جاء عرض فيلم "قصة الخريف" (إنتاج 2024، مدة 76 دقيقة) ضمن مسابقة مهرجان الجزائر الدولي للفيلم بقاعة "ابن زيدون" في ديوان رياض الفتح، ليكشف عن تجربة سينمائية هادئة تنحاز إلى البساطة وتمنح شخصياتها مساحة للتعبير عن هشاشتها الداخلية. الفيلم، وهو أوّل عمل روائي طويل للمخرج المصري كريم مكرم، بدا امتداداً لمسار بدأه في الأفلام القصيرة والوثائقية، لكنّه هنا يخطو خطوة أكثر نضجاً في التعامل مع فكرة الوحدة بوصفها حالة إنسانية تتجاوز الخلفيات الاجتماعية والثقافية. منذ اللقطات الأولى، يصوغ الفيلم عالمه بنبرة بصرية خافتة تتجنّب المبالغة، وتتيح للمشاهد أن يرافق الشخصيات في قلقها واغترابها داخل مدينة لا تمنحها ما يكفي من الانسجام. الاغتراب ليس مرضاً ولا أزمة ظرفية، بل سؤال يتكرّر بصيغ مختلفة: كيف يعيش الإنسان حين تتشظى علاقاته، وحين لا يجد في محيطه ما يشبهه؟ الشخصيات تبدو متباعدة في كلّ شيء، لكنّها تتقاطع في شعور واحد يربط بينها على نحو غير مباشر، هو العزلة المستمرة والبحث عن صوت داخلي يُسمَع. اختيار المخرج لأسلوب بصري بسيط لم يكن نقصاً في الإمكانات بقدر ما كان قراراً جمالياً واعياً. فمكرم، كما قال بعد العرض، يؤمن بأنّ التقنية ينبغي أن تخدم الدراما لا أن تطغى عليها، وأنّ المبالغة في الإضاءة والموسيقى والحركة قد تشتّت المتفرّج عن جوهر الحكاية. لهذا فضّل العمل على مساحة هادئة تسمح للنص ولأداء الممثلين بأن يقودا الإيقاع، مؤكّداً أنّه لا ينتمي إلى مدرسة الإبهار، بل إلى مدرسة "الحدّ الأدنى" التي تجعل التفاصيل الصغيرة مرئية بوضوح أكبر. وأشار إلى أنه كان حريصاً على أن تكون المدينة نفسها شخصية صامتة، تعكس الحالة النفسية لأبطالها، وأن يكون الخريف خلفية رمزية لمسار داخلي يعيشه كلّ منهم. رحلة صناعة الفيلم بدت حاضرة في النقاش بقدر حضوره على الشاشة. فقد قال المخرج إنّ العمل استغرق سبع سنوات بسبب الإنتاج الذاتي وغياب أيّ دعم مؤسّسي، وإنّه تنقّل خلال تلك السنوات بين مراحل تطوير السيناريو، وتجميع فريق عمل يقبل بخوض التجربة بأجور رمزية أو مؤجلة، وتنفيذ الإنتاج والتوزيع بنفسه. وأوضح أن أصعب ما في التجربة لم يكن التمويل، بل الإصرار على إنجاز فيلم "هادئ" في زمن يفضّل الصخب والموضوعات المثيرة التي تجذب صناديق الدعم. وأضاف أنّ فريق العمل كان جزءاً أساسياً من نجاح الفيلم، وجعل التفاهم بينهم، التصوير يتم بروح تشبه روح الفيلم نفسه: صبر، هدوء، وإيمان بالفكرة. كما توقف مكرم عند استقبال الجمهور، مؤكّداً أنه رغم تواضع الميزانية، إلاّ أنّ تفاعل المشاهدين في المهرجانات كان أفضل مما توقّع، كما أنّ حصول الفيلم على جائزة لجنة التحكيم الخاصة في مهرجان الإسكندرية منح الفريق دفعة معنوية كبيرة. ويرى أن وصول الفيلم إلى مهرجان الجزائر الدولي يُعد محطة مهمة، لأن السينما الجزائرية – كما قال – شكلت جزءاً من ذاكرته السينمائية، خصوصاً أعمال محمد الأخضر حمينة وأحمد راشدي. وذكر أن السينما الجزائرية "تملك قدرة فريدة على تحويل الألم إلى جمال"، وأنها ألهمته منذ دراسته الأولى حين كان يبحث عن أفلام تُظهر حساسية العلاقة بين الإنسان ومحيطه.