بوغالي يستقبل رئيس المجلس الوطني لجمهورية الكونغو    مراد يؤكد على ضرورة تكاثف الجهود لحماية الغابات من الحرائق    الأيام السينمائية الدولية بسطيف : الفيلم الفلسطيني الطويل "معطف حجم كبير" يثير مشاعر الجمهور    السيد بلعابد يستقبل رئيس الاتحاد الدولي للرياضة المدرسية    توقيع اتفاقية لتسويق منتجات الشركة الجزائرية للتخصصات الكيمياوية بموريتانيا    العدوان الصهيوني على غزة : الرئاسة الفلسطينية تجري اتصالات مكثفة لوقف مجزرة اجتياح رفح    78 قتيلا جراء الأمطار الغزيرة في البرازيل    وسط تحذيرات من مجاعة.. الأمم المتحدة تتهم إسرائيل برفض دخول المساعدات لغزة    الناخبون في تشاد يدلون بأصواتهم في الانتخابات الرئاسية    قدمها الدكتور جليد قادة بالمكتبة الوطنية..ندوة "سؤال العقل والتاريخ" ضمن منتدى الكتاب    بأوبرا الجزائر بوعلام بسايح..المهرجان الثقافي الدولي للموسيقى السيمفونية من 16 إلى 22 ماي الجاري    في دورته التاسعة.. "الفن موروث ثقافي حافظ للذاكرة" شعار الرواق الوطني للفنون التشكيلية    العدوان الصهيوني على غزة: بوريل يدعو إلى وقف إطلاق نار إنساني فوري في قطاع غزة    المغرب : الأشخاص في وضعية إعاقة يحتجون أمام البرلمان للمطالبة بالمساواة واحترام حقوقهم    ملتقى التجارة والاستثمار بإفريقيا: التأكيد على الدور المحوري للجزائر في الاندماج الاقتصادي القاري    وزير الداخلية يشرف على مناورة دولية للحماية المدنية    عرقاب يستقبل نائب الرئيس التنفيذي للمجمع الطاقوي النرويجي إكوينور    والي أم البواقي يكشف: مساع للتكفل بالمستثمرين عبر 17 منطقة نشاط    طرحوا جملة من الانشغالات في لقاء بالتكنوبول: مديرية الضرائب تؤكد تقديم تسهيلات لأصحاب المؤسسات الناشئة    عنابة: استحداث لجنة لمتابعة تهيئة الواجهة البحرية    ميلة: بعثة من مجلس الأمة تعاين مرافق واستثمارات    مركز البحث في البيوتكنولوجيا بقسنطينة: تطوير شرائح حيوية تعتبر الأولى من نوعها في العالم    الوزير الاول يلتقي عضو المجلس الرئاسي الليبي: الكوني يدعو الرئيس تبون لمواصلة المساعي لتجنيب ليبيا التدخلات الخارجية    في دورة تكوينية للمرشدين الدينيين ضمن بعثة الحج: بلمهدي يدعو للالتزام بالمرجعية الدينية الوطنية    مساع لتجهيز بشيري: الهلال يرفض الاستسلام    البطولة الإفريقية للسباحة والمياه المفتوحة: 25 ميدالية بينها 9 ذهبيات حصيلة المنتخب الوطني    رئيس الاتحادية للدراجات برباري يصرح: الطبعة 24 من طواف الجزائر ستكون الأنجح    الجزائر تدفع إلى تجريم الإسلاموفوبيا    ثبات وقوة موقف الرئيس تبون حيال القضية الفلسطينية    يقرّر التكفل بالوضع الصحي للفنانة بهية راشدي    وزيرة الثقافة زارتها بعد إعلان مرضها    إشادة وعرفان بنصرة الرئيس تبون للقضية الفلسطينية    المديرية العامة للاتصال برئاسة الجمهورية تعزي    خارطة طريق لضمان التأطير الأمثل للحجاج    3 شروط من أجل اتفاق شامل ومترابط المراحل    24 ألف مستثمرة فلاحية معنية بالإحصاء الفلاحيّ    مهنيون في القطاع يطالبون بتوسيع المنشأة البحرية    توقُّع نجاح 60 ٪ من المترشحين ل"البيام" و"الباك"    على هامش أشغال مؤتمر القمة 15 لمنظمة التعاون الإسلامي ببانجول: العرباوي يجري محادثات مع نائب رئيس المجلس الرئاسي الليبي    خبراء جزائريون يناقشون "الهندسة المدنية والتنمية المستدامة"    برنامج الجزائر الجديدة في حاجة إلى المؤمنين بالمشروع الوطني    بعد رواج عودته الى ليستر سيتي: إشاعات .. وكيل أعمال محرز يحسم مستقبله مع الأهلي السعودي    غيريرو يغيب عن إيّاب رابطة أبطال أوروبا    عمورة في طريقه لمزاملة شايبي في فرانكفورت    غرق طفل بشاطئ النورس    انتشال جثة شاب من داخل بئر    تعريفات حول النقطة.. الألف.. والباء    خلاطة إسمنت تقتل عاملا    دراجون من أربع قارات حاضرون في "طواف الجزائر"    دليل جديد على بقاء محرز في الدوري السعودي    الأيام السينمائية الدولية بسطيف: 21 فيلما قصيرا يتنافس على جائزة "السنبلة الذهبية"    اقترح عليه زيارة فجائية: برلماني يعري فضائح الصحة بقسنطينة أمام وزير القطاع    الشريعة الإسلامية كانت سباقة أتاحت حرية التعبير    برنامج مشترك بين وزارة الصحة والمنظمة العالمية للصحة    إذا بلغت الآجال منتهاها فإما إلى جنة وإما إلى نار    "الحق من ربك فلا تكن من الممترين"    «إن الحلال بيِّن وإن الحرام بيِّن…»    القابض على دينه وقت الفتن كالقابض على الجمر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ممنوع للأقل من 18 سنة
"الخبر" تعود إلى موقع حادثة موت عشرات "الحراڤة" عطشا في الصحراء قرب
نشر في الخبر يوم 29 - 11 - 2013

المسؤولون عن قتل مئات المهاجرين السريين مازالوا طلقاء
"عندما يشتد بك الجوع ويفتك بك العطش في عمق الصحراء، تفقد إنسانتيك، وتراودك أفكار مجنونة، مثل شرب دم طفل صغير فقد الحياة قبل قليل أو أكل لحمه".. هذه بعض المشاهد التي نقلها لنا أحد الناجين القلائل من حادثة موت أكثر من 90 مهاجرا في الحدود بين الجزائر والنيجر قبل أيام.
الفرق الوحيد بين المأساة أو المجزرة التي راح ضحيتها نحو 100 مهاجر سري في الحدود بين النيجر والجزائر، وغيرها من المآسي التي فقد فيها المهاجرون السريون أرواحهم في رحلة الموت، هو أن عددا قليلا من الناجين من هذه المأساة أو المجزرة عادوا إلى النيجر، وعدد آخر تمكن من الوصول إلى الجزائر من أجل أن يسمع كل العالم حكاية الموت عطشا وجوعا في الصحراء، وكيف تحوّلت رحلة مجموعة من المهاجرين القادمين من النيجر بحثا عن لقمة العيش شهر أكتوبر 2013 إلى مأساة حقيقية، كانت نهايتها موت 100 مهاجر سري، والحصيلة قد تكون أثقل.. الأكيد هو أن القضاء والقدر لم يكن المسؤول الوحيد عن هلاك كل هذا العدد من البشر، بل إن ما حدث كان نتيجة مجموعة من العوامل والأشخاص الذين تسبّبوا في هذه ”الكارثة الإنسانية”.

”تالاك”.. عنوان المقبرة الجماعية للمهاجرين السريين
في صحراء ”تالاك”، الواقعة على الحدود بين الجزائر والنيجر، يقف جنود من القوات الخاصة، أصابعهم على الزناد، دائما في حالة تأهب قصوى، لأن المكان يعجّ بالخارجين عن القانون والمجرمين والإرهابيين والمهرّبين. الجميع هنا يرفض الحديث عن موضوع الهجرة السرية، يبدو أن الجميع تلقى تعليمات بعد ”مجزرة” تالاك بأن لا يتحدث عن الحادثة.
في موقع قريب من مدينة عين ڤزام الحدودية، التي تمتلئ برجال الجيش الوطني الشعبي الجزائري وقوات الدرك الوطني، توجد صحراء ”تالاك”، وهي منطقة صحراوية منبسطة تنتشر فيها مرتفعات ووديان صغيرة جافة تخترق الحدود، كي تصل إلى جبال الطاسيلي والهڤار. على بعد عشرات الأميال من هنا، مات عشرات المهاجرين السريين، عطشا وجوعا، منهم أسر بكاملها بعد أن تخلى عنهم المهرّبون، أو ”تجار البشر” عديمو الضمير.
قانون الصمت
بدأنا تقفي أثر المأساة من عاصمة المنطقة تمنراست التي وصلناها بعد منتصف الليل، رفض مسؤولون أمنيون كبار أي حديث عن موضوع الهجرة السرية، بحجة أن تعليمات صدرت من أعلى مستوى في هذا الموضوع. أدركنا صعوبة المهمة بعد أن تنقلنا بين مقرات الأمن المختلفة، وفي ذلك المساء أتيحت لنا فرصة الحديث مع مصدر أمني، رفض الكشف عن هويته. الرجل قال لنا إن ما وقع في صحراء النيجر لا صلة له بالجزائر، حيث مات الجميع داخل الأراضي النيجرية. لهذا، فإن الجهة التي لها الحق في الحديث حول الموضوع هي الجهات الرسمية والأمنية في النيجر. لكن المفاجأة الأكبر كانت قبل هذا.. في الصباح، حيث رفض قنصل النيجر في تمنراست الحديث أيضا، بل إنه رفض حتى استقبالنا عن طريق أحد موظفي القنصلية، حيث ردّ بلباقة بأن ”القنصل سيتنقل حالا إلى مدينة جانت في مهمة”. وقرب مقر القنصلية الموجود على بعد أمتار من مقر ولاية تمنراست، لاحظنا عن بعد بعض المصابين والمرضى من المواطنين النيجريين الذين كانوا موجودين في فناء القنصلية، لكن الحديث معهم ممنوع. قرّرنا التنقل في صباح اليوم الموالي إلى عين ڤزام التي كانت المحطة الأخيرة للناجين من الحادثة.

مهرّبو البشر أو ”عديمو الضمائر”
في أغلب المناطق الحدودية بين النيجر والجزائر ومالي، يعد امتلاك سيارة رباعية الدفع دليلا على الثراء ومفتاحا لجلب المال الكثير، ذلك أن سيارات الدفع الرباعي تستغل في كل أنشطة التهريب، وتعمل سيارات من نوع ”تويوتا.أف.جي55” أو ”أف.جي60”، وأحيانا ”ستايشن” على نقل المهاجرين السريين من ”أرليت” في النيجر إلى الجزائر عبر ممرات سرية في الصحراء، ويخوض المهرّبون حربا يومية ضد الجيش وحرس الحدود في الجزائر، من أجل إيصال المهاجرين السريين إلى الجزائر.. عدوهم الأول هو طائرات الاستطلاع التابعة لسلاح الجو الجزائري التي تراقب الصحراء يوميا. ورغم الرقابة، يتمكّن المهرّبون يوميا من نقل عشرات المهاجرين السريين بطرق مختلفة، ويرتبط أغلب هؤلاء بصلات قرابة مع مواطنين جزائريين يقيمون في المناطق الحدودية.
يقول مهاجرون سريون من جنسية نيجرية، التقيناهم في مدينة تمنراست، إن سيارات ”الفرود” التي تنقل المهاجرين الراغبين في التسلل إلى الجزائر متوفرة بكثرة في مدينة ”أرليت”، شمال النيجر، في محطة النقل البري التي يطلق عليها السكان المحليون في أرليت ”أوتو ڤار”. في هذه المدينة التي تعدّ المحطة الأولى للراغبين في الوصول إلى الجزائر، يمكن لمجموعة من المهاجرين السريين أن يجدوا بسهولة شديدة سيارة نقل ”فرود” لنقلهم، لكنهم يخضعون ل«قانون الأقوى”، حيث يدفع كل مهاجر سري مبلغا بالعملة المحلية أو الأوروبية، 50 أورو عن كل رجل، و80 أورو عن كل سيدة، أو كل شخص يرغب في الركوب قرب السائق.
المثير في الموضوع هو أن السيارات المهيأة لحمل 8 أو 10 أشخاص تقلّ 33 رجلا وسيدة، ويمنع على المهاجرين السريين حمل أي أمتعة باستثناء كيس صغير يحتوي على 3 كلغ من التمر و5 لترات من الماء، وتجمع كل المياه والأكياس في كيس كبير يعلّق أمام السيارة لتوفير الحيّز. يقول مهاجرون سريون إن الرجال والنساء يجلسون فوق بعضهم البعض، يتراكمون وكأنهم أمتعة بلا حركة طيلة الرحلة الشاقة، إلى درجة أن مقصورة السيارة تحمل في داخلها ليس أقل من 22 شخصا، وهذه معجزة يصعب على من لم يجرّبها تصديقها. لكن الكثير من الشواهد، بما فيها شهادة عناصر من الدرك الوطني، تؤكد المعاملة اللاإنسانية التي يلاقيها المهاجرون السريون على يد المهرّبين، والأهم من كل هذا هو أن المهرّبين غالبا ما يتخلّون عن المهاجرين السريين في عمق الصحراء، دون أن يبادر أي مهاجر سري لمقاومة المهرّب الذي يحمل بصفة دائمة سلاحا آليا.
ضحّوا بالمهاجرين السرّيين حتى لا يقعوا في قبضة الجيش
القصة التي تم تداولها عبر أغلب المصادر تعود إلى منظمة إنسانية شاركت في عملية البحث عن الضحايا، تقول إن ما بين 80 و100 شخص، أغلبهم أطفال ونساء، ماتوا عطشا وجوعا في الصحراء بين الجزائر والنيجر، بينما نجا 18 شخصا، أغلبهم رجال شباب تمكنوا من العودة إلى ”أرليت”، كي يكشفوا تفاصيل الحادثة، كما تمكن 7 آخرون، حسب الرواية النيجرية، من الوصول إلى الجزائر، حيث تم إسعافهم، والسبب هو تعطل سيارتين من نوع ”تويوتا” رباعية الدفع كانت تنقل مهاجرين سريين بين ”أرليت” وعين ڤزام في الجزائر. لكن هذه القصة تشوبها بعض الثغرات، حيث لا يمكن أبدا لسيارتين من نوع ”تويوتا.أف.جي55” نقل أكثر من 100 شخص، كما أن الكثير من أبناء الجالية النيجرية في عين ڤزام وتمنراست قالوا لنا إن عدد القتلى أكبر من ذلك بكثير.
في مدينة عين ڤزام، بدأنا البحث عن التفاصيل المغيّبة. وهنا، التقينا، بعد جهد جهيد، بشخص من أصول نيجرية ترڤية، لكنه جزائري يدعى ”بينون”، اسمه الحقيقي هو ”حساني غمول”. للرجل الذي فاق عمره الخمسون سنة قصة طويلة مع المهاجرين السريين، عمل في ”الفرود”، وهو اسم عمليات تهريب الوقود والمهاجرين السريين، فكل شيء قابل للتهريب عبر الحدود بين الجزائر والنيجر منذ عدّة سنوات. معرفته بالصحراء كبيرة، حيث عمل سنوات عديدة كمرشد سياحي مع الوكالات المتخصصة. يقول ”بينون”: ”لقد وصل عدد من المهاجرين السريين الذي بدا عليهم التعب والعياء الشديد إلى عين ڤزام على متن شاحنة تهريب يوم 31 أكتوبر الماضي، وسمعت من أحد المهرّبين بعض التفاصيل حول الحادثة”. يضيف المتحدث: ”المأساة وقعت على الأغلب في منطقة جبلية شديدة الجفاف في وسط صحراء ”تالاك”، حيث انتظر المهاجرون السريون عودة السيارات التي نقلتهم إلى هذا المكان، بعد أن قرّر السائقون العودة إلى مدينة أرليت للبحث عن ميكانيكي وقطع غيار لسيارتين من نوع ”أف.جي55” تعطّلتا في الصحراء. لكن السائقين مع سياراتهم الثلاث لم يعودوا أبدا، والسبب هو العملية العسكرية التي شنّتها قوات الجيش الجزائري في المنطقة بحثا عن إرهابيين ومهرّبين.. السائقون كانوا يدركون أن التسلل إلى الجزائر في هذا اليوم أو مجرد الاقتراب من الحدود الدولية يعني التوقيف وفقدان السيارات”. ويواصل: ”أنا شخصيا أعتقد أن تعطل السيارات كانت حجة المهرّبين للتخلص من المهاجرين في الصحراء والفرار بجلدهم وبالسيارات الثلاث التي اختفت في مدينة أرليت النيجرية”.
حساني أو ”بينون” قدّم لنا تفاصيل إضافية مهمّة، هي المسار الذي تأخذه في العادة الرحلة عبر الطرق والمسالك السرية، يقول حساني إن ”الرحلة عبر الطرق السرية بين أرليت إلى الجزائر تستمر بين يوم واحد و3 أيام، وتتغير مدة الرحلة بين أرليت وعين ڤزام حسب إجراءات الأمن على الحدود بين الجزائر والنيجر، حيث قد تتوقف الرحلة على بعد 50 كلم من الحدود الجزائرية، ويضطر المهاجرون السريون لإكمال الرحلة إلى الجزائر سيرا على الأقدام، رفقة دليل يوفره سائقو سيارات ”الفرود”، وتمتد الرحلة في صحراء ”تالاك” عبر مناطق هي آراباغو وإيباتانين وتيجيغلت وتيوت وتيندين، وهذه المناطق يعرفها المهرّبون لأنها مواقع يسترشدون بها أثناء الرحلة، وهي عبارة عن مرتفعات يمكن للمهرّبين التخفي فيها أثناء التنقل في الصحراء في حالة وجود قوات ”كماشوتن” في الطريق، وهو الاسم الذي يطلقه المهرّبون على قوات الجيش النيجري. وبالنظر لما تم تداوله من اكتشاف الجثث على مسافة تتراوح بين 200 و300 كلم عن الحدود الجزائرية، فذلك يعني أن الرحلة توقفت في منطقة تتوسط مرتفعات تيوت وتيجيغلت على الأغلب.

..وللمهرّبين قانونهم الخاص
يقول أحد المهاجرين السريين من دولة غينيا، ويدعى ”أوني كامارا”: ”تنقلت مع مهرّبين من مدينة أكادس شمال النيجر عام 2012 إلى تمنراست ودفعت مبلغ 60 أورو لصاحب سيارة ”تويوتا ستيشن”، وقد أنزلنا على بعد 40 كلم من مدينة عين ڤزام الجزائرية وكانت أضواؤها تظهر لنا في الليل، وطلب منا التسلل إليها في مجموعات من 3 أشخاص. ونجح 20 منا في الوصول إلى عين ڤزام، بينما أوقف الجيش الجزائري 7 أشخاص”. ويضيف كامارا بأن الرحلة تتضمن صورا لمعاناة بشرية قد لا يصدق أغلب الناس أنها وقعت في القرن الواحد والعشرين قائلا: ”عندما يقرّر أحدهم التسلّل مع مهرّب على متن سيارة أو شاحنة، فإن أول قرار يتخذه ”الحراڤ” هو أنه سيتخلى عن آدميته وعن إنسانيته وحريته فور ركوبه السيارة، لأنه سيتحوّل إلى مجرّد بضاعة وحمولة على متن السيارة يمكن التخلص منها أو رميها في أي لحظة من السفرية، وأثناء الرحلة قد يسقط أحد المسافرين من سطح السيارة في الصحراء، ويرفض المهرّبون التوقف في أغلب الحالات لإسعاف الشخص الذي يسقط وحمله، لأنه لا يجوز توقيف السيارة أثناء الرحلة إلا في مواقع محدّدة، ويكون مبرّر عدم التوقف بالنسبة للمهرّبين هو أن أي توقف قد يؤدي إلى لحاق قوات الجيش النيجري بسيارات المهرّبين، كما أن النقود تدفع قبل انطلاق السيارات. ويمكن للمهرّب كذلك إنزال أي شخص وتهديد الركاب بأنه سيوقف الرحلة ويعود إذا لم يوافقوا. وبهذا، فإن الركاب يضطرون للتخلي عن رفيقهم تحت تهديد المهرّب المسلح. وبالنسبة للمهاجرين غير الشرعيين، فإن الوصول إلى أعماق الصحراء يجعلهم يحسّون أن حياتهم وموتهم هي في يد المهرّب وهو الوحيد القادر على معرفة الطريق في الصحراء، وبهذا يتحوّل الجميع إلى رهائن في يد المهرب.
تفاصيل الرحلة الأخيرة للمهاجرين السريين
في مدينة عين ڤزام التقيناه، إنه أحد الناجين من مأساة المهاجرين السريين، فقد شقيقته وطفليها في المأساة. يدعى ”أومبون يوسف” من مواليد 1987 في مدينة سبانكي القريبة من زيندر، المنطقة التي ينحدر منها أغلب القتلى. وجدنا صعوبة كبيرة في التفاهم معه، ذلك أن يوسف لا يتقن سوى بضعة كلمات باللغة الفرنسية ولا يعرف اللغة العربية، واضطررنا للاستعانة بأحد زملائه النيجريين الذي يتكلم العربية. يوسف الذي بدا عليه الفقر المدقع قبل الحديث مقابل تسديد أجرة يوم عمل، أي 500 دينار، يقول وهو يتذكر أيام الرحلة التي فقد فيها شقيقته وطفليها: ”في شهر سبتمبر الماضي، التقينا في محطة ”أوتو ڤار” بمدينة أرليت، كنا مجموعة كبيرة من النيجريين، أغلبنا من منطقة زنيدر. بدأنا التفاوض مع الوسيط في محطة النقل، حيث لابد من الاتفاق أولا مع الوسيط الذين يتكفل بدوره بتأمين سيارات النقل ”الفرود” لصالح المهاجرين السريين طيلة يومين تقريبا. بلغ عدد الراغبين في التنقل إلى عين ڤزام، قبل أسبوع أو 10 أيام من نهاية شهر سبتمبر، 120 رجل وامرأة وطفل تقريبا، وتطلّب الأمر توفير 4 سيارات من الوسيط، واتفقنا على اللقاء ليلا في منطقة قريبة من مدينة أرليت. أغلبنا كان يزور أرليت للمرة الأولى في حياته. قادنا الوسيط ويدعى ”سونغو”، وكان رجلا في الأربعين من العمر تقريبا، إلى موقع صحراوي، سرنا على الأقدام ليلا أكثر من ساعة إلى أن وصلنا إلى موقع صحراوي، توقفت فيه 5 سيارات، واحدة من نوع ”ستايشن” والأخرى من نوع ”تويوتا.أف.جي55”، وبدأنا في التفاوض على الحمل مع السائقين، كان مجموع هؤلاء 10 أشخاص، حيث في كل سيارة يوجد شخصان، سائق ومساعده، وكانوا مسلحين. اتفقنا في النهاية على أن يدفع كل شخص، سواء طفل أو رجل، مبلغ 5 آلاف فرنك إفريقي، حوالي 50 أورو، ودفعت النساء 7 آلاف فرنك إفريقي عن كل واحدة، أي 70 أورو، ودفع الأطفال الصبية (أقل من 8 سنوات) 3 آلاف فرنك، وطلب منا السائقون الركوب.. ركبت النساء ومعهن الأطفال في السيارات من الداخل، وتراكمت أجسام السيدات مع أطفالهن بطريقة لا تصدق.. كان السائقون صارمين للغاية في مسألة الحمولة، فيجب أن لا يقل عدد الراكبين داخل السيارة عن 20 شخصا على أن يركب الرجال العشرة الباقون فوق سطح السيارة (بورت باڤاج)، وتم تحميل السيارات ب120 أو 118 شخص، وقد رفض السائقون حمل 3 نساء بعد أن اكتشفوا أنهن حوامل، وانطلقت الرحلة على الساعة منتصف الليل تقريبا”.
يواصل يوسف سرد قصة التيه المؤلمة في الصحراء: ”كنا في مجموعة تضم 4 سيارات رباعية الدفع، وتكفلت سيارة ستايشن بقيادة القافلة. وفي الطريق، التقينا بسيارة خامسة، وبدا أن المهرّبين يعرفون سائقها، وتدعّمت الرحلة بخمس سيارات. بعد مسيرة 14 ساعة تقريبا، وصلنا إلى منطقة بها هضاب صخرية وجبال عالية. أوقف المهرّبون الرحلة، أعطونا قسطا من الراحة وبدأوا في التشاور فيما بينهم، كانوا يتكلمون مزيجا من لغة الهاوسا واللغة الترڤية، وفهمت من كلامهم أنهم يتحدثون عن الجيش الجزائري. أحسست في أعماقي ببعض القلق والخوف، خاصة بعد أن فهمت من بعض المهاجرين غير الشرعيين أن السيارة الخامسة التي التقينا بها في الصحراء وصلت إلى غاية 60 كلم عن الحدود بين الجزائر والنيجر، ثم عادت إلى عمق الأراضي النيجرية. أدركت في أعماقي أن في الأمر ”إنّ”، ثم عاودنا الانطلاق ليلا بعد توقف دام 6 ساعات تقريبا. وبعد المسير لمدة ساعتين فقط، توقفت السيارات الأربع، بينما واصلت سيارة ”ستايشن” الرحلة بمفردها. وعند استفسارنا عن سبب توقف الرحلة، قال لنا المهرّبون إن سيارتين اصطدمتا بصخرة ما أدى إلى إعطابهما، وحاول المهرّبون إصلاح السيارتين، لكن الساعات مرّت دون أن يتمكن السائقون من إصلاح السيارتين، فقرّروا أنه لابد من إحضار ميكانيكي من مدينة أرليت على أن يتركونا جميعا هنا في الصحراء. كان عددنا 117 رجل وطفل وامرأة، قال لنا المهرّبون إنهم سيتنقلون إلى أرليت لجلب قطع غيار وميكانيكي ثم يعودون. وغادرت السيارتان السليمتان الموقع بعد أن تم نقلنا إلى هضبة بها كهوف، وأكدوا علينا على أنه لا يجوز لنا مغادرة الهضبة لأن أي حركة في الصحراء ستجعل الطائرات تكشفنا. كانت كمية الماء التي معنا قليلة، بل إن بعض السيدات والأطفال لم يكن معهم أي ماء، قال لنا المهرّبون إنه في غضون 12 ساعة سيعودون ومعهم الماء والزاد لاستكمال الرحلة”.
مشاهد مرعبة
اغرورقت عينا يوسف بالدموع عدّة مرات أثناء سرده تفاصيل موت الأطفال والنساء عطشا، بعد انقضاء يومين كاملين دون أن تعود سيارات المهرّبين. يواصل: ”بعد أكثر من 48 ساعة من مغادرة السائقين، أدركنا أنهم لن يعودوا أبدا. كانت درجات الحرارة عالية جدا، وكان صراخ النساء والأطفال من الجوع والعطش يصمّ الآذان. تبرّع الشباب والرجال بما معهم من ماء وتمر للأطفال، في اليوم الثالث توفي طفل كان سنه 3 أو 4 سنوات عطشا، وبدأ صراخ الأطفال يصمّ الآذان.. قرّرنا مغادرة المكان بحثا عن الطريق الرئيسي الذي يربط أرليت بعين ڤزام الجزائرية، وتفرّقنا في مجموعات تضم بين 8 و10 أشخاص كانت كل مجموعة تضم أقارب، لكننا كنا نسير في مجموعات متقاربة. نصحنا أحد الرجال، وكان يدعى ”جولو”، أعتقد أنه مات عطشا وجوعا، بالتخلي عن الأطفال وقتل المرضى منهم، وكان عدد المرضى كبيرا، وكانت حجته أن الاعتناء بالأطفال سيجعل الجميع يموتون في النهاية، لن يكون هناك ناجون. ورغم وحشية اقتراح ”جولو”، إلا أنه تبيّن أنه كان على حق، حيث إن كل السيدات اللواتي قضين في الحادثة دفعن حياتهن ثمنا للحفاظ على حياة أبنائهن. وبينما فضّل نحو 40 منا العودة إلى أرليت متبعين آثار السيارات على أمل الاقتراب من أحد الطرق الرئيسية، فضّلت مجموعات أخرى الاقتراب من الطريق الرئيسي دون الاهتداء بآثار عجلات السيارات التي نقلتنا. في اليوم الثالث، كنا نسير بلا أمل ولا ماء ولا طعام، أغلبنا كان متعوّدا على آلام الجوع، حتى النساء، إلا أن آلام الجوع الذي تتعدّى مدته 3 أيام لا يمكن وصفها. إنها آلام حادة، فتضرب بطنك بقوة حتى تخفف من الألم دون جدوى. طيلة عدّة أيام، كنا لا نبحث عن الطريق قدر ما نبحث عن أشجار السن والبطم حتى نلتهم أوراقها، وحتى نحصل على القليل من الطاقة، وكانت أوراق أشجار السدر مختلطة بالأشواك، لكننا كنا مضطرين لتناولها”.

المتورطون في الحادثة مازالوا أحرارا
كانت رواية يوسف تقترب إلى الوحشية منها إلى قصة بشر يعيشون في القرن الواحد والعشرين، حيث يتحدث عن موت الأطفال والنساء، وشرب الرجال لبولهم، وما راود بعض الرجال من أفكار مجنونة لأكل لحم الأطفال الموتى حتى يتمكنوا من النجاة، ويعتقد يوسف أن بعض الناجين اضطروا لأكل لحم الأطفال حتى يتمكنوا من الوقوف على أقدامهم ومواصلة الرحلة. ورغم الصعوبة التي واجهت المترجم من الهاوسا إلى العربية أو الفرنسية، فإننا أحسسنا ببشاعة المشاهد التي شاهدها وبعض المشاهد التي يحتفظ بها لنفسه، بل إننا حفاظا على مشاعر بعض القرّاء نحتفظ ببعض تفاصيل القصة المرعبة. ويضيف يوسف: ”في اليوم الخامس، توفي طفلان، أحدهما ابن شقيقتي، وصارت أختي عاجزة عن المشي مع ابنها الثاني وسيدتين، فطلبت منها البقاء في مكان تحت ظل شجرة سدر، وبدأت أكل أوراقها مع سيدة ثانية و3 أطفال، بينما أكملت أنا المسير بخطوات متثاقلة. وبعد عدة ساعات، لم أعد أفكر في شقيقتي وابنها قدر تفكيري في النجاة من الموت جوعا وعطشا.. وفي ليلة اليوم الخامس، شاهدت ضوء يقترب من بعيد كانت شاحنة تهريب تنقل مواد غذائية قد توقف صاحبها لإعداد الطعام. في البداية، تصوّرت أن الأمر يتعلق بأحلام يقظة بفعل الجوع والعطش، لكن تبيّن لي أن الأمر حقيقي. ولدى اقترابنا من الشاحنة، أشهر سائقها في وجهنا سلاحا، لكنه بعد أن فهم وضعنا قدّم لنا بعض الماء والطعام، ونمنا قرب الشاحنة إلى الصباح. ولدى افتراقنا، قدّم لنا السائق بعض الماء والتمر، وأرشدنا إلى الحدود الجزائرية، حيث كانت على بعد 40 كلم تقريبا، وتمكنا من التسلل إلى عين ڤزام، بينما سمعت بعد أيام أن بعض الناجين وصلوا إلى الجزائر وآخرين وصلوا إلى أرليت سيرا على الأقدام وبفضل شاحنات وسيارات نقل أقلّتهم.
لا يمكن وصف الحادثة إلا بالجريمة ضد الإنسانية، حيث تخلّى المهرّبون عن أسر بكاملها، تركوهم يواجهون مصيرهم في الصحراء. ورغم هذا، فإن هؤلاء المهرّبين يتمتعون بحريتهم في مواصلة مسلسل قتل المهاجرين السريين في الصحراء. فهل تتحرّك الضمائر؟


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.