آلاف المساجين يجتازون البكالوريا    الاستماع إلى عروض تتعلق بعدة قطاعات    الجيش يواصل تجفيف منابع الإرهاب    الجزائر نموذج للاستدامة الخارجية    نحو بلوغ 15 ألف كيلومتر من السكك الحديدية    سفينة الشحن سدراتة ترسو بميناء الجزائر    قافلة الصمود تعكس موقف الجزائر    قافلة الصمود تتحدّى بني صهيون    رانييري يرفض تدريب إيطاليا    اختبار مفيد رغم الخسارة    جهود لتعزيز تدابير الوقاية وآليات الرقابة    461 شاطئاً مسموحاً للسباحة    جمع 721 ألف كيس من الدم في عام واحد    قضية الصحراء الغربية تبقى حصريا "مسألة تصفية استعمار"    المصادقة على مخطط العمل الوطني الخاص بموسم الاصطياف 2025    رفعنا تحدي ضمان التوزيع المنتظم للماء خلال عيد الأضحى    غزة: استشهاد أكثر من 24 فلسطينيا وإصابة العشرات    الفواكه الموسمية.. لمن استطاع إليها سبيلاً    الارتقاء بالتعاون الجزائري- الكندي إلى مستوى الحوار السياسي    الرباط تحاول فرض الدبلوماسية الصفقاتية    الاحتلال الصهيوني يتعمّد خلق فوضى شاملة في غزّة    تطوير شعبة التمور يسمح ببلوغ 500 مليون دولار صادرات    شراكة جزائرية - صينية لإنتاج القطارات    فلاديمير بيتكوفيتش: سنستخلص الدروس من هزيمة السويد    ميسي أراح نفسه وبرشلونة    تأجيل النهائي بين ناصرية بجاية واتحاد بن عكنون إلى السبت    إنجاز مقبرة بحي "رابح سناجقي" نهاية جوان الجاري    المرأة العنابية تحيك التاريخ بخيوط الفتلة والذهب    "الطيارة الصفراء" في مهرجان سينلا للسينما الإفريقية    تأكيد على دور الفنانين في بناء الذاكرة    برنامج نوعي وواعد في الدورة الثالثة    "كازنوص" يفتح أبوابه للمشتركين من السبت إلى الخميس    رحيل الكاتب الفلسطيني علي بدوان    تحسين ظروف استقبال أبناء الجالية في موسم الاصطياف    رئيس مجلس الأمة يستقبل سفيرة كندا لدى الجزائر    عنابة: عودة أول فوج من الحجاج عبر مطار رابح بيطاط الدولي    انطلاق التظاهرة الفنية الإبداعية "تيندا 25" بالجزائر العاصمة    جبهة البوليساريو تؤكد أمام لجنة ال24 : الشعب الصحراوي لن يتخلى أبدا عن حقه في تقرير المصير والاستقلال    القرآن الكريم…حياة القلوب من الظلمات الى النور    فتاوى : أحكام البيع إلى أجل وشروط صحته    اللهم نسألك الثبات على الطاعات    كرة القدم/ كأس إفريقيا 2025 (سيدات) : اختيار ثلاثة حكام جزائريين لإدارة مقابلات البطولة القارية    جريمة فرنسية ضد الفكر والإنسانية    قِطاف من بساتين الشعر العربي    صور من مسارعة الصحابة لطاعة المصطفى    آيت نوري: أتطلع للعمل مع غوارديولا    معرض أوساكا العالمي : تسليط الضوء على قصر "تافيلالت" بغرداية كنموذج عمراني بيئي متميز    كأس الجزائر للكرة الطائرة (سيدات): ناصرية بجاية من أجل التأكيد وبن عكنون بحثا عن تحقيق انجاز غير مسبوق    صحة: اجتماع تنسيقي للوقوف على جاهزية القطاع تحسبا لموسم الاصطياف    جيشنا هو الدرع الواقي للوطن وضامن وحدته وسيادته واستقلاله    14 ولاية ساحلية معنية بمخطط خاص بالرقابة و التموين    نسعى لتشجيع الابتكار وعصرنة تربية الماشية النادرة    متابعات قضائية في حالة التشهير والاستغلال الإعلامي للقصر    الفنانة التشكيلية نورة علي طلحة تعرض أعمالها بالجزائر العاصمة    الاستفادة من تجربة هيئة الدواء المصرية في مجال التنظيم    الجزائر تودع ملف رفع حصة حجاجها وتنتظر الرد    تحديد وزن الأمتعة المسموح به للحجاج خلال العودة    لماذا سميت أيام التشريق بهذا الاسم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



جان عمروش ومأساة.. الانسلاخ
نيشان
نشر في الشروق اليومي يوم 06 - 03 - 2010

"التمزّق" كلمة تتردد كثيرا في يوميات جان عمروش(*) الأمازيغي أصلا ووراثة، والفرنسي المسيحي بالثقافة والنشأة والتربية. تمزّق بين "الموهوب عمروش" و"جان عمروش"، ازداد حدة غداة ثورة فاتح نوفمبر 1954، بعد أن احتدّ الصراع بين الجزائر وطنه الأصلي وفرنسا وطن التبنّي.
ولد "جان الموهوب" سنة 1906 بإيغيل علي (الصومام) من أبوين متنصّرين، أغلب الظن أنهما من أيتام الغزو الفرنسي بالناحية الذين جمعهم "الآباء البيض" هذا السلك الديني الكاثوليكي الذي أسسه الكاردينال لافيجري في منتصف الستينيات من القرن 19 لتنصير القارة الإفريقية وربّوهم على الديانة المسيحية والثقافة الفرنسية.
ولما شبّ وبلغ مرحلة الوعي بالذات في جزائر الاحتلال، وجد نفسه حسب قوله "أمام استحالتين":
- "استحالة الرجوع إلى مجتمعه الأصلي وديانته الإسلامية" من جهة.
- "استحالة الاندماج في مجتمع المستوطنين" من جهة ثانية
ولتفادي هذا الواقع المزدوج المرفوض، وجد نفسه بصفته "مستعمَراً مقتلَعا من أرومته" أمام نماذج تاريخية، هي عبارة عن "نماذج أسطورية لتاريخ فرنسا وللكتاب المقدس" (الإنجيل)..
حاول التشبّه بعض الوقت بهذا "الخليط الأسطوري الديني والتاريخي". لكن هذا "الخليط" ما لبث أن اصطدم بالكائن الفطري والموروث العائلي "الذي يفرض نفسه على الخلَفِ بطريقة غريبة"!
وأمام الانبعاث القوي "للأنا الموروث" حاول "جان الموهوب" التنصّل من النموذج المكتب المسيحي الفرنسي؛ "حاول أن يعيش حسب حقيقة أصله وطبيعته الأمازيغية".. وبناء على ذلك أصبح يتساءل من جديد: "من أنا؟". وراح يبحث عن الجواب في "قراءة ماضٍ يجهله، لكنه يعيشه في ذاته ويؤثر فيها.. بدون أن يشعر، حتى أنه يملي عليه أن يفعل كذا وألا يفعل كذا".. انتبه الكاتب والشاعر أن هذا الماضي "جزء أساسي راسخ من ذاته.. جزء متواصل من حوله وفي محيطه المباشر".
وقبل "انتفاضة الأنا الموروث" كان "جان عمروش" يسعى بشغف إلى الاندماج في المجتمع الفرنسي، حتى أنه أصبح يصرّح بأنه "أكثر الجزائريين اندماجا في فرنسا".. لكه ما لبث أن أدرك حدود هذا الاندماج، ما جعله يعترف ببعض الفشل في ذلك. ويصف لنا حاله تلك بقوله: "إن الاقتلاع العنيف الذي حدث لي، أجبرني على أن أعيش منذ الصبا ليس مشاكل التكيف والاندماج في مجتمع أجنبي وحسب، بل أن أعيش كذلك بعمق أكبر مشاكل التأصُّل الإنساني وعلاقته بتماسك شخصية الفرد".
لقد كان حسب قوله يحاول أن يكون إنسانا آخر منافيا لحقيقته، لكنه كان في نفس الوقت يشعر بمقاومة جوّانية ورفض عنيف. وبعد فترة من هذا الصراع الذاتي اهتدى إلى وصف ما كان يشعر به من خلال العبارات التالية: "كأنني أحمل في ذاتي كائنا سابق الوجود، لكن لا البذلة ولا التربية العصرية التي أريد أن ألبسه إياها كانت على مقاسه..!".
هذا التمزّق والصراع الذاتي الناجم عنه ازداد حدّة بعد اندلاع ثورة التحرير.. لقد اضطرّته أحداثها وتداعياتها إلى اتخاذ مواقف جريئة خاصة ضد التعذيب، ومن أجل حل ديمقراطي للقضية الجزائرية عبر استفتاء تقرير المصير.. وكانت لذلك عواقب عائلية وإدارية:
- عائلية، إذ تلقّى رسالة في 11 فبراير 1956 من عائلة زوجته ردّا على موقفه من القضية الجزائرية.
- في تجمع للمثقفين المناهضين للحرب انعقد بباريس قبل أسبوعين، تعتبر ما صدر منه "خيانة لفرنسا وللعائلة" في آنٍ واحد! وتعلن بناء على ذلك أنه بعد الآن "ليس منها وليست منه"!
- إدارية مهنية بطرده من "إذاعة فرنسا" في نوفمبر 1959، بأمر من ميشال دوبري الوزير الأول شخصيا.. كان الكاتب الشاعر قبل ذلك قد عبّر عن مواقفه ومأساته في رسالة إلى الكاتب الكبير فرانسوا مورياك بتاريخ 21 ديسمبر 1955 بقوله: "أنا لا أمثّل أحدا فيما اقترح، ما أنا إلا ضميرا معذبا وروحا ممزقة"..
ونجد نفس النبرة والانكسار بعد نحو سنة ونصف في رسالة إلى الكاتب الصحفي بيار أنري سيمون جاء فيها: "أراسلك باسم أقلية ممزّقة، ليست من المسلمين ولا من الأوربيين؛ أقلية لا تثير اهتمام أحد"..
ورغم أنه تحمّس لعودة الجنرال دوغول إلى الحكم في ربيع 1958، وعرض وساطته على حاشيته بفضل سابق معرفته بكريم وعباس فرحات فإنه لم يثر كبير اهتمام لا من هؤلاء ولا من أولئك. وسجل ذلك بمرارة في 28 مايو 1961 من جنيف حيث ذهب لمتابعة وقائع الجولة الأولى من مفاوضات إيفيان إذ يقول: "لا أحد من المتفاوضين يعتبرني منه، ويعتبر أو يتشرّف بي.. فلا إشارة من دوغول! ولا حتى وصل استلام من باب الأدب!.. أما الآخرون (الطرف الجزائري) فالموت أفضل إليهم من أدنى إشارة إلى كتاباتي"!..
هذا التجاهل المزدوج أنه كان يعبّر عن مأساة الانسلاخ عن الأصل بكل فظاعتها، فإنه مع ذلك لم يمنع الكاتب من التعبير عن سعادته وارتياحه لانطلاق المفاوضات المفضية إلى الاستقلال، مقدّرا أنه حقق الهدف الذي ما انفك يسعى إليه، وأن مهمته قد انتهت بذلك.
(*) صدرت في الخريف الماضي عن دار "ألفا" (بالفرنسية).


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.