بقلم: سعدون يخلف كتبت حوالي أربعين مقالا حول الربيع العربي، كتبت عن فتوحاته وانتصاراته.. عن الأشواك التي زُرعت في طريقه.. وعن انتكاساته، ومحاولة إفشاله.. كتبت ذلك في العديد من الجرائد، عربيةً ووطنيةً، بداية من مقال: هل هي ثورات شعبية: محاولة للفهم، والثورات العربية بين تطلعات الشعوب وحسابات أمريكا، مرورا بخرافة المقاومة، والجهاد في سوريا، وصولا إلى الربيع العربي ثورة لم تكتمل، والفاشية والثورة الفاشلة.. إلخ. * ربيعٌ عربيٌّ: مازلت أصرُّ على أنّه ربيعٌ، ومازلت أصرُّ على أنه عربيٌّ، ومازلت أصرُّ على أنه غضبةُ شعب من أجل العزة، وصيحةُ من أجل الكرامة.. ربيعُ هبّت نسائمه القليلة على العرب، وتفتحت وروده في صحرائه، وفاحت عطوره في ميادينه وشوارعه، ولكن هناك من لا يحب نسمات الصّباح، ولا يهوى منظر الورود المتفتحة، ويكره روائح العطور الزّكية، فلوّث النّسيم، وداس على الورود، وأفسد كلَّ ما هو جميل. انتفضت الشُّعوبُ العربيةُ عندما آمنت بنفسها وبقدراتها، وعندما توافرت إرادة التغيير من أجل غد أفضل، لم تنتظر إشارة من واشنطن ولا من باريس ولا من لندن ولا حتى من تل أبيب، ما حركها لم يكن تنفيذ إستراتيجية غربية في المنطقة، ولا لإنجاح مشروع الشّرق الأوسط الجديد، ما حركها هو شوقها إلى الحرية، وتوقها إلى العيش في عزة وكرامة، ورغبتها في التفوق والتّميز بين الأمم في عالم لا يعترف إلا بالقوي. لقد كان حراكاً شعبياً عفوياً، نعم، افتقد إلى الحكمة والتخطيط والقيادة الرشيدة، لذلك لم يعمّر طويلا، وكان مصيره الفشل، ما حققه حتّى الآن هو إسقاط الكثير من الأوهام التي كنا نؤمن بها، وكنا نقدِّسها، ألم نكن نؤمن بالسيد "حسن نصر الله " سيداً للمقاومة والنّصر؟ ألم نكن نقدِّس "حزب الله" إلى حد الجنون؟ ألم نكن نؤمن بمشروع المقاومة الذي تقوده سورياوإيران وحزب الله اللبناني؟ ألم نكن نؤمن بالوطن الواحد من المحيط إلى الخليج، وشعاراته المرفوعة؛ لغة واحدة، تاريخ واحد، ومصير مشترك؟ للأسف كانت مجرد أوهام تغذِّيها أنظمة القهر من أجل أن تعطي نفسها "شرعية وجود" بعدما فقدتها في الواقع، وفي نظر المواطن العادي، فلم تبنِ اقتصاداً متطوراً، ولا منظومة صحية محترمة، ولم تحقق رفاهية الشّعب، ولا حافظت على استقلال الأوطان، حياة هذه الأنظمة مجرد شعارات وخطابات حماسية لا أكثر ولا أقل. ومن ثم، فإنّ الشّعوب العربية لم تكن سبباً في دمار أوطانها، ولم تجلب النّاتو ولا عصابات القتل والدم، كما أنها لم تكن سبباً في عودة المحلتين إلى أراضيها من جديد، ولا في زيادة معاناتها بتأخير قطار التنمية الاقتصادية..، من كان سبباً في ذلك هو الحاكم العربي، الذي لم يقم بشيء سوى تفكيره بتمديد فترات حكمه، وبتعديل دساتيره، وتنظيم انتخابات على مقاسه. ولأنّ الشّعوب لم تعد تشعر بالارتياح سياسياً، ولم تعد تثق بالقوانين التي تعيش في ظلها، ولم تعد تؤمن بسلطة من يحكمها، ولأنها تعيش في معاناة وآلام، وفي ظل القهر والقمع، فإنّها إذا تجرّأت وطالبت بتحسين شروط العيش، وبتوفير حياة كريمة، رافعةً شعارات من قبيل " عيش، حرية، وكرامة إنسانية "، طُعنت بخناجر مسمومة، ووسمت بأقذع الألفاظ، وبِسَقْطِ الكلام، لذا قيل بأن الشّعوب العربية مغفلةٌ، لأنّها انقادت إلى المخطط الغربي، وسارت في فلك المؤامرة. * نعم إنها المؤامرة: حقيقة، لقد كانت مؤامرة كبيرة، ولكنها مؤامرة ضد أشواق الشعوب وتطلعاتها المستقبلية، مؤامرة لإفشال الربيع، وإرجاع الشعوب إلى بيت الطاعة والخضوع.. كيف تسمح أصنامنا الّتي نسبّح لها آناء الليل، وفي أطراف النّهار.. كيف تسمح للعبيد أن يزاحموا سادة القوم وكبراءه؟ وكيف تسمح (للعيال) الصغار أن يخرجوا على الكبار؟ هذه المؤامرة الكبرى اشترك فيها الداخل مع قوى خارجية، لأنّ الغرب أدرك حجم المخاطر إذا ما استقلت هذه المنطقة من الوصاية، بما تمثله من كنز ثمين للإستراتيجية الغربية، وعند استعراض قائمة المتآمرين يظهر حجم المؤامرة. 1 – الغرب: أمريكا، روسيا، وأوروبا، هؤلاء يديرون اللعبة من بعيد، ويتبادلون الأدوار، وكل من روسيا وأوروبا ما هما إلا أداة لتنفيذ الإستراتيجية الأمريكية ليس إلا، أما بخصوص الضّجة التي تثار حول دور روسيا، وتزايد نفوذها في العالم هذه الأيام، فما هي إلا لعبة سياسية وإعلامية فقط، ومن يراجع وثائق المخابرات الأمريكية المفرج عنها مؤخراً، سيكتشف بأنها مجرد مخطط يعاد نسجه في كل مرة، من أجل تحقيق هدف مستقبلي، ألم يقل سابقاً بأن الاتحاد السوفيتي قوة كبرى، وهو على أهبة السقوط، إذ لم تمر أيام، حتّى شُيّع المعسكر الشيوعي إلى مثواه الأخير، وبدأت تتفتت دويلاته وتتساقط دوله؟ !
2- إيرانوتركيا: الأولى وقفت في البداية مع الربيع العربي، ولكن عندما امتدّت نسماته إلى حلفائها في المنطقة، غيرت من نظرتها، وأصبحت تُصوّره على أنّه مؤامرة ضد محور المقاومة والممانعة، إذ بقيت وفية ل " بشار الأسد " إلى الآن، ولأنّها بارعة في رفع الرّايات والشعارات، فقد دخلت إلى الحرب تحت مبرر الدفاع عن المقاومة والممانعة ثم قامت بحملة تعبئة عامة عن طريق استحضار الصراع الشيعي/ السني، فأتت بمرتزقة من العراق واليمن وإيران وباكستان وأفغانستان إلى سوريا من أجل الدفاع عن المزارات الشيعية المقدسه، هكذا سوّقت للأمر، ولكن الهدف الحقيقي من ذلك هو توسيع نفوذها، والتأسيس للهلال الشيعي. أما الثانية، تركيا، فقد وقفت بجانب الثورات العربية، وكانت تنسج علاقات مع بعض التيارات الثورية دون أخرى، وقد انتهجت نفس النهج في سوريا، إذ وقفت بجانب الثورة، ودعمت المعارضة السياسية والمسلحة، إلا أنّها عندما استشعرت بأن القوى العالمية لا تريد إسقاط الأسد، سارعت إلى أحضان روسيا، مما أثر سلباً في الثورة، حيث تخلت عن تعهداتها مع المعارضة السورية، لأنّ تركيا خافت على نصيبها من الكعكة العربية.
3 – سلطة الشيوخ العربية: لن يتخلى الشيوخ عن السلطة للشباب، لأنهم يعتقدون بألا شيء مثلهم، وهم مصدر كل خير.
4- المثقف العربي: للأسف المثقف العربي غيّب نفسه، ولم يعد مؤثراً لأنّه تخلى عن دوره الحقيقي في صناعة الأفكار، فضلا عن العمل على إيجاد أرضية صلبة من أجل تطبيقها، حتّى يظهر مفعولها في مجتمعه، وأصبح مجرد ناقل للأفكار لا غير، ذلك أن العرب اليوم يفتقدون إلى المثقف العملي. على هذا الأساس، انحاز البعض للديكتاتورية، والبعض الآخر، انتصر لطائفته، وهناك من انتصر لأفكاره البالية، التي لم تجد لها مكاناً في العصر الجديد، أما من غيّبه الحدث، ولم يكن في المشهد، ولأنّه يحب الظهور، ويعشق الأضواء، فقد مارس هوايته المفضلة، بأن أسس خطاباً ضد التيار، من أجل أن يحتضنه إعلام الثورة المضادة.
5- الإسلاميون: لقد ساعدت الأحزاب الإسلامية المؤامرة بطريقة أو بأخرى، ك " الإخوان المسلمين " في مصر، الذين أرادوا أن يستولوا على كل شيء، في لحظة فارقة وصعبة في حياة الثورة، فاستغلت خفافيش الظلام هذه النقطة، من أجل تنفيذ مخططاتها، فكانت الدعوة إلى ثورة تصحيحية، وانتفاضة ضد حكم الإخوان في 30 جوان 2013، توج ذلك في الأخير بانقلاب عسكري في 3 جويلية، وبقية القصة معروفة، السيناريو نفسه أعيد رسمه في تونس.
6- إسرائيل: تناصر الديكتاتورية في كل مكان، فهي تقف مع بشار الأسد، وتناصر السيسي، وكانت تحب زين العابدين بن على، وتعشق حسني مبارك، لأن وجودها مرتبط بأمثال هؤلاء.
7- الشعوب العربية: تعاملت مع الحدث باستسهال كبير، لأنّ الثورة فعل إنساني صعب، يحتاج إلى أناة وصبر، بينما الشعوب استعجلت قطف الثمار، وكأنّ الثورة مفتاح سحري لحل كل المشاكل والأزمات، وبالتّالي بوابة للدخول إلى الفردوس الأرضي.
* أسئلة لا بد منها: في هذه اللحظة الحرجة في حياة العرب هناك أسئلة ضرورية لا بد من طرحها: هل العرب ليسوا جديرين بالحرية؟ وهل يبقون الاستثناء الوحيد في عالم الديمقراطية؟ وإلى متى يبقى دمهم مهدراً، وأرواحهم رخيصةً؟
* نصر بلون الهزيمة وكتابة بلون الدم: أكتب هذا الكلام لأنّ هناك من يجهز للاحتفال بالنّصر الكبير الذي حققه بشار الأسد، نصر حققه في معركة ضد شعبه، وبمساعدة كل من روسياوإيران وحزب الله..، وكانت فاتورة النّصر كبيرةً جداً، إذ قتل عشرات الآلاف، وشرّد الملايين، ودمر بلاده. احتفالات على وقع معزوفة الموت المنتشر في سوريا، وعلى وقع أنين وأوجاع أطفال حلب.
* حزن وأمل: احتفلوا كما تشاؤون، قوموا بالأفراح والليالي الملاح، اشربوا نخب انتصاراتكم، ووزعوه على أقاربكم وعشيرتكم، ولكن تأكدوا بأن الشعوب ستبقى قلوبها نابضةً حباً للحرية.. مهما قتلتم وشرّدتم ودمّرتم.. ستبقى غريزة حب الحرية حاضرةً فيها، لأن الحرية حياةٌ، ولأنّه في البدء كانت الحرية. لذلك سيبقى الربيع، وتبقى ذكراه عالقة في ذاكرة أي عربي، مهما حاولتم الإساءة إليه والقدح فيه، لأن التّاريخ، بالرغم ما فيه من ابتلاءات ومحن.. فيه كذلك بشائر وأفراح، إذ يُبشرنا، في الأخير، بانتصار قيم الخير والعدالة والحرية.