هل سمعتم بقصّة الشيخ الوقور وركّاب القطار؟ وكم هي خاصّة بكلّ واحد منّا؟ فأنا وأنت وهو وهي قد عايشناها لحظة بلحظة. حصلت هذه القصّة في أحد القطارات، ففي ذات يوم أطلقت صافرة القطار معلنة موعد الرّحيل، صعد كلّ الركّاب إلى القطار فيما عدا شيخ وقور وصل متأخّرا لكن من حسن حظّه أن القطار لم يفته، صعد ذلك الشيخ الوقور إلى القطار فوجد أن الركّاب قد استحوذوا على كلّ مقصوراته، توجّه إلى المقصورة الأولى فوجد فيها أطفالا صغارا يلعبون ويعبثون مع بعضهم فأقرأهم السلام فتهلّلوا لرؤية ذلك الوجه الذي يشعّ نورا وذلك الشيب الذي أدخل إلى نفوسهم الهيبة والوقار له. (أهلا أيّها الشيخ الوقور سعدنا برؤيتك)، فسألهم إن كانوا يسمحون له بالجلوس. فأجابوه: (مثلك نحمله على رؤسنا، لكن نحن أطفال صغار في عمر الزهور نلعب ونمرح مع بعضنا، لذا فإننا نخشى ألا تجد راحتك معنا ونسبّب لك إزعاجا، كما أن وجودك معنا قد يقيد حرّيتنا، لكن اذهب إلى المقصورة التي بعدنا فالكلّ يودّ استقبالك). توجّه الشيخ الوقور إلى المقصورة الثانية فوجد فيها ثلاثة شبّان يظهر أنهم في آخر المرحلة الثانوية، معهم آلات حاسبة ومثلثات وهم في غاية الانشغال بحلّ المعادلات الحسابية والتناقش في النّظريات الفيزيائية فأقرأهم السلام، ليتكم رأيتم وجوههم المتهلّلة والفرحة برؤية ذلك الشيخ الوقور، رحّبوا به وأبدوا سعادتهم برؤيته.. (أهلا بالشيخ الوقور)، هكذا قالوها، فسألهم إن كانوا يسمحون له بالجلوس، فأجابوه: (لنا كلّ الشرف بمشاركتك لنا في مقصورتنا، لكن كما ترى نحن مشغولون بالجا والجتا والمثلثات الهندسية ويغلبنا الحماس أحيانا فترتفع أصواتنا ونخشى أن نزعجك أو ألا ترتاح معنا، وأن وجودك معنا يجعلنا نشعر بعدم الرّاحة في هذه الفرصة التي نغتنمها استعدادا للمتحانات نهاية العام، لكن توجّه إلى المقصورة التي تلينا فكلّ من يرى وجهك الوضّاء يتوق إلى نيل شرف جلوسك معه). (أمري إلى اللّه).. توجّه الشيخ الوقور إلى المقصورة التالية فوجد شابّا وزوجته يبدو أنهما في شهر عسل، كلمات رومانسية، ضحكات، مشاعر دفّاقة بالحبّ والحنان أقرأهما السلام فتهلّلا لرؤيته.. (أهلا بالشيخ الوقور، أهلا بذي الجبين الوضّاء)، فسألهما إن كانا يسمحان له بالجلوس معهما في المقصورة فأجاباه: (مثلك نتوق إلى نيل شرف مجالسته، لكن كما ترى نحن زوجان في شهر العسل، جونا رومانسي، شبابي ونخشى ألا تشعر بالرّاحة معنا أو أن نتحرّج من متابعة همساتنا أمامك، كلّ من في القطار يتمنّى أن تشاركهم مقصورتهم). توجّه الشيخ الوقور إلى المقصورة التي بعدها فوجد شخصين في أواخر الثلاثينيات من عمرهما معهما خرائط أراضي ومشاريع ويتبادلان وجهات النّظر حول خططهم المستقبلية لتوسيع تجارتهما وأسعار البورصة والأسهم فأقرأهما السلام فتهلّلا لرؤية.. (وعليك السلام ورحمة اللّه وبركاته أيّها الشيخ الوقور، أهلا وسهلا بك يا شيخنا الفاضل)، فسألهما إن كانا يسمحان له بالجلوس فقالا له: (لنا كلّ الشرف في مشاركتك لنا مقصورتنا، بل إننا محظوظين حقّا برؤية وجّهك الوضّاء، لكن... يا لها من كلمة مدمّرة تنسف كلّ ما قبلها كما ترى نحن في بداية تجارتنا وفكرنا مشغول بالتجارة والمال وسبل تحقيق ما نحلم به من مشاريع، حديثنا كلّه عن التجارة والمال ونخشى أن نزعجك أو ألا تشعر معنا بالرّاحة، اذهب إلى المقصورة التي تلينا فكلّ ركّاب القطار يتمنّون مجالستك). وهكذا حتى وصل الشيخ إلى آخر مقصورة التي وجد فيها عائلة مكوّنة من أب وأمّ وأبنائهما، لم يكن في المقصورة أيّ مكان شاغر للجلوس فقال لهم: (السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته)، فردّوا عليه السلام ورحّبوا به (أهلا أيّها الشيخ الوقور)، وقبل أن يسألهم السّماح له بالجلوس طلبوا منه أن يتكرّم عليهم ويشاركهم مقصورتهم.. (محمد اجلس في حضن أخيك أحمد، أزيحوا هذه الشنط عن الطريق، تعال يا عبد اللّه اجلس في حضن والدتك، افسحوا مكانا له)، حمد اللّه ذلك الشيخ الوقور وجلس على الكرسي بعد ما عاناه من كثرة السير في القطار. توقّف القطار في إحدى المحطّات وصعد إليه بائع الأطعمة الجاهزة فناداه الشيخ وطلب منه أن يعطي كلّ أفراد العائلة التي سمحوا له بالجلوس معهم كلّ ما يشتهون من أكل وطلب لنفسه (سندويتشا بالجبنة)، أخذت العائلة كلّ ما تشتهي من الطعام وسط نظرات ركّاب القطار الذين كانوا يتحسّرون على عدم قبولهم جلوس ذلك الشيخ معهم، كان يريد الجلوس معنا لكن... صعد بائع العصير إلى القطار فناداه الشيخ الوقور وطلب منه أن يعطي أفراد العائلة ما يريدون من العصائر على حسابه وطلب لنفسه عصير برتقال، يا اللّه بدأت نظرات ركّاب القطار تحيط بهم وبدأوا يتحسّرون على تفريطهم، آه كان يريد الجلوس معنا ولكن... صعد بائع الصحف والمجلاّت إلى القطار فناداه الشيخ الوقور وطلب مجلّة (الزّهرات أمل هذه الأمّة) للأمّ ومجلّة (كن داعية) للأب ومجلّة (شبل العقيدة) للأطفال وطلب لنفسه جريدة (أمّة الإسلام) وكلّ ذلك على حسابه، ومازالت نظرات الحسرة بادية على وجوه كلّ الركّاب، لكن لم تكن هذه هي حسرتهم العظمى فقد توقّف القطار في المدينة المنشودة واندهش كلّ الركّاب للحشود العسكرية والورود والاحتفالات التي زيّنت محطّة الوصول ولم يلبثوا حتى صعد ضابط عسكري ذو رتبة عالية جدّا وطلب من الجميع البقاء في أماكنهم حتى ينزل ضيف الملك من القطار لأن الملك بنفسه جاء لاستقباله ولم يكن ضيف الملك إلاّ ذلك الشيخ الوقور، وعندما طلب منه النّزول رفض أن ينزل إلاّ بصحبة العائلة التي استضافته، وأن يكرمها الملك، فوافق الملك واستضافهم في الجناح الملكي لمدّة ثلاثة أيّام أغدق فيها عليهم من الهبات والعطايا وتمتّعوا بمناظر القصر المنيف وحدائقه الفسيحة. هنا تحسّر الركّاب على أنفسهم أيما تحسّر، هذه هي حسرتهم العظمى، وقت لا تنفع حسرة، والآن بعد أن استمتعنا سويا بهذه القصّة الجميلة بقي أن أسألكم سؤالا: من هو الشيخ الوقور؟ ولماذا قلت في بداية سرد القصّة: وكم هي خاصّة بكلّ واحد منّا؟ فأنا وأنت وهو وهي قد عايشناها لحظة بلحظة؟ أعلم أنكم كلّكم عرفتموه وعرفتم ما قصدت من وراء سرد هذه القصّة، لم يكن الشيخ الوقور إلاّ الدين، إبليس عليه لعنة اللّه إلى يوم الدين توعّد بإضلالنا وفضح اللّه خطّته حينما قال في كتابه الكريم {وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ} (النساء: 119). إبليس أيقن أنه لو حاول أن يوسوس لنا بأن الدين سيّئ أو أنه لا نفع منه فلن ينجح في إبعادنا عن الدين وسيفشل حتما، لكنه أتانا من باب التسويف. آه ما أجمل الالتزام بالدين، لكن مازالوا أطفالا يجب أن يأخذوا نصيبهم من اللّعب واللهو، حرام نقيدهم، عندما يكبرون قليلا سوف نعلّمهم الدين ونلزمهم به ما أجمل الالتزام بالدين ولكن... الآن هم طلبة مشغولون بالدراسة، بالواجبات والامتحانات بعد ما ينهوا دراستهم سيلتزمون بالدين وسيتعلّمونه أو مازلنا في شهر العسل، الدين رائع لكن سنلتزم به غدا، مازلنا نكوّن أنفسنا بعد أن أقف على رجلي في ساحة التجارة سأهتمّ كثيرا بديني وسألتزم به، ولا ندري هل يأتي غد ونحن أحياء أم نكون وقتها تحت الثرى؟ التسويف هو داء نعاني منه في أمورنا كلّها، نؤمن بالمثل القائل: (لا تؤجّل عمل اليوم إلى الغد) لكننا لا نطبّق ما نؤمن به على أرض الواقع، لذا نفشل في بناء مستقبلنا في الدنيا كما في الآخرة. فالعمر يمضي ونحن نردّد (غدا سأفعل، سأفعلها ولكن بعد أن أفرغ من هذه، مازلت صغيرا إذا كبرت سأفعلها، بعد أن أتزوّج سألتزم بالدين، بعد أن أتخرّج بعد أن أحصل وظيفة، بعد أن... بعد أن...) * عن مجموعة "في خمس دقائق" الإلكترونية