شكل قرار فتح القطاع السمعي البصري في بلادنا موضوعا للنقاش الذي لم يظهر بشأنه الكثير من التباين، كون الجميع متفقا حول المبدأ بينما الاختلاف قائم حول التفاصيل، من يأكل من كتف السمعي البصري، بعد سنوات من العربدة الإعلامية التي مارستها اليتيمة وأخواتها أمام ملايين المشاهدين الجزائريين؟ وهل تلفزيونات التعددية ستكون في مستوى ما يطمح إليه الغاشي في بلادنا أم سيكون منتوجا على طريقة صحافة السوابق العدلية؟ تخوفات يرى البعض أنها مشروعة على ضوء تجربة مريرة للصحافة المكتوبة امتدت على مدار عقدين من الزمن، حيث مارس فريق من الصحافة التطهير اللغوي والسياسي ضد فريق آخر، واستغلت السلطة في عز الأزمة الدموية التي كانت تعصف بالبلاد آنذاك الخلافات الإيديولوجية التي طبعت المشهد السياسي والإعلامي لضرب قطاع واسع من الصحفيين الذين كانوا يراهنون على مصالحة سياسية لإنهاء الأزمة منذ بدايتها، وظهر في الساحة السياسية والإعلامية المصطلح الشهير بسياسة الاستئصال، وهي سياسة إعلامية أسس لها رئيس الحكومة الأسبق بلعيد عبد السلام الذي شن حملة شرسة ضد الصحف الوطنية، وكان أن قررت الحكومة في عهده تعليق نحو عشر صحف من بينها الصحف السبع التي قامت حكومة اقتصاد الحرب في أوت من عام 1992 بوقف طباعتها· والغريب أن الصحف التي تتقاسم الرؤية السياسية مع أركان السلطة القائمة في ذلك الوقت على استئصال كل صوت معارض عادت للصدور، لكن نضال الصحفيين أو فريق منهم تعمد تجاوز هذه الحقبة السوداء، وتجاوز الصحفيون أو فريق منهم المطالبة بإعادة الحقوق المهضومة للصحف التي تم تعليقها، حتى المعالجة والكتابة عن المظالم التي تعرضت لها صحافة العربية كانت محتشمة وفي بعض الأحيان غائبة تماما عن المشهد الإعلامي في بلادنا· وخلال السنوات الماضية من العقد الأخير تشابهت أحداث على هذا النحو، وتعاملت الصحف ونمورها بانتقائية واضحة مع عدة قضايا مست صحفا وصحفيين البعض ساند والبعض الآخر هاجم، وتبين أن الكثير من رجال الإعلام يخضعون قناعاتهم لتأثيرات سياسية لا علاقة لها بالمهنية، بل إن تأثيرات المال غالبا ما تؤثر في صناعة الرأي وهو ما هزم المهنية وأدى إلى بروز تيارات متباينة بعضها موالٍ والبعض الآخر يعمل وفق قناعات سياسية تمليها مصلحة التموقع ضمن الخارطة السياسية لأطراف التي تدير لعبة المعارضة الإعلامية في مواجهة إعلام رسمي بائس لا يلتزم بالكثير من القيم التي تحتكم إليها وسائل الإعلام العمومية، فتتحول من مؤسسات عمومية إلى حكومية تمتزج فيها خدمة سياسة السلطة مع خدمة الأشخاص من المنتسبين إلى الأحزاب التي تشكل واجهة السلطة· هذا الخلط أدى إلى تشكيل صورة نمطية لدى الرأي العام في الجزائر عن الصحافة، إما صحافة حكومة أو معارضة، أي صحافة حزبية، وليست صحافة موجهة لخدمة الإعلام بكل ما تحمله الكلمة من معانٍ، أما تضحيات الزملاء من الصحفيين الذين عملوا في ظروف أدت إلى استشهادهم من أجل الكلمة الحرة فتفرق دمهم بين صحافة المعارضة وصحافة الحكومة، وعلى هذا النحو يتخوف البعض من تجربة السمعي البصري الذي يستنسخ اليوم الصحافة المطبوعة والمال الذي يشكل رافدا مهما في صناعة تلك الصحف قبل أن تتحول إلى مؤسسات تمارس السياسة وتصنع المال· هل سيكون السمعي البصري الطبعة المرئية للصحافة المكتوبة؟ لقد شكل الإعلان عن هوية المؤسسات التي تقدمت بطلبات لإنشاء قنوات إذاعية وتلفزيونية تأكيدا على أن الصحافة في بلادنا فعلت المستحيل من أجل تجاوز حقول الألغام وأن ثمرة نجاحها تعكسه الرغبة في تحدي المستحيل لخوض تجربة السمعي البصري، وأكدت تجربة بعض الصحف القليلة، الخبر والشروق تحديدا أنهما نجحتا في الإطاحة بأكذوبة عجز اللغة العربية في الجزائر عن صناعة التحدي، بينما يبقى الخوف من تكرار تجربة الصحافة المكتوبة لعقد التسعينيات وامكانية ظهور مطبات أكثر خطورة مما مرت به الصحافة المكتوبة والاستغلال السياسي لها من طرف أكثر من جهة، هذا الخوف يظل قائما وسط بروز المال وتحالفه مع العصب السياسية لاحتواء التجربة في قطاع السمعي البصري··· وفي الجانب الآخر لايبدو أن الناس في الجزائر على دين صحافتهم، وإلا كانت اليتيمة في الصدارة، ورغم ذلك فإن أي فشل لتجربة المستقبل يمكن أن يصب في دعم الطرح الرسمي الذي يتجه نحو المزيد من القيود على إنشاء القنوات والإذاعية والتلفزيونية·