أكّد أساتذة الشّريعة بكلّيّة العلوم الإسلاميّة بجامعة الجزائر، أنّ بيع المساكن المموّلة من الخزينة العموميّة من طرف الدّولة - ممثّلة في وكالة عدل- للمواطنين على النّحو الّذي تضمّنه المرسوم التّنفيذيّ، هو أمرٌ جائز لا حُرمة فيه. أوضح الأساتذة في بيان وصل “الخبر” نسخة منه، وهو نفس البيان الّذي اعتمدت عليه المجالس العلمية المجتمعة مؤخّرًا بالعاصمة، أنّه لا توجد في العقد أدنى شبهة من شُبَه الرِّبا الّذي يُحرص على عدم قُربانه بأيّ شكلٍ من الأشكال، حتّى تلك المتعلّقة بالنّهي عن بيعتين في بيعة، إذ من خلال صورها الّتي تحدّث عنها الفقهاء يتّضح جليًّا المآل الرّبويّ فيها، ولذلك ورد في الحديث “.. فله أَوْكَسُهُمَا أو الرّبا”. وشدّد أساتذة الشّريعة على أنّه لا يُنتظر، في نوازل العصر، أن يُقتصر في تكييفها على المذهب وأقوال أئمته فحسب، بل قد يستفاد من المذاهب الفقهية الأخرى، من غير ترخّص قد يُفضي إلى التّحلّل، وهو ما انتهجته هذه الفتوى. وأشار البيان إلى أنّ الأصلَ في المعاملات هو الإباحة لا الحرمة؛ لعموم قول الله تعالى: {وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} البقرة:275، فقد اتّفق العلماء على أنّ العقود من باب العادات؛ والعاداتُ معقولة المعنى، معلّلةٌ بعللٍ سامية وحكمٍ جليلة، مبناها على تحقيق العدل والمصلحة ورفع الحرج عن الخلق. وأهمّ ما يلاحظُ في صورةِ هذا العقد هو خلوّه من الرّبا ومن بيع الأعيان المحرّمة كالخمر والخنزير والنّجاسات. وأمّا إطلاق اسم “البيع بالإيجار” على هذا العقد؛ فيشير ذات البيان إلى أنّه إطلاقٌ موهم ومثير للّبس بالنّظر إلى حقيقة هذا البيع، وإطلاق هذه التّسمية عليه لا يغيّر من حقيقة كونه بيعًا بالتّقسيط؛ لأنّ العبرة في العقود بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني. وشدّد الأساتذة على أنّ هذا البيع ليس فيه اجتماع عقدين في عقد، كما هو الحال في بعض صور “الإجارة المنتهية بالتّمليك” الّتي تجري في بعض البلدان. وأفاد البيان بإنّ الزّيادةَ التّعويضيّةَ الّتي تترتّب عن تأخّر المشتري عن السّداد؛ أي زيادة (5%) الّتي يدفعها المتأخّرُ عن سداد 3 أقساطٍ متتاليةٍ؛ ليست من قبيل الرّبا كما قد يتوهّم البعض، وإنما هي إلزامٌ للمشتري بتعويض البائع عمّا ألحقه به من ضرر بهذا التّأخير؛ بناءً على ما قرّره أكثرُ الفقهاء من تضمين الغاصب منافعَ المغصوب مدّة الغصب مع ردّ الأصل. وأمّا ما نصّ عليه المرسومُ المذكور من فسخِ البيعِ إذا لم يسدّد المشتري 6 أقساط شهريّة؛ وإعادة الدّفعة الأولى من الأقساط إلى المشتري وخصم الأقساط الأخرى، ومعاملة المستفيد من السّكن على أنّه كان مستأجرًا، فاعتبره البيان موافقا لما قرّره الفقهاء في ثمن إجارة المثل المترتّبة عن فسخ البيع؛ أي استقطاع أجرة المثل عن المدّة الّتي انتفع بها العميل وإعادة الباقي إليه، وهي أقساطٌ أقلّ بكثير من ثمن الإيجار الموجود في سوق العقار؛ واستحقاقُ البائع أجرةَ المثل عن المدّة الّتي انتفع فيها المشتري بالعقار تقرّرَ تحقيقًا للعدل في هذه المعاملة. وعرج أساتذة الشّريعة إلى نقطة مهمّة تتعلّق بما تضمّنه بيعُ المساكن على النّحو المعمول به في هذا العقدِ، من عدمِ تعيين موقع المسكنِ وتحديد الدّور أو الطّابق الواقع فيه؛ معتبرين أنّه ليس من الجهالة الّتي تضرّ بأصل هذا العقد؛ لأنّه محصورٌ لا على التّعيين حصرًا ترتفعُ به الجهالة، وأنّ المواطن الّذي يُقْبِلُ على هذه المعاملة يَعلم أنّ الدّولة تبني في مناطق تصلح لهذه التّجمّعات السّكنية في محيط الولاية نفسها، وأنّها لن تبيعه خارج محيطها، بل إنّ الوكالةَ المذكورةَ تقومُ بإعلامه بمواصفات المسكن مسبّقًا؛ كمساحته وعدد غرفه. كما أنّ ما يهمّ المشتري هو حصوله على مسكنٍ في أيّ مكانٍ من الأمكنة الّتي لا تخرجُ عن محيطِ ولايته، وهو يعلم أنّ مواصفات هذه المساكن لا تخرج عمّا عَهِدَهُ من المساكن الّتي تبنيها الدّولةُ للمواطنين؛ بحيث إنّ التّفاوت والاختلاف اليسيرين فيها لا يضرّه ولا يردّه عن إتمامِ الصّفقة؛ لأنّه محتاجٌ إلى المسكن؛ ويعاني أشدّ أنواع الحرج بسبب حرمانه منه؛ وغرضه الأهمّ هو أن يحصل على مسكنٍ يُؤْوِيهِ هو وزوجته وأولاده. كما أفاد بيان الأساتذة بأنّ أكثر الفقهاء المعاصرين أجازوا بيع الشّقق السّكنية على التّصاميمِ والمخطّطات والخرائط إذا كانت موصوفةً وصفًا مزيلاً للجهالة، وهو مأخوذ من رأي أكثر الفقهاءِ أنّ بيع العين الغائبة يصحّ مطلقًا إذا ذُكِرَ جنسها ونوعها، وإن لم يرها المشتري ولم توصف له؛ وله الخيار إذا رآها؛ وهو مذهب الحنفية والمالكية، وقول للشّافعي في القديم، ورواية عن الإمام أحمد، اختارها ابن تيمية في الرّاجح من قوليه وابن القيم. تجدر الإشارة إلى أنّ اللّجنة الّتي أعدّت هذه الفتوى تعتبر من خيرة أساتذة الشّريعة بكلّيّة العلوم الإسلاميّة بجامعة الجزائر، التقوا قبل شهر في بيت إمام بولاية المدية، واتّفقوا على هذه الفتوى، وهم: د.كمال بوزيدي، د. محمد عبد النبي، د. وثيق بن مولود، د. محمد إيدير مشنان، د. أحمد معبوط، د. موسى إسماعيل، د. عبد القادر بن عزّوز، د. سليمان ولد خصال، د. محمد سماعي، د. عبد الرحمن السّنوسي.