فإنّ اللغة بنحوها وصرفها وبلاغتها مفتاح أساس للولوج إلى أعماق النص القرآني وكشف أسراره،وبخاصة إذا صَحِبَ ذلك فهْمٌ لقواعد اللغة وفِقْهٌ لها، مع حُسْنِ تَدَبُّرٍ وتفكّر، ولا أدَّعِي هذا لنفسي. أمّا إعجازه وأسراره وعجائبه فإنها قطْعًا لاتنتهي ولاتنقضي على كثرة التدبر والتنقيب، ودوام البحث والتنقير.
من خلال رسالة الماجستير “أسلوب الالتفات في القرآن الكريم وأسراره” التي تَمَّ طبعها في مُؤلَف، هل لكم أن تعطونا مفهوماً عاما “للالتفات”، وما هي أقسامه ؟. وهل اجتهدتم وحاولتم أن تضيفوا أقساما أخرى للالتفات في القرآن الكريم ؟.
أسلوب الالتفات : يعتمد أساسا على التصرّف في الأساليب والتفنن فيها على غير الوجهة التي كان يسير عليها الخطاب،ولذلك عرّفته:«بأنّه انتقال أسلوب الكلام من صورة معينة ظاهرة مألوفة متوقعة إلى ناحية أو وجهة غير متوقعة ملفتة للذهن بخروجها عن الوجهة الخطابية التي كان يجري عليها السياق، على وجه يلطف وغرض بلاغي يملح ، مناسبٍ للمقام، ملائمٍ لنوع المخالفة،تفنّنًا في القول وتطريّة للذهن”.سواء كان هذا الانتقال من ضمير إلى ضمير أو من تذكير إلى تأنيث، أو من مفرد إلى مثنى أو جمع،أو من صيغة إلى أخرى، أو من لفظة إلى مُرادفها، وما شابه ذلك.
فالالتفات من باب مخالفة الظاهر بالخروج عن ذلك الظاهر والعدول عنه إلى ما سواه ، لغرض خفيّ. و لعلّ أشهر آية يتجلّى فيها هذا الأسلوب واضحا صريحا هي الآية الثانية والعشرون من سورة يونس:?هو الذي يُسَيِّرُكُمْ في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وَجَرَيْنَ بِِهِمْ بريح طيبة ? حيث انتقل من الخطاب إلى الغيبة ؛إذ الظاهر الْمُنْتَظَرُ وَالْمُتَوَقَّعُ :وجرين (بكم )بَدَلَ (بهم).وفي قوله تعالى: ?هذان خصمان اختصموا في ربهم? وقوله?فإذا هم فريقان يختصمون?.انتقل من المثنى إلى الجمع.وكل ذلك لأغراض بلاغية وأسرار بيانية.
وأقسام الالتفات المعروفة المشهورة ،قسمان:1) الالتفات بمقامات الضمائر ( بين المتكلم والمخاطب و الغائب) وله ستّ صور. وهدا النوع هو أشهرها على الإطلاق.والقسم الثاني(2)هو الالتفات بالعدد (بين الإفراد والتَّثْنِية والجمع ) ،وهناك قسم ثالث لم يدرجه أغلب الدارسين تحت مصطلح معيّن،وهو انتقال الأفعال بين الماضي والمضارع والأمر على غير المنتظر كالذي تلحظه في الآيات الآتية: ?( أتى) أمر الله (فلا تستعجلوه) ? ? ويوم (يُنْفَخُ )في الصُّور (فَفَزِعَ) من في السموات ومن في الأرض? ? ألم تر أنّ الله (أنزل) من السماء ماء (فتصبح ) الأرضُ مخضرّة?.
أما بالنسبة لأقسام الالتفات الأخرى التي اقترحتها ، لِمَا يُلْحَظُ فيها مِنْ حَرَكِيَّةِ الالتفات وعدوله على وجه لم يُتَوَقَّع ،فهي على الترتيب الآتي:
أ?- الالتفات الدلالي: وذلك حين يناوب السياق بين لفظين مترادفين أو متقابلين في نصّ واحد لمناسبة ما،كمناسبة الضياء للشمس،والنُّورِ للقمر في قوله تعالى :?هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا ? ومناسبةِ السَّنَةِ للألف ،والعامِ للخمسين في قوله تعالى :? فلبث فيهم ألف سنة إلّا خمسين عاما ?،ومناسبة الإكمال للدين ،والإتمام للنعمة في قوله تعالى:? اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي... ?. وتأمَّل مثلا قوله تعالى: ? مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون?البقرة/ 18 تَجِدْ السياق ذَكَرَ النار وضياءها ثم قال: ? ذهب الله بنُورهم? دون أن يقول: “ بِنَارهم أو ضِيائِهم”،مَعَ صريح اللفظ قبلها: ? فلما أضاءت ما حوله? ؛لأن سَلْبَ النور هنا عنهم أبلغُ في نفي الخير عنهم، وأنهم من أهل الظلمات، الذين لا نور لهم؛ فإن الله تعالى سمّى كتابه نوراً، ورسوله نورا، ودينه نورا، ومن أسمائه النور والصلاة نور. فذهابه سبحانه بنورهم: ذهاب بهذا كله. كما نلاحظ في هذه الآية اِلْتِفاتًا من المفرد إلى الجمع. من المفرد في قوله: ? الذي استوقد? وفي ?ما حوله? إلى الجمع في قوله:? بنورهم ?. فلعل في ذلك إيماءً إلى أنّ موقد النار هنا هو الداعي إلى الخير،الحريص على نجاتهم ، لكن القوم حوله نكصوا على أعقابهم فذهب نورهم دون نوره .فلهذه التلوينات أسرار ونكت تشحذ الأذهان وتفتّق القرائح وتمتع النفوس فلكل اِلْتِفاتَةٍ مناسَبَةٌ.
ب?- الالتفات بالصيغة: وذلك حين يعدل السياق عن صيغة إلى صيغة أخرى،في العبارة الواحدة أو بين نصين متشابهين ؛فمثلا نجد القرآن آثر?صبارٍ شكورٍ? على(صبور شكور)و(صبور شكار)و(صبار شكار). لاشكّ أنّ هناك مناسبةً مَا،بين الموقع واختيار صيغة دون صيغة،وإن خفي علينا.وهو مما يجدر بحثه.وهو باب فسيح أشرتُ إلى طرف منه في المؤلَّفِ المذكورِ آنفاَ.
ج?- الالتفات الإعرابي: . وذلك حين يخالف لفظٌ ظاهرَ موقِعِه الإعرابي في السياق نحو قوله تعالى?لنبيِّنَ لكم ونُقِرُّ في الأرحام ما نشاء.. ? برفعِ(نقرُّ) والظاهرُ نصبُها عطفاً على (لِنُبَيِّنَ) ولكنْ عُدِل عنه لمعنى خفيٍّ.وكذلك عُدِلَ عن النصب إلى موضع الجزم في قوله تعالى: ?فأصَّدَّقَ وأكنْ من الصالحين?وكان المتوقّع (وأكونَ) لمعنى مراد.والله أعلم.
د?- الالتفات الخطي: وذلك حين نتوسّم في رسم القرآن لبعض الكلمات، التي تكتب تارة بزيادة حرف أو بحذفه في موضع ، وبُترَك ذلك في موضع آخر. وتُرسم لفظة بتاءٍ مبسوطة هنا، وبتاء مقبوضَةٍ هناك...وما إليه مما يتعلق بقواعد الرسم والإملاء ؛ مما يَلْفِت أنظارَ المتأملين ويسترعي انتباهَ المُتدَبِّرِين، فيتساءلون عن العلة والحكمة .
وباعتبار ما سبق ،تصبح أقسام الالتفات سبعة وهي: الالتفات بمقامات الضمائر ،وبالعدد ،وبالأفعال والحدوث ،وبالصيغة ، والالتفات الدلالي ، والإعرابي،والخطي.وقد يضاف إليها الالتفات بالنوع (التذكير والتأنيث) .والله الموفق والمستعان، وهو أعلم بمراد الآيات.
قد ذكرتم أنَّ دراستكم في أطروحة الدكتوراه، اهتمّت بظاهرة “التكرار” في القرآن الكريم، وهذه الظاهرة كثيرًا ما يُحْكَمُ عليها في الأساليب الأدبية بالسلبية سواء تكررت “ الضمائر، أو الأفعال،أو الأسماء أو الجمل “ فما تقول في تكرار القرآن ؟.
إذا نظرنا إلى التكرار من منظوره العام فيما يكتبه الناشئة و بعض الأدباء فأغلبه إخلال وعجزٌ وإملال ، بينما هو في القرآن الكريم في غاية الإعجاز والإجلال؛ إذ تتجلى فيه البلاغة في قمتها . ولستُ أقول هذا من باب التقوى ومُجاراة الحكم العام السائد على بلاغة القرآن فحسب ،فذاك حقّ،ولكنْ بعد دراسة وممارسة ومعاينة لطائفة كثيرة من بلاغة التكرار وأسراره . هذا، وَمَا لَمْ أَسْعَدْ ،بعدُ، بالوقوف عليه أكثر.
بحكم ملازمتكم للقرآن الكريم بحثًا وتدريسًا، بالإضافة إلى الوعظ والإصلاح الاجتماعي ، فما الجديد الذي أضافته دراستكم على الصعيد العلمي و الاجتماعي ؟
أمّا بالنسبة لأسلوب الالتفات في القرآن الكريم فقد قمت بضبط مفهومه بعد أن كان مُرْتَبِكًا مُهلهلاً ،يتداخل مع صور ومباحث بلاغية أخرى،.كما اقترحت أقسامًا أخرى للالتفات تُمكن الدارسَ والباحثَ من الاستفادة من هذا الأسلوب ،كما تُكسِب الكاتبَ آليةً جديدة يوظفها في التعبير حسَبَ ما تقتضيه المقامات،مسترشدا ببعض الضوابط؛ حتى لا يكون الخائض فيه مجازفاً يقتحم الحمى على غير هدى . وقد صدق مَنْ وَسَمَ الالتفاتَ بالشجاعة العربية. وقد أوقفني تحليلُ بعضِ النماذج الالتفاتية على صورٍ من الأخلاق الاجتماعية الخفية جدا ، والتي أَعُدُّها أساساً لِلْعِشْرة والاجتماع.
أمّا بحث ظاهرة التكرار في القرآن الكريم ، فإنه يمكّن من رفع الحرج على مستعمِله إذا فَقه أغراضَه وأسرارَه، وتَذَوَّق جماله .وفي النماذج التكرارية مواقفٌ اجتماعيةٌ جمَّة ،وللتكرار أثر بليغ في ربط الصلات الاجتماعية ،والتأثير على الأفراد؛ فكثيرا ما يلوذ به الخطيب، ويلجأ إليه المعلّم والأستاذ.
هل تجدون أثرا للقرآن على الناس فيما تقومون به من وعظٍ وإصلاحٍ لذات البين؟ وما مدى الاستجابة للأوامر والنواهي الربانية ؟ وَإِلَامَ تُرجِعُون ذلك ؟
قد يجتهد الواعظ ويلقي بالموعظة والذكرى ، ولكنه لايستطيع أن يقيس مفعولها ولا أن يَتَتَبَّعَ أثرها ، لعدم توفر الآليات و الوسائل الموضوعية لذلك، غير أنّهُ قدْ يَلْمَحُ أثرَ بعضها في سلوك أشخاص، أو فيما يُبوح له به بعض الناس من أثَرٍ لتلك الموعظة في توجيه حياتهم وهو أمر يُشجع الواعظ ؛ فإنَّ لِصِنْفٍ من الناس فضلاً على الواعظ والخطيب ، بتشجيعهم إياه ،وتسديد مسار خطاه ، بطريق غير مباشر؛وإَنْ كَانَ الأسلم له ألّا ينتظر من الناس مدحا ولا قدحا ?وقليلٌ ما هم? ؛ وإنّما يرجو قبولها من المولى عزَّ وجل الذي وفّقه فيها ، وأعان عليها ، وفتح القلوب وشرح النفوس وجعل لها القبول. وعلى الواعظ أن يجتهد في أن يُخلِص عمله لله تعالى فهو الكفيلُ بأثره.
وللقرآن سلطان على القلوب وتأثير في النفوس بلا ريب ؛غير أنّ الله عزّ وجلّ جعل سُنناً لتحقيق ذلك، منها ما يتعلق بالواعظ المذَكِّر كالصدق والإخلاص وما إليهما..ومنها ما يتعلق بالمتلقِّي؛ذلك أنّ الموعظة والتذكير يؤثِّران في المتلقي على قدر إيمانه وتقواه،وخشيته وخوفه ؛ قال تعالى:?فإنّ الذكرى تنفع المؤمنين? وقال:? هدًى للمتقين ? ،وقال:? سيذّكّر من يخشى ?، وقال: ? فذكّر بالقرآن من يخاف وعيدِ?.ولا تنفع الذكرى مُعانِدا مستكبرًا ?سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق? والأمر بعد ذلك كله لله ، يهدي من يشاء، ولا فضل للداعية في الاستجابة والهداية على وجه الحقيقة، وإن نسبها الله إلى المبلّغ تفضّلا وتكرّما. ولعلّ من مظاهر هذا المعنى أن وجدنا من لا يستجيب للأنبياء وهو من أقرب الناس إليهم ؛كولد نوح عليه السلام وامرأته ،وامرأة لوط عليه السلام ،وكأبي لهب وأبي طالب عمَّيْ النبيِّ صلى الله عليه وسلم. فليس لأحد بعد هذا أن يدّعيَ ويقول :أنا هَدَيْتُ فلاناً ؛ وقد قال صلى الله عليه وسلّم لعليٍّ رضي الله عنه :لأن يهدي الله بك رجلا واحدا،خير لك من حمر النعم “ ولم ينسب الهداية إلى عليّ.
والسبب الرئيس في الاستجابة وعدمها يرجع إلى توفيق الله أوّلًا، ثمّ إلى مدى إخلاص الداعية، وإلى درجة غفلة المدعوِّ. فما بُلِيَ الناس بأشدَّ من داء الغفلة ?ولا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قلبَه عن ذِكْرِنا? ،?الذين كانت أعينهم في غِطَاءٍ عن ذِكْرِي?.والله أعلم بالصواب..
من خلال معرفتكم بواقع الأدب واللغة العربية على الخصوص. كيف تُقيّمون المستوى اللغوي لدى الطلبة الجامعيين ؟.
مستوى اللغة العربية مُتدنّ إلى درجة يشهد بها أهل الاختصاص في أغلب الوطن العربي، ويرجع ذلك إلى أسباب عديدة ،يحتاج تشخيصها إلى اجتماع أهل الاختصاص ودراستها دراسة مستفيضة . وعلى كل حال، فإنَّ مِمَّا يحضرني الآن حسب رأيي المتواضع أنّ منها ما يتصل بالأستاذ والبرنامج، ومنها ما يتعلق بإستراتيجية المنظومة التعليمية ، وبما له صلة بالطالب واهتماماته؛فهناك مثلا فيما يتعلق بالبرنامج ما يرجع إلى الحصيلة اللغوية المقدمّة وتطبيقاتِها ، ثمّ إلى عدم استقرار البرنامج لفترة تُمَكِّنُ من هضم البرنامج الجديد والإحاطة بمباحثه ،وتمثله تمثُّلا يمكّن من تقديمه للطالب واضحا ميسورا يُعِدُّهُ لقطف ثماره. ولعل اختلال هذا الجانب ،هو السبب في ضعف المتابعة والاهتمام الذي نلاحظه لدى الطلبة ،إلى جانب افتقاد المحيط اللغوي الحاضن للغة والمُشَجِّع على الاستعمال والتداول. وهو ما يتمتع به كثير من اللغات الأجنبية. فضعف المستوى عموما مسؤولية الأمة وأهلِ الذّكْرِ فيها.
في ختام هذا اللقاء، هل من كلمة توجهها للمجتمع الجزائري ؟
لا شكَّ أنّ حفظَ الآيات ومداومةَ تلاوتِها عبادةٌ عظيمةٌ ، تستقيم بها الأساليب، وتُكْسِب صاحبها ملكةً لغوية سليمة .ولكن ندعو أمّةَ الفرقانِ أنْ تَدْرُسَ القرآن الكريم، وتتدبّر آياتِه بُغْيَةَ الاهتداء ، والعملِ بِهِ والاقتداء، حتى نعيشَ معانِيَ القرآن سلوكا وواقعاً في حياتنا،فقد أُنْزِلَ القرآن لِيُعْمَلَ به ؛ وكان نبيُّنا وقدوتُنا عليه الصلاة والسلام قرآنًا يمشي بين الناس . فالقرآن الكريم هو السبيل الوحيد لسعادة الدارين؛ فقد أوصانا ربُّنا بهذه الحقيقة يومَ أَسْكنَ آدمَ الأرضَ ووصّاه ? فإمَّا يَاتِيَنَّكُمْ منِّي هدىً فَمَنْ تَبِع هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ? سورة البقرة، الآية 38? فإمَّا يَاتِيَنَّكُمْ منِّي هدىً فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَاَ يَشْقَى? سورة طه، الآية 123.فَمَنْ تمسّك بكتاب الله فله السعادة والسرور ،والأمان والحبور،وصدق الإمام الشافعي رحمه الله حين قال:« فلَيْست تنزل بأحَدٍ مِن أهلِ دِينِ اللهِ نازِلةٌ ، إلاَّ وفي كتابِ اللهِ الدليلُ على سَبِيلِ الهَدْيِ فيها”. جعلنا الله وإبّاكم من أهل القرآن وخاصّته.آمين.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.