شكّل موضوع التراث الثقافي في عصر الذكاء الاصطناعي، محور يوم دراسي نظمته مديرية الثقافة والفنون لولاية بومرداس، ناقش فيه المتدخلون تحديات الحماية الرقمية للتراث بين الطموح والواقع. وعُدَّت عملية الرقمنة خطوة مهمة للحفاظ على الهوية الوطنية، ونقلها إلى الأجيال القادمة باستخدام أدوات العصر الرقمي. غير أن العديد من التحديات ماتزال مطروحة. ولعل أبرزها توفير الإمكانيات اللازمة؛ لأجل التوثيق الرقمي للتراث. طرح أساتذة مشاركون في اليوم الدراسي الذي نُظم مؤخرا تحت شعار: "الذكاء الاصطناعي: رؤية جديدة في التفاعل مع الموروث الثقافي" بالمكتبة الرئيسة للمطالعة العمومية بمدينة بومرداس، إشكالية الحفاظ على التراث المادي واللامادي؛ من خلال عملية الرقمنة، التي أصبحت حتمية في ظل التطور المتسارع لتكنولوجيا المعلومات والاتصال. وفي هذا السياق، قالت البروفيسور خليدة بن عياد أستاذة بجامعة بومرداس، إن رقمنة التراث الثقافي أصبحت أداة استراتيجية للحفاظ على الذاكرة الجماعية، لا سيما في ظل محاولات سرقة التراث الجزائري ماديا ولا ماديا، من قبل إحدى دول الجوار. وأضافت في تصريح لجريدة "المساء" على هامش اللقاء، أن الرقمنة تعني، ببساطة، تحويل العناصر المادية وغير المادية للتراث، إلى صيغة رقمية، تُساهم، بشكل كبير، في حفظها. والأهم من ذلك جعلها في متناول الأجيال في كل وقت. كما طرحت الأستاذة في هذا الصدد تساؤلا حول مدى استثمار الذكاء الاصطناعي في حماية التراث الثقافي، متخذة ولاية بومرداس نموذجا. وأشارت في إجاباتها الى تقنية الهولوغرام، التي باتت تُستخدم على نطاق واسع في المتاحف العالمية، معربة عن أملها في إدخال هذه التقنية إلى المتاحف الجزائرية ولو تدريجيا، بما يعزز جهود الحماية الرقمية للتراث الوطني. من جهة أخرى، قالت بن عياد إن من بين أبرز التحديات التي تواجه عملية رقمنة التراث، نقص الوعي بأهمية الرقمنة من فئات المجتمع، حيث لا يُنظر إلى التراث كعنصر يجب حفظه رقمياً، بل يُختزل غالبا في كونه ماديا أو شفهيا فقط. كما أشارت الى غياب تحفيز الشباب على توثيق تراث مناطقهم باستخدام الوسائط الحديثة، مثل الفيديوهات القصيرة، أو المدونات الرقمية. وسلّطت الضوء على تحديات أخرى، تتعلق بضعف التنسيق بين مديريات الثقافة، والبلديات، والجمعيات الثقافية المحلية، ما يؤدي إلى تكرار الجهود أو إهمال بعض المواقع. كما تطرقت لمشكلات تتعلق بضعف تغطية الأنترنت داخل المؤسسات الثقافية، وقلة المختصين في مجالي الرقمنة والذكاء الاصطناعي، مؤكدة أن التكوين في هذا المجال بات ضرورة ملحّة. وختمت الأستاذة بن عياد حديثها بالتأكيد على أن التكنولوجيا جاءت لتعيد للتراث بريقه، داعية إلى تنظيم قوافل توعوية لتعزيز الوعي بأهمية الحماية الرقمية للموروث الثقافي. وقالت إن الإرادة السياسية العليا في هذا الشأن، تُعد خطوة أساسية لإنجاح هذا المسعى، الذي يهدف إلى حماية تاريخنا الوطني من التزييف أو السرقة. ومن جانبه، عرض الأستاذ حاج قويدر مصطفى، رئيس الوكالة الوطنية للقطاع المحفوظ بدلس، رؤيته حول كيفية ترقية التراث الوطني المنقول، إلى منصة رقمية. وأشار إلى أن أول تحد في هذا المجال هو الإجابة عن التساؤل: "هل هذا التراث مؤهل فعليا ليُرقمن باستخدام الذكاء الاصطناعي؟". ورغم اعترافه بأهمية التطور التكنولوجي شدّد الأستاذ حاج قويدر في حديثه إلى "المساء" على هامش هذه الندوة، على أن الحماية الحسية تبقى الأهم، من خلال الترميم، والصيانة المستمرة، وتخصيص متاحف مجهزة بالشروط الصحية الملائمة، لحفظ اللقى الأثرية من تأثيرات الزمن والطبيعة. أما الحماية الرقمية فرآها دعما مكملا للحماية الميدانية. وعن مشروع رقمنة اللقى الأثرية المنقولة الموجودة بمتحف "سيدي الحرفي" في قصبة دلس، أوضح أنه لم يُنفَّذ ميدانيا بعد، وإنما تم التطرق له كمشروع مستقبلي، يحتاج الى ترخيص من الجهات الوصية، وكذا دعم بجهاز المصور الهوائي أو الدرون؛ لحماية رقمية للقى الأثرية لمتحف سيدي الحرفي. ورآى المتحدث المنجَز في هذا الصدد، تمهيدا، وخطوة تأطيرية أولى نحو تحقيق حماية رقمية فعلية. كما أشار الى تجربة معمارية، زميلة اقترحت رقمنة الجدار الروماني بدلس. وتمكنت من إعادة تصوره رقميا انطلاقا من الإحداثيات الحسية وبقايا الآثار، مؤكدا أهمية دعم هذه الخطوة، وتحويلها الى عمل تقني ميداني. وأكد في الختام أن رقمنة التراث في ولاية بومرداس، ليست مجرد عملية تقنية، بل هي مشروع ثقافي طويل المدى، يتطلب تضافر جهود جميع الفاعلين من مؤسسات الدولة، والجامعات، والمجتمع المدني، إلى جانب توفير الوسائل والمؤسسات الأكاديمية وكذا المجتمع المدني، مع توفير الوسائل الكفيلة بتحويل هذا التحدي إلى فرصة لصون التراث المحلي، وجعله متاحا للعالم الرقمي.