الاحتفال أو الاحتفاء بالمنجز التاريخي للشعوب قيمة اجتماعية وثقافية وإنسانية تتجاوز في تجلياتها الواعية والعميقة طقوس وشعائر فرائحية وفلكورية، وإن كانت هذه الطقوس أيضا ضرورية لإشاعة أجواء من الزهو والفرح والفخر بالانتماء لهذا الوطن وهذه الأرض. لكن الفحص والتدبر في مرحلة مهمة من تاريخ الجزائر، وهي مرحلة بناء دولة الاستقلال والحرية ، فحصا هادئا متبصرا وبعيدا عن أي محاكمات أو تصفية حسابات مع التاريخ والماضي هو الذي قطعا سيساعدنا في أن ننطلق نحو أفق أرحب وأوسع يتأسس ويتأسى باستخلاص العبر والدروس، وعندها يمكننا أن نتوقف على المنجزات ونقول للمحسن أحسنت ونضع يدنا على مكامن العطب والخلل علنا نوفق في اقتراح الحلول. خمسون سنة في عمر الشعوب والأمم ليست بالعمر الطويل ، وخاصة حينما يتعلق الأمر بأمة وشعب تعرض طوال القرون الماضية إلى محاولات متلاحقة ومتكررة من الضيم والعدوان، فالثابت تاريخيا أنه لم تتعرض دولة أو أمة في المنطقة إلى هجمات ومحاولات استعمار واستيطان مثلما تعرضت له الجزائر ، وربما أن لهذا الأمر ما يفسره، لكن قطعا ليس له مايبرره.. فالنعم والخيرات التي حبا الله بها هذه الأرض جعلت منها وعلى مر الأزمنة والعصور مطمعا وهدفا للعديد من الغزاة والطامعين الواهمين بقدرتهم على تطويع هذا الشعب وإدخاله في ظل إمبراطورياتهم ودولهم ، لكن هيهات أن يتأتى لهم لذك. لقد قدم هذا الشعب منذ آلاف السنين صور ملحمية وأسطورية في الدفاع عن الأرض والعرض، وهي كلها محطات ومنعطفات تستحق أن نقف عندها مطولا بالبحث والدراسة والتوثيق المكتوب وكذا الرقمي، دون أن نغفل أو نهمل أهمية التوثيق التلفزيوني والدرامي والسينمائي.. ووسط كل هذا الزخم التاريخي والإنساني والحضاري التي حفل بها تاريخ البشرية جمعاء على امتداد مئات القرون تبقى هناك حقيقة راسخة لا ينكرها إلا جاحد أو غيور وهي أن الانسان الجزائري أثبت وفي كل المحطات والاختبارات التي خاضها.. مهما زادت أو نقصت قسوة وصعوبة هذه الاختبارات أنه من معدن وتركيبة خاصة ؛ فهو لا يقبل أو يرتضي الخنوع والخضوع أو الذل ، ومن أجل الكرامة والحرية مستعد على الدوام لتقديم الغالي والنفيس للحصول على استقلاله .. وقد فعل. اليوم نتوقف لنستعيد ونسترجع ذكريات عديدة وأحداث كثيرة حفلت بها خمسون سنة هي عمر الجزائر المستقلة والحرة.. وقفة في عنوانها العام احتفاء واحتفال وفي تفاصيلها وجوهرها مراجعة وتدبر من دروس الماضي لوضع رؤية ناضجة وواعية وطموحة لأحلام وخطط المستقبل. قد يقول قائل أن الاحتفال بالذكرى الخمسين للاستقلال مجرد مهرجانات وكرنفالات ، فليس هناك في جزائر الاستقلال ما يستحق الاحتفاء والاحتفال مثلما يحاول بعض ذوي النفوس المريضة أن يسوقوه ويزرعوه في عقول ووجدان شباب الاستقلال ، وعادة ما يحاول دعاة التيئيس والمذهب العدمي الذي يكاد ينكر وجود الشمس إن هي جاءت على غير هواه للتدليل على أطروحاتهم بالمشاكل التي لا تزال تعاني منها الجزائر، غافلين أو متغافلين عن قصد أن بلادنا كانت مذ أكثرمن عشر سنوات فقط غارقة في أتون أزمة أمنية واقتصادية كادت تعصف بأركان الدولة ، ولولا جهد وتضحيات أبناء هذا الوطن المخلصين الذين دفع بعضهم روحه ثمنا لتستعيد الجزائر أمنها واستقرارها. وسيكون من الإجحاف والنكران أن نبخس حق كل من قدم أو حاول أن يقدم شيئا لهذا الوطن ؛ من أعلى مسؤول إلى أبسط مواطن في أقصى نقطة في بلادنا طوال السنوات الخمسين الماضية ؛ فحجم التجريف الاجتماعي والثقافي والاقتصادي الذي مارسه المستعمر الفرنسي ترك الجزائر تتخبط في جملة من المشاكل المعقدة والمركبة على مختلف الأصعدة والمستويات واحتاجت ولا زالت تحتاج لجهد سنوات أخرى قادمة وعلى قدر المشاكل الصعوبات التي ورثتها الدولة الجزائرية الفتية في سنوات الاستقلال الأولى كان الجهد والعمل في سبيل بناء دولة لا تزول بزوال الرجال. وقطعا إن ندوب وجراح 130 سنة من الاستعمار والاستدمار الفرنسي البغيض لا يمكن أن تندمل أو تزول في خمسين سنة من التعب والعمل ، ومع ذلك فالذي تحقق إلى حد الآن يستحق كل التنويه والإشادة. وإنه من الضروري بما كان ونحن نحتفل اليوم بهذه المناسبة الغالية على قلوب كل الجزائريين أن يكون الجانب الأكبر من التوقف عند هذه الذكرى في شكل مراجعة وتقييم لما فات وتخطيط ودراسة ، وربما يكون الشباب الجزائري على وجه التحديد المعني الأكبر باستخلاص الدروس والعبر من تجربة التحرر من الاستعمار وكذا مجهود نصف من العمل والجهد لإنجاز دولة جزائرية قوية متصالحة مع ماضيها، مستوعبة لكل تحولات وتحديات حاضرها وطموحة إلى مستقبل أحسن وأفضل. إن الأمم والشعوب التي سبقتنا على طريق الازدهار والتنمية إنما فعلت ذلك لأنها راهنت في المقام الأول على الإنسان عن طريق تكوينه وتسليحه بشتى أنواع المعرفة والعلوم ، وإذا كانت معركة التحرير التي خاضها آباؤنا بكل جدارة وتمكن وقدموا أروع الصور في سبيل التحرر من المستعمر، فإن الرهان اليوم على شباب الجزائر لكي يقوم بواجبه تجاه وطنه وأرضه ولن يتأتى له ذلك إذا ما بقي غارقا في أوحال صراعات مزيفة خلقتها واصطنعتها بعض الدوائر التي لا تريد الخير لهذا الشعب في سبيل خلق حاجز بين جيل الشباب وجيل الثورة. إن التصالح والفخر بماضي الأجداد والإمساك بناصية المعرفة والعلم وكذا التعامل مع هذه المرحلة التي تمر بها بلادنا بوعي ونضج هي المدخل الصحيح لانخراط شباب هذا الوطن في معركة البناء. سليم بوزيدي * شارك: * Email * Print