بينما تركّز إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب في مجال تسويغ حربٍ محتملة على فنزويلا، بمزاعم تصدير مخدّرات من هذا البلد اللاتيني إلى الولاياتالمتحدة، فإن مسؤولي الإدارة لا يكلّفون أنفسهم عناء عرض أدلّتهم بهذا الخصوص أمام وسائل الإعلام، ومشاركة المعلومات مع من يعنيهم الأمر في الدول الأخرى، وبخاصة في ظلّ الانطباعات، بل القناعات الواسعة، بأن دولاً أخرى في أميركا الجنوبية هي من تنشط فيها كارتلات (عصابات) الاتّجار على نطاق واسع بالكوكايين والفنتانيل وغيرهما، ولا تُعتبر فنزويلا من الدول الأكثر نشاطاً وإسهاماً في هذه التجارة المُحرَّمة، بينما تبرُز أميركا باعتبارها من أكثر الدول استهلاكاً، وبالتالي الأكثر طلباً لهذه السموم، ومع ذلك تُستهدَف فنزويلا دون غيرها. من المثير فعلاً أن واشنطن تتصرّف باعتبار أن لا حاجة لها لتقديم أدلّة على الاتهامات الخطيرة بحقّ دولة أخرى، وأن ما يصدُر عنها من مواقف يجب أخذه على محمل الثقة المسبقة بسلامته وصحّته، دونما اضطرار إلى سوق إثباتات ومستمسكات، ما دام الحكم قد صدر عن الدولة العظمى. لهذا تبدو الحرب المحتملة استعراضاً للقوة، ومحاولةً للتذكير بأن أميركا الأخرى، الجنوبية، ستظلّ تحت سطوة النفوذ الأميركي، وأن الكاريبي مسرح ملائم لاستعراض حاملات السفن والمعدّات الحربية المُتطوِّرة. وفي الأسابيع القليلة الماضية، استُهدِف وقتل 80 مدنياً كانوا يمخرون البحر بقواربهم، وأُوقف عدد آخر قيل إن حياتهم في خطر، من دون إظهار أن الضحايا كانوا ينقلون على قواربهم أكياس مسحوق أبيض وسواه من مواد محظورة. الفنزويليون، بمن فيهم الرئيس نيكولاس مادورو وقوى المعارضة، لا يأخذون الاتهامات بتجارة المخدّرات على محمل الجدّ، أو يعتبرونها على الأقلّ تنطوي على مبالغة كبيرة، ولو أن الحال كان وفق ما تبثّه الدوائر الأميركية، ألم يكن من الممكن إجراء مباحثات صريحة بهذا الشأن بين واشنطن وكاراكاس، ووضع كل طرفٍ أمام مسؤولياته؟ وإذا صحّت الاتهامات بهذه النسبة أو تلك، ألم يكن ممكناً توجيه ضغوط سياسية ودبلوماسية واقتصادية إلى قيادة هذا البلد، بدل الانتقال على الفور إلى أجندة حربية لا أحد يعلم إلى ماذا تؤول؟ على أنه يسترعي الانتباه أن ترامب يندفع إلى التفاوض مع قادة الصينوروسيا، وحتى كوريا الشمالية، ويستقبل، المرّة تلو المرّة، بنيامين نتنياهو المطلوب لمحكمة الجنايات الدولية، لكنّه لا يفاوض قادة دولة "هامشية" مثل فنزويلا، وبخاصة أنه يشكّك في نتائج آخر انتخابات رئاسية شهدها هذا البلد، مع أن المفاوضات يمكن أن تجري على مستويات مختلفة، وليس بالضرورة أو حصراً على المستوى الأعلى بين البلدَيْن، ومع ملاحظة أن القيادة الفنزويلية أبدت استعداداً لحلول سياسية. غير أن ترامب قفز عن ذلك كلّه، وأجرى ربّما أول محادثة مباشرة مع الرئيس الفنزويلي، ولم تكن هذه المحادثة الهاتفية التي جرى تسريب بعض ما دار فيها سوى طلبات إذعانٍ، توجّه بها سيّد البيت الأبيض، وتتمحور حول دعوة مادورو إلى خروجٍ آمن مع عائلته. وكما تردّد في التسريبات، طلب الرئيس الفنزويلي حصانةً له وضمانَ سلامة مائة مسؤول في إدارته، ونقل السلطة إلى نائبة الرئيس (دلسي رودريغيز). وإذا صحّت هذه التسريبات، يكون زعيم فنزويلا قد طلب نقلاً سلمياً للسلطة مع تجنيب بلاده مخاطر حربٍ لا يعرف أحد مدى ما تحمله من تبعات على 34 مليون نسمة، وينتمون إلى بلد كان عقوداً يوصف بأنه "الأكثر تحضّراً" في القارة الجنوبية. ومن الواضح أن ترامب يتطلّع إلى تغيير النظام في البلد النفطي الذي يحوز على نحو 20% من احتياطي النفط في العالم، وليس تهيئة الأجواء أمام نقل سلس للسلطة. مع الأخذ في الاعتبار أن واشنطن تناصب كاراكاس العداء منذ 2019، بعد عام على فوز مادورو في انتخابات رئاسية، وقد وضعت مكافأةٌ ماليةٌ سخيّةٌ لمن يتولّى القبض عليه وتسليمه إلى واشنطن، وهي طريقة يواظب عليها المسؤولون الأميركيون إزاء بعض زعماء أميركا الجنوبية والوسطى، ومن المفارقات المثيرة في هذا الظرف بالذات أن واشنطن قد أخلت قبل ثلاثة أيام سبيل رئيس هندوراس السابق، خوان هيرنانديز، المُعتقَل منذ نحو أربعة أعوام بتهمة الاتّجار بالمخدّرات، بناء على أمر ترامب. والآن، هناك معارضة داخلية واسعة لحكم مادورو، بعد سنوات من المعاناة الاقتصادية التي أدّت إلى هجرة نحو ثمانية ملايين إلى دول القارّة، بينهم مئات آلاف ممن اتجهوا إلى الولاياتالمتحدة، وتراهن إدارة ترامب على أن هذه المعارضة الداخلية سترحّب، بصورة أو بأخرى، بتغيير النظام بطريقة أو بأخرى، كما كان حال إدارة جورج بوش (الابن) حين هيّأ قواته للتوجّه نحو العراق وتغيير النظام هناك في العام 2003، إذ كان يدرك مدى المعارضة الداخلية لنظام صدّام حسين، علماً أن للعراق وزناً استراتيجياً أكبر من دولة مثل فنزويلا. على أن المهاجرين الفنزويليين إلى أميركا قد ذاقوا طعم المعاملة العدائية لهم من السلطات الأميركية خلال العام الجاري، مع عودة ترامب إلى البيت الأبيض، ورحّلت السلطات موجات منهم، آخرها خلال اليومَيْن الماضييْن، ما يعزّز انقسامات شعبية حول الموقف من السلطة القائمة ومن التهديدات بالحرب. يجدر بالملاحظة هنا أن التهديدات العلنية بشنّ الحرب، بعد إغلاق المجال الجوّي الفنزويلي بقرار أميركي منفرد، لم تُثر أصداءَ دولية تُذكر، باستثناء تصريحات أمين عام الأممالمتحدة أنطونيو غوتيريس المندّدة بالخيار العسكري، وأصوات قليلة لقادة آخرين، منهم الرئيس البرازيلي لويس لولا، الذي صرّح إنه "لا ينبغي لأيّ رئيس أن يُملي كيف ستكون فنزويلا". وهكذا لا يُنظر إلى اندلاع حرب جديدة محتملة حتى تاريخه أنه قد يتسبّب في أزمة دولية، رغم روابط كاراكاس القوية مع كلٍّ من بكينوموسكو، إذ تستورد الصين نحو 80% من ناتج النفط الفنزويلي الذي يخضع لعقوبات أميركية، وتنشط إلى جانب روسيا في مجال التعدين في هذا البلد. ورغم أجواء الحرب المُخيِّمة، فقد وقّعت روسيا مع فنزويلا يوم 27 من الشهر الماضي (نوفمبر) 42 اتفاقية "استراتيجية" شملت مجالات التعليم والصناعة والتجارة والسياحة والصحّة والاقتصاد الزراعي والتكنولوجيا، في إشارة واضحة من موسكو إلى أنها تدعم النظام القائم في كاراكاس أمام الحملة الأميركية والغربية التي تنزع الشرعية عن هذا النظام، أمّا بشأن التهديدات الأميركية بشنّ الحرب، فإن موسكو تمنح الأولوية المطلقة لتطوّرات حربها في أوكرانيا على أيِّ حدث آخر في عالمنا. العربي الجديد