"الخضر" ينهون تصفيات المونديال بفوز مثير    الحفاظ على الذاكرة الوطنية وغرس مبادئ الثورة في الشباب    الشروع في المعالجة البيداغوجية لنتائج تقييم المكتسبات    الصيرفة الإسلامية رؤية متكاملة لاقتصاد أساسه العدل والتكافل    القطاع المصرفي الجزائري الخامس إفريقيا    انطلاق مشروع إنجاز القطب المالي قريبا    فلسطين قضية الجزائر والرئيس تبون بامتياز    الأمم المتحدة والصليب الأحمر يطالبان بالفتح الفوري للمعابر    احتجاجات مرتقبة السبت المقبل في مختلف المدن    دور حيوي للإعلام في مرافقة العمل التشريعي    الجزائريون يحتفون برجال المونديال قبل الالتحاق ببلاد "الأمريكان"    الجزائر على الطريق الصحيح لتحقيق السيادة الصحية    التزام بمواصلة العمل لتحسين أوضاع مستخدمي الصحة    اجتماع تنسيقي لمعالجة إشكال خطوط النقل بين الطارف وعنابة    لم أفكّر في بلجيكا وحلمي كان دائما اللعب مع الجزائرأبدى سعادته    إحباط إدخال 1200 هاتف نقال    بسكرة.. معركة "فرغوس أكباش".. مواجهة ملحمية لإثبات الوجود    فلسطين : الاحتلال الصهيوني يفرج عن 83 معتقلا فلسطينيا    بلجيكا تلغي حفلاً ل"ديستربد":    سكيكدة : حريق يلتهم نصف هكتار من الأدغال والأحراش    جيلالي تعرض مشروعي قانونين يتعلقان بالأوسمة العسكرية    وزير الاتصال يشدد على ضرورة استكمال المنظومة التشريعية للقطاع    تدعيم مدونة التكوين بتخصصات جديدة في مجال البيئة لمرافقة الشباب المقاول    وزير الأشغال العمومية يعاين مشاريع الطرق بتيسمسيلت ويؤكد على وتيرة إنجاز المشاريع التنموية    وزير الداخلية يشارك بكيب تاون في جلسة وزارية حول الاستثمار في الحد من مخاطر الكوارث    وزير الصحة يباشر سلسلة لقاءات تشاورية مع الشركاء الاجتماعيين    نجاح المرحلة الأولى من وقف الحرب    الصَلب الفلسطيني: جرحى نازفون... ولكن غير مهزومين    مشاريع فلاحية ضخمة بالجزائر    سايحي يشدد على وضع المواطن في صلب الاهتمام    الرئاسة تُعزّي    وزير الصحّة يشرف على يوم دراسي    موعدٌ مع الاحتفال ببلوغ المونديال    صفقة ضخمة.. جزائرية سعودية    تنظيم مسابقة لالتحاق بالتكوين شبه الطبي    رئيس الجمهورية يولي أهمية قصوى لهذه المنطقة    تجسد مبادئ راقية لتكافؤ الفرص والعدالة الاجتماعية    الجزائر "جعلت من الوقاية من الكوارث أولوية وطنية"    ورشات في السيناريو وسينما الموبايل    جوفنتوس في قلبي وسأعود للتدريب قريبا    إشادة بتضحيات فئة شاهدة على مرحلة خالدة من تاريخ الجزائر    غلاف أوّلي ب122 مليار سنتيم لمشروع إعادة التأهيل    "صيدال" و"نوفو نورديسك" لتطوير أدوية    بلايلي وبونجاح يُصابَان    جلاوي يترأس جلسة عمل تنسيقي وتقييمي مع إطارات القطاع    شباب يعتنقون خرافات من ثقافة الجاهلية الإسرائيلية والهندوسية    وزير الصحة يلتقي نقابة الأسلاك المشتركة    بلمهدي يزور جامع سفير    الخضر يستعدون لمواجهة أوغندا    المجتمع الرقمي له تأثيره وحضورُ الآباء ضروري    الفريق أول السعيد شنقريحة يهنئ المنتخب الوطني بمناسبة تأهله إلى كأس العالم 2026    خديجة بنت خويلد رضي الله عنها    فتاوى : كيفية تقسيم الميراث المشتمل على عقار، وذهب، وغنم    مهرجان الجزائر الدولي للفيلم يفتح باب التسجيل للمشاركة في أول دورة من "سوق AIFF" المخصص للسينمائيين    نعمل على توفير جميع الإمكانيات لهيئة التفتيش    الأدب ليس وسيلة للمتعة فحسب بل أداة للتربية والإصلاح    فتاوى : إنشاء صور لذوات الأرواح بالذكاء الاصطناعي    هذه مخاطر داء الغيبة..    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في مدينة الأبيض سيدي الشيخ فرنسا وأول تجربة تنصيرية في التاريخ
نشر في أخبار اليوم يوم 21 - 04 - 2021


-الجزء الحادي والخمسون-
بقلم: الطيب بن إبراهيم
*صعوبة تكيّف متكوني الإرسالية
نظرية التكيُّف التي انتهجتها إرسالية الأبيض مع طلبتها والتي تحّمس لها قادتها ورفع لواءها المستشرقون كانت نظريةٌ أكثر منها واقعية وإذا كانت في متناول بعض الزعماء المنظِّرين فلم تكن في متناول بقية الطلبة المتكوِّنين وذلك لعدة تحديات لا يمكن للطالب المتكوِّن مواجهتها دفعة واحدة خلال سنة واحدة مهما كانت إرادته وعزيمته.
معظم قواعد التكيف مع السكان المُتَّبعة من طرف طلبة الإرسالية مستوحاة من قواعد شارل دي فوكو التي انتهجها وكتبها وتنظيرات تلميذه ماسينيون التي دعا إليها وأوصى بها. وإذا كان من السهل على بعض منظري الإرسالية مثل المستشرق العالمي لويس ماسينيون والمستشرق لويس غاردي بأن ينظرا لنظرية التكيف مع السكان والذوبان فيهم حتى يشعر المُتكوِّن وكأنه واحد منهم حسب تصوُّرهم فهذا لا يمكن تحقيقه على أرض الواقع بين جميع المتكونين وذلك أولا لتفاوت قدرة كل متكون ومستواه الثقافي وانتمائه البيئي من جهة ولصعوبة واقع العيش في العالم الجديد من جهة أخرى وللإيمان أصلا بالفكرة.
*صعوبة المناخ
من الصعب جدا أن يجد طالب قادم من بيئة باردة في أوروبا أو كندا نفسه فجأة في صحراء حارقة تصل درجة حرارتها الأربعين (40) صيفا إن لم تتجاوزها أحيانا وهو الذي تعود على ملابس خفيفة ليُفرض عليه لباسُ عباءة وبرنوس من صوف ويضع شاشا محليا على رأسه مثل السكان أو قبعة تونسية على الأقل لا يسمح له بغير ذلك خارج مبنى الإرسالية بل حتى داخل الإرسالية لا يسمح لأي زائر عربي أن يشاهد المتكونين في لباسهم الغربي هذا ما يفرضه نظام الإرسالية. أما داخليا فهناك نظام صارم في الأكل والشرب والنوم والنهوض والعمل والصلاة والدخول والخروج بل حتى في العلاقات الثنائية في الحديث في المطعم والزيارات في الغرف لا يسمح بها إلا للضرورة وخارجيا مناخ حار لا يحتمل ولباس لا يحتمل حرارة جعلت البعض من رجال الإرسالية يفر صيفا إلى مناطق جبلية كجبل بيسا أو كجبل عيسى بالعين الصفراء والبعض الآخر ينام ليلا خارج الغرف وعلى سطوحها هذا في حالة عدم وجود الرياح العاتية الحارقة المحملة بالزوابع الرملية ولم تتوقف الصعوبة هنا فقط بل تزداد أثناء تعلمهم ما كانوا يُسَمُّونه بقواعد الصحراء وهي كيفية التعامل مع السكان في المناسبات وتعلم بعض العادات والتقاليد المحلية زيادة على ذلك جهل المتكونين اللغة العربية التي فُرض عليهم تعليمها ساعة واحدة يوميا. بالإضافة لممارسة الأعمال والأنشطة الشاقة كالفلاحة والحدادة والنجارة والرعي والإقامة بالبادية.
وما كان أصعب هو جهل المتكونين للثقافة الإسلامية عكس مستشرقيهم ومنظريهم حيث يمارسون طقوسهم الدينية بتكيف إسلامي ليتحول الطالب المتكون إلى آلة متحكم فيها في عالم غريب عليه فَمَبْنى القبّة الكنيسة غريب عليه ومحرابها وكتاباتها العربية غريبة عليه واللغة العربية التي يصلي بها غريبة عليه و أذان كنيسته غريب عليه ولباسه العربي غريب عليه وطريقة صلاته بالسجود على الجبهة والركبتين والكفين في بادية الصحراء غريبة عليه...
فالتكيف لا يتوقف عند ارتداء لباس عربي أو سكن بيت طوبي أو ركوب ظهر بعير في الصحراء أو السكن تحت سقف خيمة في البادية بل تتطلب معرفة لغة ومعتقد وتاريخ السكان وإلماما بثقافتهم وفهم بعض الممارسات وهو ما كان في متناول المستشر قَيْنِ المقيمين بالأبيض روني فوايوم ولويس غاردي وتحت إشراف مستشار وزارة الخارجية الفرنسي لويس ماسينيون الذي كان يتابع الأوضاع حدثا بحدث من خلال عشرات الرسائل والذي أرسل بدوره بعض المستشرقين لإرسالية الأبيض لتذليل الصعاب وتقديم الإسناد والدعم ومن بينهم جورج شحاتة قنواتي المصري وبيار غرو من فرنسا وإيميل جانيي من مدرسة تلمسان وحبيب أنطوان من لبنان.
واذا كان التكيف مقبولا وفي متناول مستشْرقَيْ الإرسالية ومنظريها فالأمر لم يكن كذلك وبنفس البساطة لزوارها من الطلبة المتكونين القادمين من قارات ودول شتى من العالم غُرباء على بعضهم البعض بعضهم لا يعرف حتى اللغة الفرنسية لا يجمع بينهم إلا الولاء للكنيسة فكيف نُلْبِس للطالب المتكون القادم من هايتي والبرازيل والفيتنام لباسا عربيا ونلقنه مفردات عربية ونضعه في الواجهة في بيئة صحراوية أمام السكان؟ ليقوم برسالة هو نفسه غير مقتنع بها هذا الوضع لم يكن سهلا ليتقبله المتكوِّنون جميعا وكانت ردود فعلهم متفاوتة قبولا وسكوتا ورفضا وتمردا.
نتائج هذه الصعوبات وقدرة تحملها وما كان ينتج عنها من نتائج تختلف من شخص لآخر لمن كان يستطيع إكمال تكوينه فمنهم من يتعرض للمرض مثل المستشرق بيار غرو الذي قدم من فرنسا للأبيض في عز أيام حر الصيف وصل للأبيض يوم 19 جويلية سنة 1935 فمرض ونقل إلى عدة مستشفيات . وكذلك التشدد والتخفيف في التمسك بقواعد دي فوكو الصعبة أدى إلى انفجار أزمة بين قيادة الإرسالية سنة 1943 بين رئيس الإرسالية فوايوم وزميله المؤسس معه للإرسالية مارسال وهي أزمة بين متشدِّدين للتكيف وبين مطالبين بتبسيط القواعد وأدّت الأزمة إلى تدخل أعلى القيادات لحلها. بل وصل الأمر ببعضهم إلى التمرد ليس على الإرسالية فقط بل على النظام الكهنوتي كلِّه والالتحاق بالحياة الزوجية كحال جاك كيريال الفرنسي المستعرب الذي رفض سلطة رئيس الإرسالية ميلاد عيسى وصرامته وغادر الإرسالية وتمرد عن حياة الرهبنة إلى عالم الزواج.
كانت نظرية التكيف مع السكان هي عبارة عن أفكار وتوجيهات فلسفية ومثالية بعيدا عن أرض الواقع قد يصعب شرحها وتقريبها من المتكوِّن المبتدئ وإذا فهمها يصعب عليه التصديق بها. قد يؤمن قس الإرسالية ومؤسسها وصاحب المشروع نظريا وميدانيا بأفكاره لكن كيف يؤمن بها شاب قادم من كندا والبيرو والشيلي والفيتنام؟. إذا كان ذلك الأسلوب والمنهج استطاع الأب دي فوكو أن يفرضه على نفسه وأن يعيش ناسكا في الصحراء فليس من السهل أن يصبح كل طالب تابع لمدرسة تلامذة دي فوكو صورة طبق الأصل لدي فوكو وان يُفرض عليه التنسُّكُ وتحدثنا في حلقة سابقة كيف حٌرم الطلبة من أكل اللحم والبيض... لكنها الرسالة التي يجب أن تؤدى في أرض الإسلام!.
من أجل إقناع الطلبة بفكرة التكيف مع السكان الفقراء العرب المسلمين ( فقراء الصحراء حسب وصف دي فوكو لسكان الصحراء) كان يعتمد المكوِّنون على فلسفة المحبة الذوبان في محبة يسوع والكنيسة لدرجة أن يتحوّل المتكوِّن إلى عربي ويصبح ينتمي لتلك القبائل العربية التي أصبح يلبس لباسها ويتكلم لغتها ويصلي صلاتها إنه الذوبان في العرب حتى يصبح عربيا مثلهم.
يقول رئيس الإرسالية عليهم الذوبان في السكان ليصبحوا منهم عرقا ولغة لأنهم يعانون معاناتهم في بيئتهم الصحراوية ويُصلُّون صلاتهم ويدفعون دُيونهم ويصلحون غضبهم حسب وصفه. سيرتبطون بالعرب إلى الأبد لأن يسوع أحب أن يملك نفوس هؤلاء العرب من خلالهم فعليهم أن يكونوا أكثر عربا من العرب الذين لم يكونوا جزء من جسد المسيح فعلى الإرسالي أن يمنح الخراف الوديعة كل شيء والتخلي عن كل شيء لأن الإرسالي هو واسطة بين هؤلاء والمسيح فعليه أن يتحلّى بمحبة مطلقة اتجاههم كما أحبه المسيح مما يجعل من لا يفهمون سرّ تلك المحبة يبتسمون. ويستشهد رئيس الإرسالية على حياتهم تلك بالإرسالية بجوار العرب بشهادة مجموعة من الزوار لإرساليتهم ( المدرسة المركزية) في شهر مارس سنة 1935 حيث قال الزوار: إن الإخوة الصغار للقلب المقدس بالأبيض سيدي الشيخ هم جزء من هذا الشعب الذي تبنوا لباسه وعاداته ولغته وفنّه إنها ليست مظاهر خارجية فقط إنها الروح العربية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.