عجبا للشعوب كيف صارت تساق مثل الخراف، وتقاد إلى حتفها بظلفها خلف رايات كاذبة، نراها تنجح كل مرة في تسفيه أحلام المستضعفين، وتُصرفهم عن التشخيص السليم لواقعهم، والتمييز بين الصديق والعدوّ، وبين الفريسة والظل، وبين ما يحتاج إلى معالجةٍ آنية لا تحتمل التسويف، ومطالب وحاجات مشروعة تحتاج بالضرورة إلى الوقت، وإلى مراكمة الوسائل والخبرات. بعد حين، سوف نحتاج إلى وقفة مع الذات، نتدبَّر فيها بموضوعية وبرودة دم جملة المطالب والشعارات التي رُفعت في هذا الحَراك، وكيف نجحت “اليدُ الخفية” في تسويقها لشارع حرّكته بأمانةٍ أوجاعٌ حقيقية، ومظالم كثيرة، لينتهي بعد جهد بشعار واحد أحد: “إسقاط المسار الانتخابي” مع دعوة كاذبة خاطئة إلى بناء “دولة مدنية” تؤسسها “نخبة مجهولة الهوية” داخل غرفٍ مظلمة. المتهمون في هذا الحراك كثر أبرزُهم حكم “جيل طاب جنانو” من المعمرين، قد غلّق الأبواب في وجه جيل يريد نصيبه من متاع الدنيا من غير مماطلة أو تسويف، وفي غمرة عراك الحراك مع نفسه، وضجيج المطاحن الهوائية على صفحات “فيس بوك” ضاعت الرؤية، وانساق الجميع لمطاردة الظل بدل الفريسة. على الأقل، كانت الرؤية أوضح في حَراك أكتوبر منذ ثلاثين سنة خلت، حتى وإن كانت قد زُوِّرت عشية خروج الناس للشارع للمطالبة برحيل نظام الحزب الواحد، والتحرر من “الاشتراكية خيار لا رجعة فيه” وقد حمل الحزب الواحد والمتشابه من “الاشتراكية” وزر حالة الانسداد، ومراوحة الدولة والبلد داخل دائرة فارغة، فيما لم يلتفت حراك فبراير إلى الجهة المسؤولة عن استشراء الفساد والمفسدين، واستبداد نخبة من المعمِّرين بالسلطة والثروة. للأمانة، هذا هو حال جميع الثورات الملوَّنة المصابة بعمى الألوان وهي بلا لون أو طعم، من أوروبا الشرقية التي استبدلت الحكم الشيوعي المغلق في السياسة وفي اقتسام الثروة، بنظام رأسمالي متوحش لا يقلُّ استبدادا عن سلفه في استئثار النخبة بالسلطة والثروة، إلى ثورات “الربيع العربي” التي استبدلت أنظمة حكم مستبدة كانت تشتري السلم مع شعوبها بضمان الحد الأدنى من الخدمات، بأنظمة حكم قاصرة تشتري السِّلم من شعوبها بالتسويق غير المكلف لحرية التعبير، وبممارسة منقوصة لسلطته التأسيسية ليوم واحد. ولأنَّ الحَراك الشعبي -عندنا وعند غيرنا- لم يكلف نفسه عناء تشخيص أوضاع البلد، والبحث عن موطن الخلل فيما نعاني منه من تراكم للأزمات، ومن قصور فظيع في تدبير شؤون البلد، فإن خيار السلطة القائمة للحل الدستوري، بتنظيم انتخابات رئاسية تعيد الاستقرار لمؤسسات الدولة، يبقى أفضل من خيار الانتقال الأعمى خارج الدستور، بقيادةٍ تختارها صفوة مجهولة، من نخبةٍ لا نعلم عنها شيئا، وقد حُرم في الحالتين من فرصة مراجعة الخيارات التي سلمنا بها على عجل في تسعينيات القرن الماضي دون حساب لمآلاتها. وحتى يطمئنَّ الجميع، فإن كلا المسارين ليس بوارد مواجهة الآفات التي أحصاها الحراك جمعة بعد جمعة، لأنها محض أعراض لمرض عضال، لا تريد النخب المهيمنة أن نشخِّصه، ونبحث له عن علاج أو بديل، ومع ما يظهر من خلاف بين أنصار الانتقال عبر الدستور، وأحباب “الانتقال الديمقراطي” خارج إكراهات الديمقراطية، فإنهم جميعا على وفاق تام، من جهة إيمانهم الذي لا يقبل نقاشا بالديمقراطية التمثيلية القاصرة كنهاية للتاريخ ولاجتهاد الفكر السياسي، وبالليبرالية كنموذج لا بديل عنه في تدبير الاقتصاد، وإنتاج الثروة واقتسامها قسمة ظيزى. ولأن أهل الحَراك، مثلهم مثل “شعب الكنبة” لم يرتقوا بوعيهم إلى العمل بمنطق ترتيب الأولويات، والتمييز بين العاجل والآجل، وبين الخصم والصديق، وبين الفريسة والظل، فينبغي أن لا نعول كثيرا، لا على نجاح المسار الدستوري، سوى من جهة ما يعِدُ به من تأمين البلد من الفوضى، وترميم الواجهة ببعض الطلاء والمساحيق، ولا على وعود من يقاول باستماتة بأدوات الفوضى لتعطيل المسار من دون أن يقدِّم بديلا معلوما لشعب الله المحتار.