احتفل العالم قبل أيام بيوم التغذية العالمي في خضم مجموعة واسعة من القضايا التي تقلق البشرية، مثل الجوع ونقص التغذية، ومثل تغير المناخ والهجرات و"العدالة العرقية". والأساس أن يكون الأمن الغذائي رهاناً أساسياً من رهانات العالم الجديد، وأن يكون هناك خلاص للبشرية، خصوصاً المجتمعات الأكثر حرماناً في الحصول على الموادّ الغذائية الأساسية، وأن لا يظل ملايين الأطفال يموتون كل عام جرّاء الجوع، أو الأمراض المرتبطة بنقص التغذية وبتزايد الفقر المالي منذ العقد الأول من القرن الحادي والعشرين ربطاً بعدم الاستقرار السياسي، ما يستدعي 2عادة تقييم المساعدات الاجتماعية. 2نها الأزمة العالمية المتعدّدة الوجوه، ودوامة معقدة من المخاطر، منها الأمن الغذائي وعناصر من الشبكة المترابطة مع الحروب والأزمات، فالحربان في أوكرانيا وغزّة من أكبر الصراعات اليوم، يضاف 2ليها استقطابات لنزاعاتٍ تبدو كلها متناقضة مع أهداف الأممالمتحدة للتنمية المستدامة، وتُحدِث آثاراً سياسية واجتماعية، وصورة أكثر ضبابية في مشهد "القوي" ضد "الضعيف" أو فرض "السلام بالقوة" حول شعوب محاصرة، ضحية اعتداءاتٍ دموية وتهديدات، و2نْ في 2طار أيديولوجي ليس واحداً. والواقع أنها مختلفة تماماً، و2نْ تكشف عن مدى صعوبة رسم خطوط واضحة بين الخير والشر في السياسة العالمية اليوم. هدف مكافحة الجوع ضائع، ويجب أن يكون أولوية لجميع القوى الدولية في العالم، ووسيلة لمكافحة العنصرية، وهي مؤشّر على مستوى حضارة العالم. يموت الأطفال في غزّة في انتظارات طويلة من أجل المساعدات، وتُظهر الصور ومقاطع الفيديو أطفالاً فلسطينيين يتضورون جوعاً أو جرحى. نصف الأطفال في غزّة مرضى ويحتاجون إلى تغذيةٍ وعلاج. وتظل الطريق أمام وصول المساعدات الطبية والغذائية مسدودة، باستثناء هدنة أو هدنتين تستمرّان أياماً قليلة، ثمُ تقفل المعابر في وقت تمنع قوات الاحتلال ال2سرائيلي عمليات 2جلاء المرضى. وقد حوّلت الحرب غزّة 2لى أحياء مدمّرة و2لى رماد، ولم يبق شيءٌ لتقاوم فيه الناس جوعها على أنقاض المقابر وأرواح الناس المبعثرة، والنتيجة أجيال من الجوعى والجرحى والمحطّمين. أكثر من مليوني فلسطيني في غزّة يحتاجون إلى الغذاء. وبعد مطلع أغسطس 2024 وبحسب الأممالمتحدة، عانى أكثر من 20 ألف غزّي جوعاً من دون أن تحاول الوكالة الأممية استعادة مركز"غزّة لوجستيك هلب" الذي صادرته 2سرائيل، والعالم لا يفعل الكثير حيال ذلك، ما يجعل الحياة في تلك الأماكن الأسوأ. والمشكلة لا تقتصر على الغذاء والأدوية والملابس، بل تمتد على كل سلسلة ال2مداد التي تتلف في مئات الشاحنات المتوقّفة خلف المعابر المقفلة. وبينما يركز العالم على غزّة، يلوح في الأفق شبح أزمة في السودان منذ بداية الحرب في إبريل/ نيسان 2023، ولا تلوح في الأفق أي بوادر نهاية لها، مخلفة عواقب وخيمة على سكّان ثالث أكبر دولة في أفريقيا. ويواجه السكّان، وفق برنامج الغذاء العالمي، خطر المجاعة الكبيرة، ولا سيما سكان مدينة الفاشر في إقليم دارفور الغربي. ولا تزال المآسي تتفاقم في بلدٍ يعيش أكبر أزمة جوع في العالم. وهو موطن أكبر حركة نزوح، حيث فرَّ نحو 11 مليون شخص من منازلهم بحثاً عن الأمان، كما شهد أسوأ أزمة تعليم للأطفال وتوقف الدراسة عن نحو 19 مليون طفل، كما يتوقع أن يعاني حوالي 3.5 ملايين طفل دون الخامسة سوء التغذية. في وقتٍ يؤكّد برنامج الأممالمتحدة للأغذية أن لديه مساعدات للدخول إلى أماكن النزاع، لكنها تصادر ويمنع توزيعها بشكل عادل. ويعدّ ذلك مؤشّراً على الخسائر ال2نسانية الناجمة عن الحرب العبثية وتمدّد بؤر الاقتتال الأهلي، ما يزيد من احتمالية تفكك الدولة بشكل دائم، ويزيد من صعوبة وصول المساعدات. على مدار العامين الماضيين، لفتت منظّمات دولية، مثل الأممالمتحدة ومنظمة الصحة العالمية التابعة لها، بال2ضافة 2لى منظمات حقوق ال2نسان، الانتباه 2لى الوضعين الكارثيين في غزّة والسودان، والأرقام مذهلة. يواجه ما يقرب من 25 مليون شخصاً انعداماً حادّاً في الأمن الغذائي في السودان، ومستويات مرعبة من الجوع. افتقد الناس قدراتهم على التكيف مع النزاعات، ويحتاجون بشكل فوري 2لى تدخل 2نساني آمن، والاستجابة الطارئة (لم تفز غرف الاستجابة للطوارئ السودانية يجائزة نوبل للسلام، وتوقع كثيرون فوزهم، وهي تقدم مساعدات متعدّدة للحياة تشكل شبكات مساعدة متبادلة قائمة على العمل التطوّعي لتوزيع ال2مدادات والمواد الحيوية في المناطق المتضرّرة). كل العالم في حاجة 2لى برامج الاستجابة الطارئة، في فكرة مفادها بأن المدنيين يفتقرون إلى القدرة على التصرف في خضم الصراعات والأزمات، حيث تسجل نسبة ارتفاع 40% في عدد المهددين بالجوع وبنقص المساعدات والفقر (يصل الفقر 2لى ما يقرب من 9,8 ملايين شخص في فرنسا) وعدم حصول المجتمعات المحلية على الدعم. وهذه المجاعات ليست حكراً على السودان وغزّة، انتشرت في كولومبيا، كما في الصومال وسورية مع جماعات "الخوذ البيضاء"، ونصف سكان العالم معرّضون للحرائق والفيضانات، ودول كثيرة تعاني ضائقة مالية ومديونية، ما يحتاج إلى 2يجاد حلول 2بداعية لتحسين سلاسل الإمدادات الغذائية و2طعام الجياع. 2نها معادلة مؤلمة أن يتحول يوم التغذية العالمي 2لى "2هانات"، واستسلام اقتصادي. والسؤال المطروح ما 2ذا كان العالم سيسمح أكثر بموت الملايين جرّاء أزمة الأمن الغذائي، أم أننا أمام شيء آخر تماماً، أو شيء أكثر خطورة من فقدان السيطرة، 2ذ لم يعد هناك "جسد 2نساني" يتحمّل العبور من المعاناة، المفترض أن تكون 2نسانية مشتركة. كل اقتصاديات العالم تشهد تراجعات كبيرة وانخفاضاً في الناتج ال2جمالي مقارنة بالعقود الماضية، وتغرق الدول في أزمات مديونية أعمق من قدرة الناس على تحمّلها تحت وطأة انقطاع الخدمات والنقص الحاد في تلبية الاحتياجات التي توفّر الحد الأدنى من الاستقرار والكرامة. لهذا يحتاج العالم 2لى بعد اجتماعي أوضح وسياسات تعيد توزيع الثروات وتحميل أصحابها مسؤولية أكبر. وهذا يعني الحاجة 2لى نظام ضريبي جديد، 2ذ لا يتناسب تراكم رأس المال في أيدٍ قليلة من الأفراد مع التحدّيات التي تواجهها البشرية نتيجة الفوارق الاجتماعية (أنطونيو غوتيريس) . من المؤسف أن يقف نصف العالم متفرّجاً أمام منصّات من الكراتين بعبوات من المواد الغذائية وقناني المياه وأمام أكياس الرز والمعكرونة، وأن تتسمّر الكاميرات أمامها. في المقابل، وفي الجهة الأخرى سكان المدن التي تشهد نزاعاتٍ لا يرون شيئاً من هذه المساعدات، وهم مجرّد وقود لتغذية ماكينة الحرب. أصبح العالم مجمّعاً من "المساعدات ال2نسانية"، مساحة لوجستية لعبور المساعدات الموجّهة 2لى أماكن النزاع والكوارث والفيضانات والأزمات الخانقة. ويجسّد المشهد الحالي 2خفاق النظام الدولي في التعامل مع الأزمات ال2نسانية في ظل غياب الولاياتالمتحدة عن القيادة، وحجبها المساعدات الخارجية يهدّد بدفع نحو تسعة ملايين أفريقي 2لى براثن الفقر والجوع في السنوات المقبلة. وهذا ليس عالماً جديداً، بل فوضى عنف مقبلة. العربي الجديد