انقضت على شهرزاد ألف ليلة وليلة، وتوقفت عن الكلام المباح، وعدل الملك شهريار عن قتلها. لكن من أحداث وفصول حكايات "ألف ليلة وليلة" الأسطورية العجائبية المثيرة انبثقت آثار فنية رائعة خالدة في مجالات الإبداع المختلفة. فبعد نشر"ألف ليلة وليلة" في أوروبا سنة 1704 في نسختها الفرنسية المترجمة لأنطوان جالاند،.. أصبحت صورة شهرزاد ترمز إلى الشرق، كما كان يتمثّله قراء الرحلات التي كانت رائجة رواجا كبيرا في الأزمنة الحديثة، وحرّكت في الغرب حكاياتها العجيبة، خاصة علاء الدين أو الفانوس السحري وعلي بابا والأربعون لصا ورحلات السندباد البحري، خيال الشعراء والأدباء والموسيقيين والرسامين. فبعض الأدباء أوجزوا حكاياتها بأسلوبهم المتميّز الخاص، واقتبس رجال المسرح أجواءها وضمنوها حبكات مسرحياتهم، وبرع الرسامون في تمثيل صورها ومواضيعها في لوحاتهم، واستلهم الشعراء في العديد من قصائدهم أجواءها العبقة بسحر الشرق وغرائبه، وصوّر السينمائيون أفلاما هي مزيج من أخيلتهم واستيهاماتهم وسحر الليالي العربية، وأخذت عنها مسرحيات وبونتوميمات للأطفال . أما في مجال الموسيقى الكلاسيكية، فقد أثرت شهرازاد تأثيرا واضح المعالم على كبار موسيقيي القرن التاسع عشر والعشرين. ومن الموسيقيين الذين استلهموا منها مواضيع لسيمفونياتهم ورقصات الباليه الموسيقار الروسي الشهير ريمسكي كورسوكوف (1888) والفرنسي موريس رافال (1898-1903) وباليهات ليون باكست (1908) وميشال فوكين (1910) اللذين ذاع صيتهما في أوروبا بعد مغادرتهما روسيا وتثويرهما لفن الباليه في العالم. بل أن الكاتب الفرنسي بوريس فيون، المولع بالموسيقى، تأثر بشهرزاد إلى درجة أنه أصدر مجلة تحمل اسم شهرزاد. ولجأ موريس رافال المعروف بألوانه الاركسترالية الحيّة الشفافة إلى صورة شهرزاد مرتين. الأولى سنة 1898 في استهلال شهرزاد، والثانية في 1903 في نغمات شهرزاد. لكن باعتراف الجميع لم يبلغ واحد من هؤلاء ما بلغه ريمسكي كورسوكوف في تمثيله وتمثّله لصورة شهرزاد. وريمسكي كورسوكوف هذا ملحن ومنظر للموسيقى، وأحد الأعضاء الخمسة الروس المشهورين الذين جدّدوا في مطلع القرن العشرين الموسيقية الروسية العتيدة. ولد في 1844 قرب نوفغورود، وتعلّم العزف على البيانو منذ نعومة أظافره، ثم التحق بمدرسة أشبال البحرية في سانت بطرسبورغ، لكنه سرعان ما تخلى عن مهنة البحرية ليصبح مفتشا عاما للجوق العسكري، ومنذ 1871 إلى غاية وفاته شغل منصب أستاذ جوق وأوركسترا في الكونسرفاتوار الذي يحمل إلى اليوم في سانت بطرسبورغ، عاصمة روسيا القديمة. وقد خلّف " ريمسكي كورسوكوف" مجموعة من الأوبرات، منها "ندائف الثلج" و"الديك الذهبي" وكذلك مؤلفات منها سيمفونية "شهرزاد". وبالإضافة إلى التأليف الموسيقي ترك " ريمسكي كورسوكوف " مؤلفات مكتوبة، نذكر منها "عناصر الاوركسترالية" و"وقائع حياتي الموسيقية"، والكتابان نشرا على التوالي بعد موته. وقد تعامل ريمسكي كورسوكوف مع التراث العربي قبل ذلك في القطعة الموسيقية الراقصة "عنترة"، واستطاع كورسوكوف في هذه القطعة الموسيقية المستوحاة من "ألف ليلة وليلة" أن يجسد ببراعته الموسيقية بعض الصوّر والمشاهد واللوحات من حكايات شهرزاد الساحرة، مبرزا أساسا مواضيع البحر وأعياد بغداد الحافلة وغضب شهريار في نبرات تكون أحيانا صاخبة، وأحيانا أخرى هادئة ووجدانية. وتعتبر شهرزاد كورسوكوف في تاريخ الموسيقى الكلاسيكية العالمية من أجود ما خلّفه المؤلف، وهي مصنفة عالميا ضمن أفضل الباليهات، بالنظر إلى ألق صوّرها وغنى ألوانها. ومن غريب المفارقات أن تعود إلينا شهرزاد من رحلتها الروسية البعيدة وكذلك الفرنسية في ألحان محمد عبد الوهاب، وبليغ حمدي، وأغاني أم كلثوم وفيروز وغيرهم من الموسيقيين العرب، الذين استلهموا أسلوب " ريمسكي كورسوكوف" و" موريس رافل"، ونقلوه إلى الموسيقى العربية، حتى لا نقول انتحلوه ولم يذكروا المصدر الذي أخذوا منه. ولعل سبب عودة ألف ليلة وليلة في شكلها الموسيقي، أو في غيره من أنواع الفنون والآداب الرومانسية من أوروبا إلى العرب، رغم أن العرب كانوا، ربّما ما زالوا إلى اليوم، يعتبرون حكايات ألف ليلة وليلة مبتذلة وسوقية وبعيدة كل البعد عن الأدب، كما كانوا يفهمونه، فلما عادت إليهم شهرزاد الساحرة من أوروبا في حلّة جديدة وثوب قشيب تبنوها، ولم يعودوا يجدون فيها ذلك الابتذال والسوقية التي جعلتهم ينفرون منها قرونا طويلة. والآن حين نطرب لأم كلثوم ونسرح بخيالنا مع الصوت الملائكي لفيروز وغيرهما من الفنانين العرب، و نهيم وجدا بخيالنا وأحاسيسنا في أجواء "ألف ليلة وليلة" العجيبة، فالغالبية منا تجهل أنها مجرد تنويعات على موسيقى الروسي " ريمسكي كورسوكوف" والفرنسي" موريس رافل".