عين تموشنت: الانطلاق في تجسيد زراعات جديدة خارج شعبة الحبوب والعمل على ترقية شعبة تربية المائيات    قمة قازان العالمية للشباب 2025: السيد حيداوي يلتقي بنظيره من جمهورية تتارستان    تربية : السيد سعداوي يطلق مشاريع جديدة ببشار    معرض التجارة البينية الإفريقية 2025, فرصة لتعزيز موقع الجزائر كمركز للتجارة والاستثمار    تغطية كامل التراب الوطني بالألياف البصرية مطلع 2027    العدوان الصهيوني: "مراسلون بلا حدود" تطلق حملة إعلامية عالمية للتنديد باستهداف الصحفيين في غزة    لجنة حقوقية تندد بجرائم الاحتلال المغربي المستمرة بحق الشعب الصحراوي    دخول مدرسي : قطاع التضامن اتخذ كل الترتيبات اللازمة وسيوزع أكثر من 182 ألف حقيبة مدرسية    حج 2026: اجتماع لجنة دراسة الطعون المقدمة من طرف وكالات السياحة والأسفارغير المؤهلة    كرة السلة /البطولة العربية للأندية (سيدات): نادي كوسيدار ممثل الجزائر في دورة العربية السعودية    كرة اليد: الاتحادية الجزائرية تكشف عن مواعيد انطلاق منافسات الموسم الرياضي الجديد    ترتيبات افتتاح الدورة البرلمانية العادية: ناصري يترأس اجتماعا لمكتب مجلس الأمة الموسع    الاحتلال يفقد 900 عسكري منذ طوفان الأقصى.. عشرات الشهداء في غزة جراء غارات اسرائيلية    جوائز مالية كبيرة للمشاركين    ناميبيا تجدد دعمها لنضال الشعبين الفلسطيني والصحراوي    الانتصار الثاني لأولمبي أقبو ومستقبل الرويسات    الجزائر تترأس اجتماعاً إفريقياً    كبال يتفوّق على حكيمي    2700 مليونير في الجزائر    إفريقيا مُرشّحة لقيادة النمو العالمي    الاتحاد الأوروبي يدعو واشنطن للتراجع عن قرار إلغاء تأشيرات المسؤولين الفلسطينيين    البليدة: إخماد حريق الشريعة    بداري يطلق بالجزائر مشروع صناعة محرك يشتغل بالهيدروجين الأخضر    العائلات بين متطلبات الأبناء وزحمة الأسواق    انطلاق الطبعة السابعة للمهرجان الثقافي الوطني للزي التقليدي بالجزائر العاصمة    موجة حر تمس ولايات شمالية ورعود مرتقبة في الجنوب والشرق    وزارة الصحة تستنكر فيديو ممرضة على "تيك توك" وتمهّد لإجراءات قانونية    ورقلة: إجلاء جوي لطفلين تعرضا لحروق    يعزي في وفاة البروفيسور رشيد بوغربال    الجزائر تزخر اليوم ب 4777 جمعية ثقافية موزعة عبر 58 ولاية    يتحتم إيصال الإمدادات الحيوية إلى غزة عن طريق البر    افتتاح الطبعة ال7 للمهرجان الثقافي الوطني للزي التقليدي بالجزائر العاصمة    اليمين المتطرّف يقود فرنسا نحو الانهيار    الذكاء الاصطناعي سيف ذو حدين للمؤسّسات الاقتصادية    الشركات النّاشئة قوة صاعدة في الاقتصاد الإفريقي    بنفيكا يعود لسباق ضم محمد عمورة وفولفسبورغ يترقب    بطولة إفريقيا لكرة اليد في اللمسات الأخيرة    قمة عاصمية بين نادي "سوسطارة" و"العميد"    موعد يحتفي بعشرين سنة من الإبداع    تنظيم الطبعة 13 لتظاهرة "القراءة في احتفال"    إبراهيم قارعلي يصدر ديوانه الجديد "شهادة ميلاد"    وحدات تحويل الطماطم ودوار الشمس تحت المجهر    مسابقة للالتحاق بالمدرسة الوطنية العليا البحرية    اقتراح إشراك الصيدليات الحضرية في برامج التقييم والمتابعة    "سونلغاز" تشرح مزايا خدمة "بريدي موب"    انتشال جثة غريق من شاطئ صوفيا    توقيف سارق محتويات المركبات    4 جرحى في انقلاب سيارة    انطلاق المهرجان الثقافي والفني "صيف معسكر"    الإسلام منح المرأة حقوقا وكرامة لم يمنحها أي قانونعبر التاريخ    بللو يشرف على لقاء حول الكتاب والثورة    افتتاح المهرجان الدولي الأول للموسيقى والرقص الفلكلوري للشباب بالجزائر العاصمة    الإعلان عن القائمة الأولية للوكالات المؤهلة    قائمة أولية ب50 وكالة سياحية لتنظيم حج 2026    المولد النبوي يوم الجمعة    يوم الجمعة الموافق ل 5 سبتمبر القادم    ذكرى المولد النبوي الشريف ستكون يوم الجمعة الموافق ل 5 سبتمبر القادم    لا إله إلا الله كلمة جامعة لمعاني ما جاء به جميع الرسل    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



محنة المثقف بين فوبيا التاريخ ورهاب السلطة
نشر في الحياة العربية يوم 27 - 05 - 2016


القدس العربي
التاريخ حقل ألغام قديم، لا علاقة له بالسطوح التي تتشيؤها أنظمة المعيش. كل تفجرات هذا التاريخ وأسراره وخرائطه خبيئة في العمق.. لعبة نبش هذا الحقل تظل دائما محفوفة بالأخطار والأوهام والفضول، ليس لمعرفة ما ظل عالقا بالذاكرة، بل لتوظيف شيفرات هذا الحقل السري في توزيع المزيد من غلّة الأوهام، وفي تكريس ظاهرة (التوابع) الباحثين عن المفقود في الأرض والسماء..
قد يعني التاريخ الماضي عند الكثيرين، لكنه أيضا الماضي المُدوّن بحذر، والمحُددة سياقاته بقصدية واضحة، إذ لا تجريد في تدوين هذا الماضي، ولا في نسج أحداثه، فهو يكتسب صفة التاريخ من خلال تمثله مصالح ومرجعيات جماعة معينة أو أفراد مُعينين، يكرسون من خلاله أوهام وجودهم وسلطتهم، وعقائدهم، واستبدادهم، وهذا ما يجعل فكرة التدوين خاضعة للرقابة من قبل السلطة، ولطبائع القوة والخداع، وأحيانا للتغييب والموت حين يجد المدوّن نفسه قد خرج من موجهات النسق المعلن إلى غواية المضمر..
كما أن التاريخ ليس جزءا من مرويات الذاكرة أو الحافظة الناقلة للأخبار والسير، أو كما يسميها بعض فقهاء الشيعة ب(علم الرجال) أو تبني مقولات الإخباريين، أولئك الصانعين المهرة لكرنولوجيا الأحداث من بدئها المثيولوجي أو الرمزي والى انتهائها كظاهرة مشاعة للمقدس والهيمنة والطغيان والخضوع..
تقاطع الذاكرة مع التاريخ هو ذاته تقاطع القصديات والاحتواء، فكثيرا ما تُصاب الذاكرة بالخرس حين يتحول التدوين إلى سلطة، وبما يجعل لعبة التاريخ الأقرب إلى مجال السرديات التي تكون الحقائق فيها مشكوكا بصدقيتها، وأن تجاذبها داخل مجالات الكلام يُضفي عليها نوعا من السفسطة التي تُسقطها في العموم وفي عدم الاكتمال..
الذاكرة هنا فردية، والتاريخ جمعي، كما أن الذاكرة ليست سلطة، وأن التاريخ سلطة، وأي محاولة لتحويل الذاكرة إلى تاريخ ستواجه بالقمع، وستُعرّض أصحابها إلى تُهم المروق والزندقة والجنون والتكفير والخروج عن جمع الأمة وسننها..
السلطة العربية لا ذاكرة لها، بل حيازتها ووعيها المهيمن يتجوهران حول تاريخ له مدونات منسوجة داخل نُظم سياسية وفقهية، وخاضعة لتأطير له فعاليات رمزية تنتظم فيها سلطة الحاكم والفقيه والديوان والصدر الأعظم، وصولا إلى سلطة الزعيم والجنرال، وهذا ما يعني أن السلطة القوية التي تكتب تاريخها وخطابها تفترض بالمقابل وجود مجتمع خائف لا ذاكرة له، مجتمع يتكئ في تدوين ذاكرتها بالسر بوصفها نسقا مضمرا على الثقافات الباطنية كنزوع صياني لحفظ النوع والهوية المجهضة، لأن المجاهرة بها تعني المجاهرة بنقض ولاية الأمر والخروج عن سياق الطاعة لها، وهي أمور فقهية شرعنها تاريخ السلطة لتكريسها وفرض جهازها القمعي والأيديولوجي، إذ لا علاقة لها بالذاكرة التي كثيرا ما تختزن رمزيات مضادة..
يمثل الوعي المضاد اللحظة الفارقة في الصراع ما بين الذاكرة والتاريخ، فالوعي بوصفه سلوكا ثقافيا يمثل عتبة أولى للحديث عن سسيولوجيا هذه الذاكرة، وعن حق الفرد في الإبانة عن تمرده واحتجاجه وكينونته، وباتجاه إيجاد سبيل للشك بالتاريخ، وبسلطة الماضي المكتوب، وهذا ما يجعل المثقفين/ صنّاع الوعي المفارق أكثر تعرضا للعنف والقتل في لعبة الصراع مع السلطة، فذهبت عصماء بنت مروان، وذهب ابن المقفع وحجر بن عدي وابن المعتز والسهروردي والحلاج وغيرهم، وصولا إلى ضحايا العصر الحديث بدءا من عبد الرحمن الكواكبي وحسن البنا وشهدي عطية، وانتهاء ب(حسين مروة ومهدي عامل وعزيز السيد جاسم والمهدي بن بركة وفرج فودة وغيرهم) ضحايا للعنف السلطوي والعصابي..
ومن هنا نجد أن أغلب القضايا التي تخص علاقة الثقافة بالسلطة ظلت موضع التباس وريبة، لاسيما حين تصطدم هذه العلاقة بقوة السلطة الرمزية وحيازتها (الشرعية) للثروة والعنف والحاكمية بمستوياتها المتعددة، إذ تغيب الصورة المثالية لمفاهيم التنوع والاختلاف، لأن (تغييب التعددية من حيث هي أبرز تعبير عن الإنسية سيكون تغييبا للتسامح، ذلك أنّ النخبة الحاكمة (الدولة) ترفض أي زعزعة لسلطتها، فهي توظف المقدس (والرموز الدينية) وتعمل على تحويله إلى شعارات للاستهلاك، وفي المقابل لا تسمح لأي محاولة جادة لخلخلة هذا التابو أو بالأحرى تعريته، لأنّ في خلخلته خلعًا لمشروعيتها). كما أن تضخيم هوية التاريخ بوصفه الماضوي يتحول إلى لعبة خبيثة للسلطة، لأن هذه الهوية ستكون رهانا على نوع من اللاوعي السلبي الذي تفرضه مرجعيات السلطة من جانب، وإبراز الوثيقة المهملة التي اشتغل عليها ميشيل فوكو من جانب آخر، تلك التي تعتمد الهامشي والسري، فهو المصدر العميق لصناعة الرعب والقتل والسجن والعقاب، ولتحديد ما يسمى في بعض الأدبيات المعاصرة بهوية (الدولة العميقة) أي دولة المحتسب التاريخي، ودولة العسس، ودولة الجماعة والطائفة والفرقة الناجية..هذا (اللامفكر فيه والمستحيل فيه يمثل المهمّش بالنسبة إلى المفكر فيه، لأن هذا الأخير هو عينه الخطاب الرسمي السلطوي بمختلف تجلياته السياسية والدينية والأخلاقية والاجتماعية وغيرها).
وحتى مظاهر العنف والرعب التي تتمظهر اليوم في تمثلات الأنظمة السلطوية والجماعاتية والأيديولوجية لا تخرج عن عباءة خطاب الاستبداد في التاريخ المدوّن بقصدية، لها سيمياء الفرض، والقبول القهري، التي تصطنع لها وسائل اتصال نظامية ولا نظامية وعشوائية، فهي تضع هذه الوسائل في سياق قوة السلطة، وفي سياق المقدس الذي يشرعنها، فالفقهاء يشبهون الحكّام وأمراء الجماعات وزعماء المليشيات، إذ كلهم يفرضون الخطاب بوصفه جزءا من فكرة ذلك المقدس، التي هي فكرة ماضوية أصولية تم تدوينها وتكريسها في مرحلة سابقة، وباتت جزءا من جهاز الدولة/ السلطة التي فرضت وجودها في بيئات صراعية استلابية، تداعت آثارها الكارثية من خلال منظومات معقدة لقيم، أو كما يسميها بوردون ب(الوكالات الاجتماعية) تلك التي تتمثل مظاهرها في الأحزاب والعقائد الدوغمائية والحكومات الاستبدادية، والآن عبر جماعات العنف ك»داعش» و»القاعدة» وغيرهما..
محنة المثقف اليوم هي محنة الذاكرة والتصرف بها، مثلما هي محنة الماضي بوصفها التاريخي، الذي سيظل مصدر الخوف والمنع، لأنه في حيازة السلطة/ الجماعة العقيدية، ويمكن أن نضع تعقيدات تاريخ نشوء الدولة العربية المعاصرة في القرن الماضي الخاضعة للاحتلال الأجنبي سببا مهما في إعادة إنتاج إنموذج السلطة التاريخية، فهي سلطة للثوار وزعماء القبائل ولقادة عسكريين عاشوا في معسكرات الاحتلال، فضلا عن دور رجال الدين والتجار في ما يسمى بحركات التحرر، وهذا ما أفقد هذه الدولة القدرة على أن تتحول إلى دولة جماهير، دولة للتعلّم والتنمية وللبناء المؤسسي.
ولعل غياب الدولة المعاصرة القادرة على تحرير الإنسان هو السبب الأكثر رعبا والدافع الإيهامي للتحصّن بنسق الجماعة، ونسق القوة الرمزية للنص والماضي، فالدولة المعاصرة دولة مُستنسخة، وهشّة، وبلا صيانات عميقة، وبنياتها التحتية خاضعة للمصالح والعلاقات الدولية، وهي ما تحاول دائما استثمار المثيولوجيا العصابية والدينية لتوسيع مهيمن الرثاثة وتعطيل الإرادة لصناعة مشروع حقيقي للدولة المُحرَرة من عقد الماضي المؤرخن، والماضي المسكون بأشباح الأبطال العالقين بالأساطير والحكايات...


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.