"الأونروا" تعلن عن نفاد إمداداتها من الطحين في قطاع غزة    تبث على قناة "البلاد تيفي" والقناة الإلكترونية "دزاير توب"    سيما الحق في تقرير المصير..بوغالي يؤكد أهمية ترسيخ الوعي بحقوق الشعوب في أذهان الناشئة    متحدث باسم حماس: لا بديل لغزة إلا المسجد الأقصى والتحرير الكامل لفلسطين    كأس الكونفدرالية: شباب قسنطينة يفوز أمام بركان (1-0) ويغادر المنافسة    اليوم العالمي للسلامة والصحة في العمل: تعزيز الإجراءات الوقائية وترقية الترسانة القانونية    عن مسيرة الفنان محمد زينات : العرض الشرفي للوثائقي زينات.. الجزائر والسعادة    تكريما للفنان عبد الرحمن القبي.. ألمع نجوم الأغنية الشعبية في حفل فني بابن زيدون    بداية العد التنازلي لامتحاني "البيام" و"لباك"    خطوات عملاقة لبناء دولة قوية اقتصاديا واجتماعيا    ترسيخ الوعي بحقوق الشعوب في أذهان الناشئة    شكرا لك كيليا.. تتويجك الجديد فخر للجزائر    مشروع إنتاج الحبوب والبقوليات بتيميمون بخطوات متسارعة    اطمئنوا.. قطعنا أشواطا في تحقيق الأمن المائي    إجراءات استعجالية وإسكان فوري للمتضرّرين من حادثة وهران    حادث انزلاق التربة بوهران: ترحيل 182 عائلة الى سكنات جديدة بمسرغين    الجنوب.. مشاريع استراتيجية ببعد إقليمي    الجزائر فاعل رئيسي في دعم التعاون الإفريقي    التعاون الإعلامي من دون تشويه ومغالطات كفيل بتحقيق التقارب العربي    بحث التعاون بين الجزائر والهند في الصناعة الصيدلانية    ملف مفصل يُرفع إلى الجهات الوصية    شراكة جزائرية صينية    الذكاء الاصطناعي والتراث موضوع أيام تكوينية    أسبوع للابتكار بجناح الجزائر    مزيان يحثّ على النزاهة والمسؤولية    قفزة نوعية في قطاع التربية    بو الزرد: الاقتصاد الوطني يشهد نجاعةً ونشاطاً    مذكرة تفاهم جزائرية تركية    مولودية وهران تتنفس    رئيس تونس يُقدّر الجزائر    تعزيز الأمن المائي من خلال تحلية مياه البحر وإعادة استعمال المياه المستعملة    حادث انزلاق التربة بوهران: مولوجي تسدي تعليمات للمصالح المحلية لقطاعها لمرافقة التكفل بالمتضررين    ندوة تاريخية بالجزائر العاصمة إحياء للذكرى ال67 لمعركة سوق أهراس الكبرى    الجمباز الفني/كأس العالم (مرحلة القاهرة): تتويج الجزائرية كايليا نمور بذهبية اختصاصي جهاز مختلف الارتفاعات    مؤسسات صغيرة ومتوسطة : "المالية الجزائرية للمساهمة" تعتزم بيع مساهماتها في البورصة هذه السنة    الطبعة الرابعة للصالون الدولي "عنابة سياحة" من 8 إلى 10 مايو المقبل    اسبانيا: تنظيم وقفة تضامنية مع المعتقلين السياسيين الصحراويين بالسجون المغربية بجزر الكناري    القمة الإفريقية لتكنولوجيات الإعلام والاتصال : تكريم أفضل المنصات الرقمية في الجزائر لعام 2025    كرة القدم/البطولة الافريقية للمحليين: مجيد بوقرة يستدعي 26 لاعبا للمواجهة المزدوجة أمام غامبيا    جيجل: وصول باخرة محملة بأزيد من 10 آلاف رأس غنم قادمة من رومانيا بميناء جن جن    انطلاق أشغال الاجتماعات الدورية للمنسقين الإذاعيين والتلفزيونيين ومهندسي الاتصال العرب بالجزائر العاصمة    تطرقنا إلى السيناريوهات العملية لإنتاج النظائر المشعة محليا    بدء عملية الحجز الالكتروني بفنادق مكة المكرمة    عطاف ينوّه بالإرث الإنساني الذي تركه البابا فرنسيس    دينو توبمولر يدافع عن شايبي    منتخب المصارعة بخطى التتويج في البطولة الإفريقية    ابنة الأسير عبد الله البرغوتي تكشف تفاصيل مروعة    انطلاق الحجز الإلكتروني لغرف فنادق مكة المكرمة    جاهزية تامة لتنظيم موسم حج 2025    عدسة توّثق جمال تراث جانت بشقيه المادي وغير المادي    صيدال يوقع مذكرة تفاهم مع مجموعة شنقيط فارما    حج 2025 : إطلاق برنامج تكويني لفائدة أعضاء الأفواج التنظيمية للبعثة الجزائرية    الجزائر حاضرة في موعد القاهرة    هذه مقاصد سورة النازعات ..    هذه وصايا النبي الكريم للمرأة المسلمة..    ما هو العذاب الهون؟    كفارة الغيبة    بالصبر يُزهر النصر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الحروب الصليبية تدفع الفقهاء لتحريم "الجبن الرومي" والبابوات لحظر تجارة المسلمين.. المقاطعات الاقتصادية من مكة إلى باريس
نشر في المواطن يوم 04 - 11 - 2020

لم يكن الانحراف الذي اجترحته فرقة الخوارج -في وقت مبكر من تاريخ الإسلام- مقتصرا على بعده السياسي والقتالي فقط؛ فالخوارج بِرُؤاهم الشمولية لم يغب عنهم خطر توظيف المال في معاركهم الدامية، ولعل نجدة بن عامر الحنفي (ت نحو 72ه/689م) أبرز من وظف المال من الخوارج توظيفا تراوح بين الصواب والخطأ.
فارق نجدةُ زميلَه في المذهب نافعَ بن الأزرق الحنفي (ت 64ه/682م) "لإحداثه في مذهبه... وسار إلى اليمامة ودعا [أميرَ الخوارج] أبا طالوت (البكري ت بعد 66ه/684م) إلى [البيعة ل]نفسه، فمضى إلى الخَضارِم (= وادٍ باليمامة) فنهبها وكانت لبني حنيفة..، [ووجد] فيها من الرقيق ما عدتهم وعدة أبنائهم ونسائهم أربعة آلاف، فغنم ذلك وقسمه بين أصحابه، وذلك سنة خمس وستين (65ه/683م) فكثُر جمْعُه"؛ وفقا للمؤرخ ابن الأثير (ت 630ه/ 1233م) في 'الكامل‘.
جعل نجدة الحنفي من جمع المال وتقسيمه بين الناس أداةً للدعاية السياسية الناجحة التي جمعت حوله أتباعا كثيرين، ثم استحلى هذه الوسيلة حسبما يخبرنا به ابن الأثير في رصده لمسيرة هذا الشاب الحنفي ورؤيته الاقتصادية؛ فيقول: "ثم إن عِيراً خرجت من البحرين (= الساحل الشرقي للجزيرة العربية) -وقيل من البصرة- تحمل مالا وغيره يُراد بها ابن الزبير (ت 73ه/693م)، فاعترضها نجدة فأخذها وساقها حتى أتى بها أبا طالوت بالخضارم فقسمها بين أصحابه..، وقالوا: نجدة خير لنا من أبي طالوت، فخلعوا أبا طالوت وبايعوا نجدة وبايعه [أيضا] أبو طالوت، وذلك في سنة ست وستين (66ه/684م)، ونجدة يومئذ ابن ثلاثين سنة"!! ولما رأى نجدة ما يفعله المال من تمكين سياسي لأصحابه وقويت شوكته وحجَّ ولَّى بعض رجاله على مناطق واسعة من جزيرة العرب؛ ثم عاد إلى معقل إمارته في البحرين ف"قطع الميرة عن أهل الحرمين منها (= البحرين) ومن اليمامة، فكتب إليه ابن عباس (ت 68ه/688م): إن ثمامة بن أُثال لما أسلم قطع الميرة عن أهل مكة وهم مشركون، فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أهل مكة أهل الله فلا تمنعهم الميرة! فجعلها لهم، وإنك قطعت الميرة عنا ونحن مسلمون؛ فجعلها نجدة لهم".
وبعد محاولة نجدة حصار أهل مكة اقتصاديا وغذائيا؛ أصبح الحصار الاقتصادي أمرا مألوفا في الصراعات السياسية في الفضاء الإسلامي، ومصاحبا للمعارك العسكرية في أغلب الدول الإسلامية التي قامت بعد انقضاء خلافة الراشدين، سواء في عمليات الفتوح أو في صراعات ملوك المسلمين؛ ففي زمن بني أمية "نصب الحجاج المنجنيق على مكة ليحصر أهلها حتى يخرجوا إلى الأمان والطاعة لعبد الملك (بن مروان ت 86ه/706م)..، وحبس عنهم الميرة والماء، فكانوا يشربون من ماء زمزم.."؛ وفقا لابن كثير (ت 774ه/1372م) في 'البداية والنهاية'. استخدام متعدد
وحين اندلعت الحرب الأهلية الدامية في دولة العباسيين بين الأخوين الغريمين الخليفة الأمين ابن الرشيد (ت 198ه/808م) وأخيه ولي عهده المأمون (ت 218ه/833م)؛ لم يغب سلاح المقاطعة الاقتصادية والحصار التجاري عن تلك المعارك التي حُسمت نتيجتها لصالح المأمون، فقد ذكر الطبري -في 'تاريخه'- أن الأمين حين اقتنع بفشل سياسته القاضية باستدراج المأمون بالقدوم من معقله في خراسان إلى بغداد لتسهل له السيطرة عليه؛ أمر سنة 194ه/811م بأن "يُمنع التجار من حمل شيء إلى خراسان من الميرة..، ثم عزم على محاربته".
ومنذ سيطرة الفاطميين -وهم شيعة إمامية إسماعيلية- على مصر سنة 358ه/969م؛ احتدم الصراع بين القاهرة وبغداد على الحرمين الشريفين، اللذين تعد السيادة عليهما العنوانَ الأكبر للشرعية الدينية ل"خلافة" كل منهما في أعين الجماهير. وكان من تجليات ذلك الصراع ما أخبرنا به الإمام ابن الجوزي (ت 597ه/1200م) -في 'المنتظم'- من توظيف للحرب الاقتصادية في معركته؛ فقال إنه في موسم حج سنة 365ه/976م "حجَّ بالناس علويٌّ من جهة [الخليفة الفاطمي] العزيز (ت 386ه/996م) صاحب مصر، وأقيمت الدعوة له بمكة والمدينة..، بعد أن حوصر أهل مكة فمُنعوا الميرة وقاسَوْا شدة شديدة". وفي الغرب الإسلامي؛ لم يفوِّت قادة المرابطين استخدام هذا السلاح في مواجهة غرمائهم الموَّحِّدين، فنجحوا بواسطته في تعويق مشروعهم مؤقتا وجنّبوا دولتهم السقوط نحو ثلاثين سنة؛ فقد أرسل إليهم أميرُ المرابطين علي بن يوسف بن تاشفين (ت 537ه/1142م) "جيشا قويا فحصروهم في الجبل (= تين مَلَّلَ: بلدة جبلية حصينة بالمغرب كانت معقلا لتنظيمهم)، وضيقوا عليهم ومنعوا عنهم الميرة، فقلَّت عند أصحاب المهدي الأقوات، حتى صار الخبز معدوما عندهم..، فاجتمع أعيان أهل تين مَلَّلَ وأرادوا إصلاح الحال مع أمير المسلمين"؛ وفقا لابن الأثير في 'الكامل'. لم تكن المقاطعة الاقتصادية والحصار التجاري ثقافة شرقية إسلامية خالصة؛ فهي في الغرب الأوروبي أشد وأشهر وأنكى لاعتماد حياتهم على البحار والموانئ، كما أن الرغبة في الثراء وحب المغامرة التي طغت على الأوروبيين في عصورهم الوسطى جعلت الاقتصاد من أقوى الدوافع المحركة لأساطيلهم سِلْماً وحرباً، وخاصة تلك التي اتجهت شرقا وجنوبا نحو سواحل المسلمين. ويذكر مؤرخ الحضارات الأميركي وِيلْ ديورانت (ت 1402ه/1981م) -في 'قصة الحضارة'- دوافع الحروب الصليبية؛ فيقول إن ثالث أسبابها المباشرة "هو رغبة المدن الإيطالية -بيزا وجنوى والبندقية وأمالفي- في توسيع ميدان سلطانها التجاري الآخذ في الازدياد. ذلك أنه لما استولى النورمان على صقلية من المسلمين (1060-1091م)، وانتزعت الجيوش المسيحية منهم جزءاً كبيراً من إسبانيا (1085م وما بعدها)؛ أصبح البحر المتوسط الغربي حراً للتجارة المسيحية". وكان انعكاس الحروب الصليبية على أوروبا قويا من ناحية الثراء الاقتصادي، وخصوصا الدول/المدن الإيطالية التجارية السابقة الذكر التي قويت وأثْرَت لأنها كانت "هي الثغور التي تخرج منها غلات إيطاليا والبلاد الواقعة وراء [جبال] الألب، وأخذت هذه المدن تعمل للقضاء على تفوق المسلمين في الجزء الشرقي من البحر المتوسط، وتفْتح أسواق الشرق الأدنى لبضائع غربي أوروبا، ولسنا نعلم إلى أي حد كان هؤلاء التجار الإيطاليون قريبين من مسامع البابا"! دوافع متناقضة
لكل تلك العوامل؛ كان البعد التجاري والدافع الاقتصادي في كل مراحل الحروب الصليبية حاضرا بقوة، وكان من مكوِّني جيوش الصليبيين جماعات "التجار الذين يبحثون عن أسواق لبضائعهم"، كما اشترطت البندقية الإيطالية على قادة تلك الحروب أن تختص "بنصف الغنائم الحربية" مقابل "أن تمدهم بخمسين سفينة حربية"! هذا رغم "أن البنادقة لم يكن في عزمهم أن يهاجموا مصر؛ فقد كانوا يكسبون منها الملايين في كل عام بما يصدرونه إليها من الخشب والحديد والسلاح، ولم يكونوا يريدون أن يخاطروا بضياع هذه التجارة بالاشتراك في الحرب، أو باقتسامها مع بيزا وجنوى". ويحدثنا الرحالة ابن جبير الأندلسي (ت 614ه/1217م) -في مواضع من رحلته- عن اتساع النشاط التجاري بين المسلمين والصليبيين بعد استيطانهم سواحل الشام، وكيف أن هذا النشاط لم يكن في زمنه متأثرا بأجواء الحروب المتكررة في جغرافيته، في صورة أخرى من صور التعايش الديني حتى ولو كان بين الأعداء بإملاء من عامل توازن الردع. فابن جبير يذكر مثلا أن "تجار النصارى.. لا يُمنَع أحدٌ منهم ولا يُعترَض، وللنصارى على المسلمين ضريبة يؤدونها في بلادهم (= مستعمراتهم)..، وتجار النصارى أيضا يؤدون في بلاد المسلمين على سلعهم، والاتفاق بينهم والاعتدال في جميع الأحوال، وأهل الحرب مشتغلون بحربهم والناس في عافية..، ولا تُعتَرَض الرعايا ولا التجار، فالأمن لا يفارقهم في جميع الأحوال سِلْمًا أو حرباً"!! ورغم ذلك؛ لم تكن تجارة الصليبيين مع المسلمين بتلك المرونة لأن رجال الدين المسيحيين كانوا لها بالمرصاد، إذ كثيرا ما أصدر بابوات الفاتيكان قرارات "الحرمان الكنسي من الغفران" بحق التجار المسيحيين الذين يتاجرون مع المسلمين. ويبدو أن ذلك ازدادت وتيرته عقب زمن الرحالة ابن جبير مع توالي فشل الحملات الصليبية الموجهة إلى الشام ومصر منذ الربع الثاني من القرن السابع الهجري/الثالث عشر الميلادي، وصولا إلى توقفها نهائيا -مع نهاية ذيْنك القرنين- نحو خمسة قرون. فالمستشرق الفرنسي روبار برنشفيك (ت 1411ه/1990م) يؤكد -في كتابه 'تاريخ إفريقية/تونس في العهد الحفصي‘- أن التجار المسيحيين كثيرا ما خضعوا "لقرارات الحظر الصادرة عن الكنيسة بخصوص إمداد المسلمين بأية مادة من شأنها أن تساعد أولئك ‘الكفار‘ في حربهم ضد أنصار المسيح، ولقد طبقت بعض الدول النصرانية مرارا وتكرارا قرارات الحظر المذكورة الصادرة عن الكنيسة، ولدينا عدة أمثلة من ذلك المنع الصادر عن بعض الحكومات الأوروبية ضد رعاياها الذين يتاجرون مع إفريقية". ويفيدنا برنشفيك "أن قرار المنع الأكثر تفصيلا هو ذلك الصادر عن ملك أرغون خايمي الأول (ت 675ه/1276م) ضد إفريقية؛ ففي 12 أغسطس/آب 1274م (= 673ه) ذَكَّر الملكُ القطلونيين -الذين رخّص لهم في التحول إلى تونس- بالقرار الذي اتخذه في برشلونة.. بخصوص منع إمداد المسلمين بالمواد التالية: الأسلحة والحديد والخشب والقمح والشعير والذرة البيضاء والدخن والفول ودقيق كل الحبوب وحبال القنب، أو غير ذلك من المواد الصالحة لصنع حبال السفن والرصاص". وتذكرنا قائمة هذه السلع الممنوعة بما تُصْدره اليوم القوى الدولية العظمى من قوائم حظر تجاري تستهدف إضعاف اقتصاد "الدول المارقة" لإخضاعها لسياسات ومواقف معينة!! ويضيف روبار أن ملكا أرغونياً آخر هو خايمي الثاني (ت 727ه/1327م) أصدر قرارا مماثلا سنة 720ه/1320م يمنع التجارة مع أهالي تلمسان غربي الجزائر. خطة شاملة
والحقيقة أن خطة الصليبيين الأكثر تفصيلا والأشد شراسة في مقاطعة المسلمين وحصارهم اقتصاديا هي تلك التي سطّرها أحد أبناء جزيرة البندقية اسمه مارينو سانوتو المعروف بلقب تورسيللو (ت 744ه/1343م) في دراسة بعنوان: 'كتاب الأسرار للصليبيين الحقيقيين لمساعدتهم على استرداد الأرض المقدسة‘، وقدّمها سنة 721ه/1321م إلى البابا يوحنا الثالث والعشرين (ت 734ه/1334م). ويكشف لنا مؤرخ الحروب الصليبية سهيل زكّار (ت 1441ه/2020م) -في 'الموسوعة الشاملة عن الحروب الصليبية'- حيثيات تأليف كتاب تورسيللو والظروف التي أنتجته؛ فيقول "إن تحرير عكا سنة 690ه/1291م كان حدثا هائلا شمل الغرب الأوروبي كله، وهنا شرع رجال الكنسية ورجال الحكم والسياسة وأرباب الفكر والقلم، كل بدوره يعمل في سبيلِ مشروعِ حملةٍ صليبيةٍ، مع اقتناعهم أن طريق فلسطين يمرّ عبر مصر التي فشلت كل المحاولات السابقة لاحتلاها". ومن هنا جاءت أهمية كتاب تورسيللو الذي يبدو أنه -بعد قرابة خمسة قرون من صدوره- ألهم الإمبراطورَ الفرنسي نابليون بونابرت (ت 1236ه/1821م) القيامَ بأول حملة استعمارية صليبية -بعد استعادة عكّا- على المشرق الإسلامي، انطلاقا من غزوه مصر وسواحل الشام لإخضاعها وضمها سنة 1212ه/1797م!! ويخبرنا مؤلف هذا الكتاب الخطير وواضع خطة المقاطعة الاقتصادية الشاملة للمسلمين عن حيثيات تأليف كتابه وكيفية دخوله على البابا الذي قدم "له نسختين حول استرداد الأرض المقدسة والحفاظ على المؤمنين نسخة مغلفة باللون الأحمر، والثانية بصليب"، كما قدم له أربعة مصورات جغرافية توضيحية؛ المصور الأول: عن البحر الأبيض المتوسط، والثاني: عن الأرض والبحر، والثالث عن الأرض المقدسة، والرابع: عن أرض مصر. أما الدافع الحقيقي لتأليف الكتاب فيقول عنه تورسيللو: "ولست متقدما إلا بمحض إرادتي لأريكم كيفية إذلال أعداء الإيمان المسيحي، وهزيمة سلطان القاهرة (= الناصر محمد بن قلاوون ت 741ه/1341م) و[حليفه وصهره سلطان مغول القوقاز] أوزبك خان (ت 742ه/1341م)، الذي اشتهر عند جنوب الأرض أنه لا يُهزَم"! كل ذلك "بنفقة زهيدة، لا بل بدون نفقة"!! وبعد تقديم التقرير والخطة يخبر تورسيللو سيده البابا بأن له التقدير النهائي في "إبادة الأمة الإسلامية التي نشرها محمد (صلى الله عليه وسلم)، ولتعلم قداستكم أن هذا ممكن تحقيقه حسبما سيتضح.. لكم من خلال هذا الكتاب". لم يكن كتاب هذا الصليبي الإيطالي -الذي عاش زمنا داخل الكنيسة- مجرد تنظير بارد، بل كان خلاصة تجارب ثرية وصعبة في أحايين كثيرة؛ وقد لخّصها هو بقوله: "في سبيل مشروعي هذا كنت قد عبَرت البحر خمس مرات؛ حيث ذهبت مرة إلى قبرص، وثانية إلى أرمينيا، وثالثة إلى الإسكندرية، كما ذهبت إلى رودس، وكنت -قبل أن أقوم بهذا كله- قد أقمت مدة طويلة في كل من الإسكندرية وعكا، وذلك دون خرق للحظر الذي فرضته الكنيسة..، ولهذا أعدّ نفسي مطّلعا بشكل جيد على كل أحوالها". اهتمام بالغ
ولشدة اهتمام البابا بهذا الكتاب وما تضمنه من تفاصيل شكَّل لجنة من "الإخوة الرهبان" لدراسته وتقديم تقرير عنه، وقد رأت اللجنة "اعتمادا على محتوى الكتاب أن من الممكن تجهيز كل ما هو لازم بطريقة لائقة من أجل ركوب البحر والعبور إلى مصر، وذلك ما سيضعف موارد السلطان وستنشلّ قواه ومقوماته، كما أن المواد (= السلع) التي يستوردها المسيحيون عادة من البلدان الخاضعة للسلطان من الممكن الحصول عليها من بلدان أخرى، وعندنا أن هذا سهل تحقيقه"! أما مضمون كتاب تورسيللو فهو خطة حصار اقتصادي صليبي محكم للعالم الإسلامي مقتضاها أنه يجب "الوقوف في وجه الذين يسعون نحو بلاد السلطان لابتياع الأصناف النادرة وبقية أنواع البضائع، ومن ثم نقلها عبر البحر الأبيض المتوسط". ويقترح المؤلف عدة بدائل للأوربيين بأن يذهبوا إلى الهند عبر الأراضي التي يسيطر عليها التتار عن طريق بغداد، مع لغة ترويجية ماكرة للبضائع المحمولة عبر طرق بلاد التتار. يتألف الكتاب من عدة أقسام وفصول يغني الوقوف على أفكارها الكبرى عن بقية الكتاب، وكلها تأليب للبابوات والقادة الصليبيين على محاصرة المسلمين اقتصاديا وخصوصا أهل مصر؛ فالقسم الأول من الكتاب مثلا "يشتمل على توضيح طُرُق إضعاف قدرة السلطان وتبيان قدرة "المؤمنين بالمسيح" على استيراد المنتجات اللازمة دون الاضطرار للذهاب إلى "الأراضي الخاضعة للسلطان"!! وبينما يتمحور القسم الثالث من الكتاب حول "البضائع التي يحتاجها المسلمون والتي لا بد لهم من الحصول عليها من الخارج"؛ يركز القسم الرابع على "وجوب إيجاد إجراء للمقاطعة أنفع من الإجراء الحالي.. لتدمير المسلمين، وكيفية العمل لمنع أية أعمال تجارية على الإطلاق مع البلاد الخاضعة للسلطان [قلاوون] عبر البحر المتوسط"!!
وفي الفصول العديدة التي توزعت عليها أقسام الكتاب؛ يقدم تورسيللو البندقي قائمة ب"المنتجات التي نحتاجها.. من بلاد السلطان ويمكن الحصول عليها من بلاد المسيحيين"، موضحا أن المسلمين يجنون من ذلك أموالا كثيرة "وإذا توقف المسيحيون عن ذلك فإن هذا يلحق بالسلطان والمسلمين ضررا كبيرا بالغا". ويتطرق "للأضرار التي سوف تلمّ بالسلطان وبالشعب الخاضع له في حال إيقاف تصدير الذهب والفضة والحديد وبقية أنواع المعادن وغير ذلك من المنتجات إليهم"، ثم يشرح "الخسائر الفادحة والنفقات الكبيرة التي ستتوجب على السلطان وستنزل به إذا أوقِف تصدير المواد الغذائية والمنتجات المتنوعة من بلاد المسيحيين إلى بلاده". حظر "مقدّس"
ولإقناع المسيحيين بوجوب المقاطعة الاقتصادية للمسلمين وسلاطينهم؛ يعتني تورسيللو بتفصيل "الأسباب المسوغة لمنع أي مسيحي من شراء أية بضائع مجلوبة من البلدان الخاضعة للسلطان مهما كانت الطرق التي جاءت بها"! ولم يكتف بانتهاج الأسلوب الإقناعي بل مزجه بالمنزع التخويفي حين جعل أحد فصول كتابه جوابا لسؤال: "لما ذا يتوجب على جميع المسيحيين مطاردة المخالفين لأوامر الكنيسة في هذا المجال في كل مكان، وليس فقط في البحر بل وفي البر"؟ وفي الأخير شرَح واضعُ خطة المقاطعة الاقتصادية الشاملة للعالم الإسلامي "العقوباتِ المتوجب إنزالها بالأمراء وبحكام المناطق وبالجماعات التي لا تلتزم بهذه الإجراءات فتستقبل تلك البضائع في مراسيها أو في أراضيها"، وانتقل من تقنين العقوبات إلى "مراقبة البحر وحراسته وكيفية تأهيل الجهاز الأمني الأول للمسيحيين -أي الجيش- للحرب، ومقدار التكاليف" المترتبة على ذلك. ولفت تورسيللو انتباه مطالعي خطته إلى أن "الشخص الذي سوف تتولى كنيسة الرب المقدسة الأمر بتعيينه قائدا قد يتمكن من أن يوجب على المسلمين القاطنين في تلك المناطق الامتناعَ عن تصدير أو استيراد أية سلعة من الأراضي التابعة للسلطان" المسلم! فالمحاصرة الصليبية هنا لم تعد مقتصرة على منع أتباع الكنيسة من استيراد بضائع المسلمين، وإنما صارت تشمل منع المسلمين من استيراد بضائعهم "الحلال"!!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.