عطّاف يلتقي عبد العاطي    أوّل جلسة لبرلمان الطفل    فتح استثنائي لقبّاضات الضرائب    بوابة رقمية جديدة    عبدلي يعوّض عوّار    الكان على التلفزيون الجزائري    50 % من المتعاملين في إنتاج السلع والخدمات هم في 10 ولايات    خنشلة : عملية تحسيسية تزامنا و التقلبات الجوية    انطلاق المرحلة الثانية للأيام الوطنية للتلقيح ضد شلل الأطفال    الاستلاب الحضاري المتواصل..!؟    المدينة الجديدة بالمنيعة.. مشروع عمراني ذكي برؤية تنموية متكاملة وآفاق استثمارية واعدة    بومرداس: مخطط تنموي متكامل لعصرنة المدينة وتحسين الإطار المعيشي    الجزائر وتنزانيا تعززان التعاون الاقتصادي في مجالات الصناعة والنقل والسياحة والطاقة    نحو تعزيز إنتاج الأفلام وترقية الابتكار الشبابي.. وزيرة الثقافة والفنون تعقد لقاءات تشاركية مع صنّاع السينما    الأسرة السينمائية أمام إطار قانوني متكامل واضح المعالم : صدور النصوص التطبيقية المتعلقة بدعم الصناعة السينمائية    المجلس الشعبي الوطني يناقش غدًا مقترحي قانون تجريم الاستعمار وتعديل قانون الجنسية    الصالون الوطني التاسع للفلاحة الصحراوية "أقروسوف" بالوادي : ابراز أهمية المرافقة التقنية في تحقيق منتوج قابل للتصدير    الجزائر- تشاد : توقيع محضر محادثات لتعزيز التعاون في مجالي المحروقات والمناجم    تعزيز التعاون الأمني والهجرة غير الشرعية محور لقاء جزائري–إثيوبي    كيف تعمل مراكز النصب السيبراني الآسيوية؟    الاكتفاء الذاتي الاستراتيجي ضرورة للأمن القومي العربي    الوزير الأول يشرف على مراسم توزيع جائزة رئيس الجمهورية للأدب واللغة العربية في طبعتها الأولى    تلاعب بأوامر الروبوتات يحوّلها لسلاح قاتل!    التحوّل الرقمي على طاولة الحكومة    لا تراجع عن صرف منحة السفر    الجزائر تترقب مواجهة الثأر أمام النمسا    ندوة علمية حول موقع اللغة العربية    مرسوم إنشاء فريق عمل جزائري إيطالي    أمطار مرتقبة في عدة ولايات من البلاد    تيسير عملية اقتناء حافلات جديدة للنقل    ندوة دولية حول "إرساء مراكز الامتياز في التكوين المهني"    فاعل محوري في صياغة الرؤية الإفريقية للأمن الجماعي    ضرورة إيداع طلبات منح التقاعد عن بُعد مطلع 2026    الكيان الصهيوني يستفيد من نظام عالمي لا يعترف إلا بالقوة    تحقيقات واسعة حول عمليات استيراد وتوزيع العجلات    كرة القدم / الرابطة الثانية /الجولة ال13 : مواجهات حاسمة على مستوى الصدارة وتنافس كبير في ذيل الترتيب    شبيبة القبائل توقع عقد شراكة مع مستثمر جديد    الجزائر تؤكد دعمها للصومال وجهود إحلال السلام    دعوة ملحة لإعادة إعمار غزّة    توقيع اتفاقية شراكة مع اتحاد إذاعات الدول العربية    فتاوى : الواجب في تعلم القرآن وتعليم تجويده    إنه العلي ..عالم الغيب والشهادة    محبة النبي صلى الله عليه وسلم من أصول الإسلام    اليوم العالمي لمناهضة الاحتلال:دعوة بباريس لتمكين الشعب الصحراوي من حقه في تقرير المصير    الاحتلال ارتكب 813 خرقا لسريان اتفاق وقف النار : قصف إسرائيلي متفرق وتوغل محدود شرق دير البلح    واقعية ترامب    قرار أممي لفائدة فلسطين    "رُقْية" يدخل قاعات السينما ابتداء من 22 ديسمبر    بودربلة في مهمة تعبيد الطريق نحو أولمبياد ميلانو    هذا برنامج تحضيرات "الخضر" قبل السفر للمشاركة في "الكان"    كأس إفريقيا فرصة إيلان قبال للانتقال إلى نادٍ كبير    منصة لاكتشاف تجارب سينمائية شابة    تمكين الطلبة للاستفادة من العلوم والتكنولوجيات الحديثة    دعم السيادة الصحية بتبادل المعطيات الوبائية والاقتصادية    أبو يوسف القاضي.. العالم الفقيه    الجزائر تُنسّق مع السلطات السعودية    40 فائزًا في قرعة الحج بغليزان    الاستغفار.. كنز من السماء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



إخوة الإسلام والإيمان..

وصية الله لكم في كل آن: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ (آل عمران: 102). بالأمس لقيت اثنين من أصدقائي أحدهما يصلي معنا هنا، وكان حديثهما عن قريب لهما أعرفه بالخير والصلاح، وإذا بهما يذكران أنه صار ينال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، ويكذب أحاديث كثيرة من صحيح البخاري وغيره، ويضلل جملة كبيرة من علماء الأمة قديماً وحديثاً، وفي ذلك كنت أقول نسأل الله السلامة وحسن الخاتمة.
وخطر ببالي أن يكون حديثي في هذا المقام عن اللحظات الأخيرة التي يودع فيها كل منا دنياه، وما أصبح الصبح إلا وقد طار خبر وفاة خادم الحرمين المشرق والمغرب، فلعلي أقف معكم دون أن أتحدث إليكم لأجعل الحديث إلى ما هو بين أيدينا ونحن إلى حدٍ ما عنه غافلون، وهو أمام أعيننا ونحن إلى حدٍ ما كأننا لا نراه، إنها الآيات والأحاديث فحسب، لا تحتاج إلى كلام ولا تعليق، إنه القرآن كلام رب العالمين، إنه الحديث قول سيد وخاتم المرسلين نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
اليقين الذي لا شك فيه، الحق الذي لا مرية فيه، الموت: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (الحجر: 99)، وفي الصحيح عن خارجة بن زيد عن أم العلاء وهي من نسائهم قالت: نزل بنا عثمان بن مظعون -أي سكن عندنا- فاشتكى (أي: مرض) فمرضناه حتى إذا مات وأدخلناه في ثيابه
(أي: كفنه) دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت -أي: قالت أم العلاء- رحمة الله عليك يا أبا السائب فشهادتي عليك لقد أكرمك الله، فقال صلى الله عليه وسلم: "وما يدريكِ أن الله أكرمه"، فقلت: لا أدري بأبي أنت وأمي يا رسول، فقال: "أما عثمان فقد أتاه اليقين وإني لأرجوا له الخير، والله ما أدري وأنا رسول الله ما يُفعل بي"، سبحان الله، سيد الخلق.. خاتم الرسل والأنبياء.. حبيب رب العالمين يقول: "لا أدري ما يُفعل بي" فكيف ننام ملء جفوننا مطمئنين، وكيف نبقى في حياتنا غافلين.
وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ (ق: 19)، ما كنت تهرب منه، ما كنت تتجنبه، والأمر قادم، والطريق مسلوكة، والكأس مشروبة، لا مفر من ذلك، قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (الجمعة: 8)، مهما كنت وأينما كنت: أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ (النساء: 78)، سبحانك ربي.. هل هذه تحتاج إلى تفسير!؟ أم أن معانيها أوضح من الشمس في رابعة النهار، وأنَّ ما يصدقها من الواقع في كل لحظة وآن يقوم دليلاً فوق دليلٍ ومع دليلٍ بهذه الحقيقة التي نغفل عنها أو نتناساها: فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ (النحل: 61)، سبحانك ربي عالمٌ بالمصائر، قدّر الأقدار وكتب الآجال: وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ (الرعد: 8)، وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ (الأنعام: 59)، وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ (لقمان: 34)، ولذلك: قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لَّا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلاً (الأحزاب: 16)، لو سلمت اليوم فإن ذلك أمد فيه قليل من المتاع ثم تأتي سكرة الموت بالحق مرة أخرى.
وتأملوا العموم المتكرر في آيات الله سبحانه وتعالى، كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ (آل عمران: 185)، كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (الأنبياء: 35)، كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (العنكبوت: 57)، الحقيقة مثبتة معروفة مشهود لها بحادث وأمر يتكرر كل يوم وكل آن، لكن ماذا بعد ذلك: وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وتأمل إلى هذا الوصف القرآني المعجز: فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ، وكأنه صائر إليها، وكأنه مقيم عندها، والزحزحة أمر بطيء قليل حتى يأذن الله عز وجل بالسلامة، نسأل الله عز وجل أن يسلمنا وإياكم، وأن يعيذنا وإياكم من شرور أعمالنا ومن نزغات شياطيننا، فإذا تأملنا فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ذلك هو الفوز العظيم، والتعقيب القرآني: وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ (آل عمران: 185)، ما الذي ستأخذه منها؟ ما الذي سينفعك بعد موتك؟ ما الذي سيكون له نفع أو أثر بعد انقضاء الحياة.
وكم من سليم مات من غير علةٍ وكم من سقيم عاش حيناً من الدهر
وكم من فتى يمسي ويصبح لاهياً وقد نسجت أكفانه وهو لا يدري
"إذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح"، كذا أخَذَ العبرة ذلك الصحابي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ 26 وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (الرحمن: 26-27)، تأمل، تفكر في كل هذه الحياة الدنيا سترى ذلك أمراً واضحاً وحدثاً ناطقاً، ولكن ألا من تدبر وتأمل في اللحظات الأخيرة.. في الأنفاس الأخيرة.. في الكلمات الأخيرة التي ستكون لكل واحد منا، وستمر على كل واحد منا وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (الأنعام: 93)، صورة من صور اللحظات الأخيرة ذكرها لنا القرآن واضحة جلية: وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ.
إنها اللحظات الفارقة في توديع الدنيا واستقبال الآخرة، إنها اللحظات الحاسمة في انتهاء الأعمال بالآجال، إنها ختام لحياة وبدء لحياة ليس فيها إلا الجزاء من جنس العمل، وفيها عدل رب العالمين، وفيها ما نرجوه من فضله وكرمه وجوده ورحمته سبحانه وتعالى، فإن الأعمال بضاعة مزجاة، وإن ما نقدمه كثير منه وجُلُّه لا يستوفي ما يجب من حق لله عز وجل في الإخلاص والتقوى وإقامة الأمر ومجانبة النهي على الوجه المطلوب، كما قال رسولنا الأعظم صلى الله عليه وسلم: "لن يدخل أحد الجنة بعمله"، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: "ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته"، اللهم تغمدنا بواسع رحمتك، وتغمد كل ميت بواسع رحمتك، وتغمد خادم الحرمين بواسع رحمتك.
تأملوا اللحظات الأخيرة: حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ 99 لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (المؤمنون: 99-100)، اليوم ما زال في الوقت متسع، اليوم ما زال في العمر فسحة، لِمَ؟ حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ 99 لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ ولِمَ لم تعمل صالحاً وأنت بقوتك وعافيتك وسلامتك، وقد مدّ الله في عمرك وأعطاك من نعمه ما أعطاك، روى أبو هريرة رضي الله عنه: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أعذر الله إلى امرئ أخّر عمره حتى بلغ الستين" (رواه البخاري)، أي: قامت عليه الحجة وانقطع عنه العذر فقد مدّ الله له في العمر وفسح له في الأجل وأمده بالصحة وأعطاه ما أعطاه من النعم فقد قامت الحجة وانقطع العذر.
وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ (النساء: 18)، لماذا نؤجل؟ ولماذا نسوّف؟ ورسولنا صلى الله عليه وسلم يقول كما روى أحمد في مسنده: "يقبل توبة العبد ما لم يغرغر" ما لم تأت اللحظات الأخيرة، ما لم يكن في سكرات الموت، فكل هذا الزمن الممتد محل لتوبة أخبر عنها رسولنا صلى الله عليه وسلم بسعة الرحمة العظيمة لربنا جل وعلا: "إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل"، وفي الصحيح من حديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ينزل ربنا إذا بقي الثلث الأخير من الليل إلى السماء الدنيا فيقول: هل من تائب فأتوب عليه، هل من مستغفر فأغفر له، هل من سائل فأعطيه، وذلك الدهر كله"، كل ليلة يبسط يده، كل ليلة يتنزل نزولاً يليق بجلاله، كل ليلة يحب من عباده توبة يذلون بها له، واستغفاراً يخضعون به له، سبحانه وتعالى فما بالنا لا نقبل والأبواب مشرعة مفتوحة والرحمة فياضة نبعها يعم الخلائق: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ (الأعراف: 156)، سبحانه وتعالى.
اللحظات الأخيرة كذلك: وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ (المنافقون: 10)، مرة أخرى هذه اللحظات صحوة لا تنفع، يقظة لا تفيد، فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ، سئل المصطفى صلى الله عليه وسلم عن أفضل الصدقة قال: "أن تصدق وأنت صحيح شحيح تأمل الغنى وتخشى الفقر، وليس إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا، ولفلان كذا وقد كان لفلان"، وأنت صحيح بعافيتك، شحيح أي: ما زالت النفس تريد أن تستبقي المال وتحرص عليه، تأمل الغنى ما زلت في دنياك تأمل المزيد وتخشى الفقر، في تلك اللحظات هي أفضل الصدقات وأفضل البذل لله سبحانه وتعالى رب الأرض والسماوات، "وليس إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا ولفلان كذا، وقد كان لفلان" بطل الأمر وبطل ما يكون من الفعل في مثل هذه اللحظات، واللحظات مذكورة كما قلت لكم في الآيات، معدودة ومكررة في الأحاديث، مشهودة في الواقع وفي المواقف من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرة أصحابه الكرام رضوان الله عليهم، ألا نذكر الموقف العصيب يوم كانت الزهراء بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم تقول: واكرباه، فيقول المصطفى: "لا كرب على أبيكِ بعد اليوم"، آخر اللحظات كان يقول المصطفى: "الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم، لا تجعلوا قبري عيداً"، قلبه ينبض بأمانة هذا الدين، همه مشغول في لحظات الفراق لا بدنياه، ولا بزوجه ولا بذريته بل بأمته وبرسالته وبأمانته، بأبي هو وأمي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وموقف أستحضره من مواقف الصحابة متصل برسول الله صلى الله عليه وسلم، في يوم أحد بعد أن انجلى غبار المعركة وكان ما كان مما حلّ بالمسلمين سأل النبي صلى الله عليه وسلم: "ما فعل سعد بن الربيع"، سأل عن هذا الصحابي الأنصاري باسمه فذهبوا يبحثون عنه، هل هو بين الموتى؟ أو ما خبره، قال الراوي: فجئته وإذا هو في الرمق الأخير فقلت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرئك السلام فقال: وعلى رسول الله السلام، أخبر قومي أنه ليس فيكم خير قط إن خُلِص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيكم عين تطرف، والصحابي الجليل في أحد أيضاً لما شاعت مقولة موت النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذاً فموتوا على ما مات عليه فما طيب الحياة بعده، تلك هي الوصايا، الوصايا في اللحظات الأخيرة القيام بالحق والواجب، أداء الأمانة والرسالة، تبليغ الدعوة والنصح للأمة، ذلك ما يكون إذا كان هذا هو الشاغل في الحياة، إذا كان هذا هو الذي يطغى على فكرك ووقتك وجهدك في حياتك فسيظهر كذلك في ختامها، وإن كان الغالب شغل بالدنيا وصفق بالأسواق فما سيظهر في الغالب يكون من جنسه سلمنا الله وإياكم.
ونتذكر أخيراً وليس آخراً كيف سيكون المشهد الأخير، والقرآن يخبرنا وهي صورة كاملة إنما أجتزئ منها القليل بهذه الآيات: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ (الأنعام: 94)، فُرَادَى، وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ: كل النعم وكل الأموال وكل شيء في هذه الدنيا، وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء لأنه كما قال صلى الله عليه وسلم: "ما منكم إلا سيكلمه ربه كفاحاً، ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أمامه فإذا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة"، وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً (مريم: 95).
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يحسن خاتمتنا وعاقبتنا في الأمور كلها، وأن يجيرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، وأن يجعل آخر كلامنا من الدنيا شهادة ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
الخطبة الثانية:
إخوة الإسلام والإيمان..
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، وإن من أعظم أسباب تقواه سبحانه وتعالى تذكر الموت ومعرفة حقائقه والاعتبار بما يجري منه على غيرنا، والاستعداد له فيما نستقبل من أيامنا وحياتنا.
كل ابن أنثى وإن طالت سلامته يوماً على آلة حدباء محمول
فإذا حملت إلى القبور جنازة فاعلم بأنك بعدها محمول
تأملوا وهي آيات نتلوها كثيراً: بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا 16 وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (الأعلى: 16-17)، تؤثرون الحياة وتقدمونها رغم أن الآخرة هي الخير وهي الأبقى، إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (غافر: 39)، فما بالنا نغفل والموت كأسه يسقي كل أحد حولنا في طريقه إلينا، فينبغي أن نتعظ ونعتبر.
ولعلي أقف هنا أيضاً في حديث رواه الإمام أحمد في مسنده والطبراني في معجمه الأوسط وصححه الألباني: عن عائشة رضي الله عنها أن بلالاً دخل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ماتت فلانة فاستراحت، ماتت فلانة فاستراحت، كم مرة نقولها؟ كم مرة سمعناها؟ فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "إنما يستريح من غُفر له"، فاسألوا الله الغفران لكل ميت ولخادم الحرمين رحمه الله، لا ينفعه ولا ينفع غيره اليوم مَالٌ وَلَا بَنُونَ 88 إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (الشعراء: 88-89)، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يديم على هذه البلاد نعمة الأمن والاستقرار، والوحدة والانتظام، ونسأل الله عز وجل أن يعين ولي الأمر الجديد على أمانته ومسؤوليته، وأن يأخذ بناصيته للبر والتقوى، وأن يوفقه لما يحب ويرضى، ونسأله سبحانه وتعالى أن يجمع الكلمة ويوحد الصف، ويعين الأمة كلها على نوائب الحق والخير، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يزيل أسباب الشقاق والخلاف، وأن يربط بين القلوب، وأن يجعلنا دائماً على طاعته ومرضاته، وأن يجعلنا دائماً وأبداً مقتفين لأثر وسنة وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن يجعلنا دائماً وأبداً حريصين على أخُوّة الإسلام والإيمان.
نسألك اللهم يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام أن تعيننا على طاعتك ومرضاتك وأن توفقنا لما تحب وترضى، اللهم جنبنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وسلمنا اللهم من الفتن والمحن ما ظهر منها وما بطن.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.