وزير الداخلية خلال تنصيبه للولاة: الحركة الجزئية تهدف إلى إضفاء ديناميكية جديدة    وثائقي من إنتاج مديرية الإعلام والاتصال لأركان الجيش: الجزائر الجديدة.. إنجازات ضخمة ومشاريع كبرى    مع انطلاق حملة مكافحة الحرائق: منع التخييم والتجول بالغابات بداية من الأربعاء بقسنطينة    خنشلة: توقيف 12 شخصا في قضايا مختلفة    عطاف يُستقبل بالرياض من قبل رئيس دولة فلسطين    صراع أوروبي على عمورة    حوادث المرور: وفاة 4 أشخاص بتيبازة وتيزي وزو    لأول مرة في تاريخ القضاء الجزائري: رئيس الجمهورية يمنح قضاة المتقاعدين لقب "القاضي الشرفي"    إياب نصف نهائي كأس الكونفدرالية: الاتحاد متمسك بموقفه وينتظر إنصافه بقوة القانون    بطولة الرابطة الثانية    كشف عنها وزير المالية وسجلتها المؤسسات المالية الدولية: مؤشرات خضراء للاقتصاد الوطني    رفض الكيل بمكيالين وتبرير الجرائم: قوجيل يشجب تقاعس المجتمع الدولي تجاه القضية الفلسطينية    وزير المجاهدين و ذوي الحقوق من جيجل: معركة السطارة من بين المعارك التي خلدها التاريخ    الإقبال على مشاهدته فاق التوقعات    لا صفقة لتبادل الأسرى دون الشروط الثلاثة الأساسية    10 % من ذخائر الاحتلال على غزّة لم تنفجر    التسجيل الإلكتروني في الأولى ابتدائي في 2 ماي المقبل    استئناف أشغال إنجاز 250 مسكن "عدل" بالرغاية    مباشرة إجراءات إنجاز مشروع لإنتاج الحليب المجفف    الجولة 24 من الرابطة المحترفة الأولى "موبيليس": تعادل منطقي في داربي الشرق بين أبناء الهضاب وأبناء الزيبان بين والساورة تمطر شباك اتحاد سوف بسداسية كاملة    البنوك تخفّض نسبة الفائدة على القروض قريبا    الفريق أول السعيد شنقريحة : "القيادة العليا للجيش تولي اهتماما كبيرا للاعتناء بمعنويات المستخدمين"    الرئيس تبون يمنح لقب "القاضي الشرفي" لبعض القضاة المتقاعدين    بسكرة: ضبط ممنوعات وتوقيف 4 أشخاص    مظاهرات الجامعات يمكن البناء عليها لتغيير الموقف الأمريكي مستقبلا    نطق الشهادتين في أحد مساجد العاصمة: بسبب فلسطين.. مدرب مولودية الجزائر يعلن اعتناقه الإسلام    رياض محرز ينتقد التحكيم ويعترف بتراجع مستواه    بيولي يصدم بن ناصر بهذا التصريح ويحدد مستقبله    لحوم الإبل غنية بالألياف والمعادن والفيتامينات    حساسية تجاه الصوت وشعور مستمر بالقلق    هدم 11 كشكا منجزا بطريقة عشوائية    دورة تكوينية جهوية في منصة التعليم عن بعد    إنجاز جداريات تزيينية بوهران    15 ماي آخر أجل لاستقبال الأفلام المرشحة    أكتب لأعيش    الاتحاد لن يتنازل عن سيادة الجزائر    لو عرفوه ما أساؤوا إليه..!؟    استفادة كل ولاية من 5 هياكل صحية على الأقل منذ 2021    العدوان الصهيوني على غزة: سبعة شهداء جراء قصف الاحتلال لشمال شرق رفح    وزير النقل : 10 مليار دينار لتعزيز السلامة والأمن وتحسين الخدمات بالمطارات    جيدو /البطولة الافريقية فردي- اكابر : الجزائر تضيف ثلاث ميداليات الي رصيدها    محسن يتكفل بتموين مستشفى علي منجلي بخزان للأوكسيجين بقسنطينة    ندوة وطنية في الأيام المقبلة لضبط العمليات المرتبطة بامتحاني التعليم المتوسط والبكالوريا    غزة: احتجاجات في جامعات أوروبية تنديدا بالعدوان الصهيوني    الطبعة الأولى لمهرجان الجزائر للرياضات: مضمار الرياضات الحضرية يستقطب الشباب في باب الزوار    استثمار: البنوك ستخفض قريبا معدلات الفائدة    شهد إقبالا واسعا من مختلف الفئات العمرية: فلسطين ضيفة شرف المهرجان الوطني للفلك الجماهيري بقسنطينة    رئيس لجنة "ذاكرة العالم" في منظمة اليونسكو أحمد بن زليخة: رقمنة التراث ضرورية لمواجهة هيمنة الغرب التكنولوجية    نحو إعادة مسح الأراضي عبر الوطن    تجاوز عددها 140 مقبرة : جيش الاحتلال دفن مئات الشهداء في مقابر جماعية بغزة    ندوة ثقافية إيطالية بعنوان : "130 سنة من السينما الإيطالية بعيون النقاد"    مهرجان الفيلم المتوسطي بعنابة: الفيلم الفلسطيني القصير "سوكرانيا 59" يثير مشاعر الجمهور    منظمة الصحة العالمية ترصد إفراطا في استخدام المضادات الحيوية بين مرضى "كوفيد-19"    حج 2024 : استئناف اليوم الجمعة عملية حجز التذاكر للحجاج المسافرين مع الديوان الوطني للحج والعمرة    أهمية العمل وإتقانه في الإسلام    مدرب مولودية الجزائر باتريس يسلم    حج 2024 :استئناف اليوم الجمعة عملية حجز التذاكر للحجاج المسافرين مع الديوان الوطني للحج والعمرة    دروس من قصة نبي الله أيوب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الثوابت والمرجعية في عهد التعددية - الحلقة التاسعة
نشر في صوت الأحرار يوم 27 - 10 - 2009


بقلم الدكتور فاضلي ادريس
بجانب الجمعية العامة عرفت أثينا هيئتين أخريين كانتا دعامة الرقابة الشعبية على الحكومة هما: مجلس الخمسمائة، والمحاكم التي تقوم على أساس التوسع في نظام المحلفين الشعبي، فكان يتم اختيار أعضائهما عن طريق الانتخاب، وهما الهيئتان الرئيسيتان الحاكمتان فعلا في أثينا، ويعتبر مجلس الخمسمائة بمثابة مجلس تنفيذي ولجنة مركزية للجمعية الشعبية، وللتمكين من التناوب كانت القبائل العشر المكونة لدولة أثينا، أن تبعث لهذا المجلس بخمسين عضوا، ويتولى ممثلو كل قبيلة منها الحكم "عشر أيام السنة" يضاف إليها ممثلا عن كل قبيلة من القبائل التسع الأخرى البعيدة عن المجلس، فيعهد إلى مجلس الخمسين هذا بسلطة مراقبة الأعمال وإدارتها باسم المجلس كله، وكان رئيس مجلس الخمسين يختار بالاقتراع من بين أعضائها لمدة يوم واحد.أما مهمة المجلس الأساسية فهي أن يزود جمعية المواطنين بالمقترحات، ويعتبر هذا المجلس أكثر ممارسة للتشريعيات من الجمعية الشعبية، وانه لاحقا كرّس نفسه لإعداد المشروعات حتى تناقشها تلك الجمعية..
أما المحاكم فكانت مظهر امتداد رقابة الشعب على القضاة والقانون على السواء، ومما لا شك فيه أن محاكم أثينا كانت حجر الزاوية في النظام الديمقراطي لتلك المدينة، فكانت مهمتها كأية محكمة أخرى أن تفصل في قضايا الأفراد مدنية كانت أو جنائية، ولكن سلطتها جاوزت هذا النطاق إلى حدّ بعيد تعتبر أقرب إلى العمل التنفيذي أو التشريعي منها إلى القضاء.
يتم اختيار أعضاء هذه المحاكم ( المحلفون ) بواسطة الوحدات الإدارية التي سنذكر بعض تفاصيلها لاحقا ، ويكون مجموع ما يتم اختياره قرابة ستة آلاف شخص كل عام،ثم يتم تعيينهم بطريقة الاقتراع، جهة عملهم ونوع الأقضية التي يفصلون فيها، ويشترط في من ينتخب محلفا من الأثينيين بلوغ سنّ الثلاثين، وكان عددا لمحلفين في المحكمة الواحدة لايقل عن 201 محلف، وهم يباشرون وظيفة القاضي والمحلف على السواء، وقرار المحكمة نهائي على الدوام، ولم يكن حكم محكمة ليلزم أخرى ذلك أن المحاكم الأثينية تعمل وتقضي باسم الشعب كله، فهي لم تكن مجرد هيئة قضائية بل كانت تعتبر تماما أنها الشعب الأثيني..
أما إشراف المحاكم على الموظفين فقد اتخذ ثلاث صور رئيسية: اولها حق المحاكم في اختيار صلاحية المرشحين قبل توليهم الوظائف، وذلك بان تقام دعوى بعدم صلاحية المرشح فتقضي المحكمة بذلك، وقد أدى هذا إلى تخفيف مساوئ تعيين الموظفين بالاقتراع.
الثانية الصورة الثانية لرقابة المحاكم هي نتيجة لإمكان مراجعة أعمال الموظف عند انتهاء مدة خدمته، وهي مراجعة تتم أمام إحدى المحاكم، وفي النهاية وجدت طريقة خاصة لمراجعة الحسابات وصرف الأموال العامة وذلك بالنسبة لكل موظف عند انتهاء مدة خدمته، فالموظف الأثيني والحالة هذه لا يتمتع إلا بقدر ضئيل من الاستقلال في عمله، ويستثنى من ذلك القواد العسكريون، فكانوا أكثر الموظفين الأثينيين استقلالا، كما سيرد ذكره...
لقد جاوز اشرفا المحاكم الموظفين إلى مراقبة التشريع ذاته، الأمر الذي جعل لتلك المحاكم سلطة تشريعية حقيقية تصل بها في حالات خاصة إلى منزلة مماثلة لسلطة الجمعية الشعبية ذاتها، ولم تكن المحاكم لتحاكم الأفراد فقط ،بل تحكم على القانون أيضا، وذلك بان تصدر أمرا بان القرار الصادر من المجلس التنفيذي أو من الجمعية الشعبية مخالف للدستور، ويستطيع كل مواطن آن يتقدم بمثل هذه الشكوى، فتوقف شكواه العمل بالقانون حتى يصدر حكم المحكمة بشأنه، فالقانون المطعون فيه في هذه الحالة يحاكم على غرار محاكمة الأفراد.
وبالنسبة للتقسيم الإداري أو من حيث الحكم الذاتي المحلي، أو الإدارة اللامركزية فهي مقسمة إلى حوالي مائة قسم آو ولاية، أي وحدات الحكومة المحلية، والتي تتميز بتوارث العضوية فيها، وكذلك بقاء العضوية لصاحبها ولو انتقل إلى قسم آخر أو ولاية أخرى، وقد تمتعت هذه الأقسام أو الولايات، بقليل من سلطات الضبط المحلية، أما الوظيفة الهامة لهذه الولايات فكانت تتمثل في ترشيح الأفراد الذين من مجموعهم هيئات الحكومة المركزية( مجلس الخمسمائة، والمحلفون)، وكان تولي المناصب مزيجا من الانتخاب والاقتراع، وكما هو ملاحظ قد وجد الفكر السياسي الإغريقي في هذه الطريقة الصورة المميزة للحكم الديمقراطي، لما تتيحه للجميع من تكافؤ الفرص في تولي الوظائف العامة.
ومما هوجدير بالذكر أن فئة من الوظائف الأثينية الهامة قد ظلت بعيدة عن طريق الاقتراع وبقيت متمتعة بنصيب كبير من الاستقلال، وهذه الفئة يطلق عليها: القواد العشرة، الذين جعل اختيارهم بطريق الانتخاب المباشر، وكان من الجائز أن يعاد انتخابهم، وهم نظريا مجرد قواد عسكريين، لكن من حيث الواقع، وبخاصة في عهد الإمبراطورية، كانت لهم سلطات هامة، في البلاد الأجنبية الداخلة في نطاق الإمبراطورية، بل أيضا كان لهم تأثير عظيم جدا في المجلس التنفيذي والجمعية الشعبية في أثينا نفسها، فالحاصل أن الوظيفة كانت في الغالب سياسية على اكبر جانب من الأهمية، وتذكرا لمراجع المتخصصة والدراسات السياسية بالإشارة إلى القائد..بركل يس.. الذي أتيح له أن يكون الموجه لسياسة أثينا عاما بعد عام، وكان مركزه إلى المجلس التنفيذي والجمعية الشعبية اقرب إلى مركز رئيس الوزراء في العصر الحاضر منه إلى قائد عسكري،ويبدو أن هذا النفوذ كان يرجع آخر الأمر إلى قدرته على الظفر بتأييد الجمعية الشعبية الخ..
ومجمل القول لقد تميزت الديمقراطية الأثينية بالنظم التالية: مجلس تنفيذي، مختار اختيارا شعبيا وسؤول أمام جمعية المواطنين. محلفون مستقلون ومختارون برأي الشعب.
ومن وراء هذه النظم فلسفة تظاهرها، ومثل عليا تستهدف تحقيقها، وهذه المثل ليست سهلة البيان أو ميسّرة الوصف، إلا أن المؤرخ (..ثيوسيديدس..) كما تشير المراجع كشف ببراعة منقطعة النظير عن معنى الديمقراطية في أذهان مفكري أثينا، وذلك بتسجيله خطبة الرثاء المشهورة المنسوبة إلى..بركليس ، زعيم الديمقراطية في حينه، المشار إليه أعلاه. وهي خطبة قيل أنه ألقاها تخليدا لذكرى شهداء العام الأول من حرب أثينا مع اسبرطة، وقبل التعرض إلى بعض فقرات هذه الخطبة بودي أن أسجل بعض الانطباعات التي أثارها بعض فلاسفة السياسة ومؤرخي الفكر السياسي ،وملخصها: ان تاريخ التراث الأدبي لم يعرف الآن خطبة تناولت المثل العليا السياسية بمثل براعة هذه الخطبة ودقتها.
ان القارئ يلمس في كل سطر من سطورها مدى اعتزاز الأثيني بمدينته(..دولته..) ومقدار فخره بالانتساب إليها، وحبّه للمشاركة في حياتها العامة، والمعنى الخلقي الذي فهمه من الديمقراطية الأثينية..
أما غرض بركليس الأساسي من وراء هذه الخطبة ،أن يثير في أذهان سامعيه الإحساس بالمدينة نفسها، باعتبارها أعلى ما يمتلكه المواطنون، وأسمى ما يمكن أن يدينوا له بالولاء والإخلاص، وقد أدار الخطيب ظهره إلى تقاليد وماضي أثينا ولم يقف عنده إلا إلماما، بل تناول خطابه عظمة الحاضر، تلك العظمة التي تتجلى في أثينا المتحدة المؤتلفة كما هي عليه فعلا، وما تمثله بالنسبة لحياة أبنائها...أما أهم مقتطفات هذه الخطبة اختار منها ما يلي: "..أناشدكم أن تسلطوا أنظاركم يوما تلو يوم على عظمة أثينا حتى تفيض قلوبكم بحبها،وان آخذتم يوما بمجدها وعظمتها،فاذكروا رجالا عرفوا واجبهم،وأقاموا بشجاعتهم صرح هذه الإمبراطورية،،وكانوا إذا ما جدّ الجدّ لايخامرهم إلا شعورهم بخوف العار وإباء الضيم،وإذا ما قدر لهم الفشل أبوا أن تفقد بلادهم شرفها أو مجدها، فجادوا لها راضين بأرواحهم كأعز قربان يقدمونه في يوم عيدها.." ملخص هذه الفقرة من خطبة( بريكليس ) تستهدف تحفيز همم الأثينيين، ذلك أن أسمى شرف لهم هو وطنيتهم، وتمجيد دولتهم أثينا، لأن تمجيدها تمجيد لأشخاصهم... أما في الفقرة الموالية فان تفاخر الخطيب بمواطني أثينا واضح من خلال مشاركتهم في الحياة العامة للمدينة إذ لا تلهيهم مصالحهم الخاصة، فما جدوى المال إلا من اجل أن ينعم بالمساهمة الفعلية في المدينة، وأي قيمة للأسرة ولو طابت أعراقها إلا في تمكينها الفرد من الانتساب لتلك الصورة العليا للعلاقات الاجتماعية|، وهي الصورة التي تتمثل في حياة المدينة السياسية. وذلك بقوله:.."إن المواطن الأثيني لايهمل شؤون الدولة بحجة انشغاله بشؤون أسرته، بل إن المنهمكين منا في أعملهم لاتنقصهم الفكرة السليمة عن الشؤون السياسية.وإن المواطن الذي لايعني بالمسائل العامة لاترى فيه رجلا منعدم الضرر،بل رجلا منعدم الفائدة.ولئن كان قليل منا مبتكرين،فإنا جميعا في السياسة قضاة موهوبون.."
وفي صياغ الفكر السياسي لدى الإغريق وما نادي به مفكروه وفلاسفته،كمقولة: يوضع كل فرد في المكان الذي تؤهله له مواهبه بحكم تكافؤ الفرص للجميع، وفي هذا الشأن يقول بركليس ،"وعندما ينفرد مواطن بميزة من أي نوع، فانه يفضل في تولي الخدمة العامة كمكافأة على جدارته، لا كامتياز يسمو به على غيره.وكذلك لم يكن الفقر حائلا أمام الفقير، بل كان من الممكن أن تفيد منه الدولة أيا سوء حاله.."
إن الحياة العامة المتشابكة وما علقه عليها الأثينيون من أهمية، تتضح أكثر من خلال التناوب في الحكم،وتولي الوظائف بالاقتراع، وتوسيع نطاق الهيئات الحاكمة إلى الحد السابق ذكره ،إلا وسائل لإفساح مجال الخدمة لأكبر عدد من المواطنين، فتلك مزايا رغم العيوب التي لاتخلو منها نظمه، وتتمثل هذه المزايا في حكومة ديمقراطية، لأن الإدارة بيد الكثرة لا بيد القلّة، وقد قدّر أرسطو في كتابه الجمهورية عن دستور أثينا أن سدس سكان أثينا كانوا مساهمين مساهمة فعلية في الحكم.وفي مجال المساهمة في مناقشة المسائل السياسية في اجتماعات المدينة كما سبقت الإشارة( الجمعية العامة للمواطنين) والتي كانت تقام بصفة عادية عشر مرات كل عام الخ..
والخلاصة على هذا النحو كانت المدينة كما يتصورها الأثيني مجتمعا يعيش أفراده فرصة المساهمة معا في تآلف وانسجام، ويتيح لأكبر عدد مستطاع من أفراده فرصة المساهمة الفعلية في الحياة العامة دون تمييز يرجع إلى ثروة أوجاه، كما يعطي لكل ذي كفاية مجالا طبيعيا، للعمل والازدهار، ويمكن القول إلى حدّ كبير بأنه ربما لايوجد مجتمع آخر نجح في تحقيق هذا المثل الأعلى مثلما نجح المجتمع الأثيني في عهد بركليس، ومع ذلك كانت مثلا عليا لاحقائق واقعية، والديمقراطية في أفضل حالاتها لا تخلو من المثالب..وعلى سبيل المثال ومما أصبح لا يتقبله الفكر السياسي الحديث،لا يتولى الوظائف إلا نصيب قليل من المواطنين،ويضاف إليها فئة قليلة من محترفي السياسة الخ..
هذه صورة للحياة الديمقراطية في بدايتها، وفي مرحلة من أزهى مراحلها وإذا اقتصرنا على ذكر أثينا دون اسبرطة اوغيرها من المدن اليونانية الأخرى فذلك مرجعه إلى ما حظيت به هذه المدينة من فلاسفتها ومفكريها من عناية واهتمام، ولم يكن من باب السهو أو التجاهل عندما لم نتدرج مع تسلسل تاريخ هذه المدينة عصرا بعصر كواجهة للحضارة الإغريقية، أو على الأقل ما أصبح عليه وضعها في فترات تاريخية معينة عاصرت فلاسفتها الباقين كأرسطو،وفلسفة المدرسة الرواقية الخ.. ذلك أن مثل هذا التكفل بالموضوع قد يتطلب وحده عدة حلقات من جهة، ويغطي بعض الشيء على ما نحن عازمون على أن نستخلصه ،إن لم أقل أن بعض الإطالة قد تنسينا الموضوع المحوري الذي نحن بصدد معالجته، وكما أشرت في البداية أن نظرتنا إلى موضوع الديمقراطية في بيئة منشئها وأساليب تنفيذها إنما بقصد الإطلاع عن جوهرها ومحتواها وأبعادها الإنسانية، مع العلم أن التطور السياسي الحديث قد كيّف الفكرة وأبقى على ما ابقي لما رآه مفيدا، واستغنى عما رآه غير ضروري ولا يتماشى مع الواقع الجديد وتطور الحياة في جميع مرافقها، والتي ستكون بلا شك محل عرض مختصر للمحطات القادمة، آملا في نفس الوقت من أن أحرص كل الحرص على مسك وشدّ الخيط الرفيع الذي أريده أن لا ينقطع إلى عصرنا هذا، بل والى ما وصل إليه فهمنا للديمقراطية نحن في الجزائر بصفة عامة، وفي حزب جبهة التحرير على وجه الخصوص..
لو كانت مساهمتي المتواضعة هذه ليست مقتصرة على إثراء أشغال وأعمال لجان تحضير المؤتمر التاسع لحزب جبهة التحرير الوطني المزمع تنظيمه مع بداية السنة القادمة بمشيئة الله، لاستعرضت مراحل عرفتها الديمقراطية، أثناء الحضارة الرومانية، ومرحلة العصور الوسطى بسيادة الكنيسة، والنظام الإقطاعي، وعصر النهضة بتنويره وأنواره، وبرجوازيته ، ورأسماليته، ومرحلة انتشار الفكر الاشتراكي، والماركسي الخ... غيرانة ولأهمية إحداث هذه المراحل ومحتوياتها قد نلمّح إلى بعضها باختصار وبإشارات مؤجلين ما يجب أن تحظى به من البحث والتنقيب، بمناسبة سانحة أخرى تتطلب بعض الوقت والترتيب.
إن وضع الديمقراطية مع بداية القرن الواحد والعشرين ، إذا كان ينظر إليه بمنظور الانتشار والتوسع عبر كل جهات العالم يمكن القول بان الديمقراطية قد تعو لمت، ونصت على أحكامها جلّ دساتير دول المعمورة ، وخاصة منذ انتهاء الحرب الباردة بانتصار معسكر فلسفة الاتجاه الفردي أو الليبرالي،أما إذا نظرنا إليها من حيث التفاعل الشعبي كقيمة إنسانية مؤثرة ومحفزة كآلية من آليات التجنيد والاستقطاب الجماهيري بل ومقياسا لسلوكه أيضا وسعادته، فاني أقول بدون حرج بأن أوجها ولمعانها أصبح باهتا ومحدودا بالنسبة للدول المصنعة والتي قطعت أشواطا في تكريسها من حيث الحكم،والممارسة،إلا ما تعلق منها بالسلوك اليومي الخ... أما بالنسبة لدول أوروبا الشرقية، ودول العالم الثالث فان وجه المقارنة، والتصنيف يعتبر مسألة سابقة لأوانها لعدة اعتبارات قد يرد ذكر بعضها كلما دعت الضرورة إلى ذلك سبيلا...
لقد انتقل التراث الإغريقي الزاخر بالعلوم والآداب والفنون بالدرجة الأولى بفضل الحضارة العربية الإسلامية التي سنخصص لها بعض الفقرات، وقبل ذلك كان الغرب يجهل تمام كنوزها ومعارفها، وبمجرد ما سنحت له الفرصة أرسى قلاعه وبني أسسه المرجعية بل وجذور هويته الحضارية من علوم وتاريخ وأدب وفلسفة وفكر سياسي وحكم دستوري، وحرية،وديمقراطية، وغيرها، أقبل عليها متلهفا متعطشا تواقا إلى آفاق أوسع وأرحب بعد ظلام القرون الوسطى، وتسلط الكنيسة وعبثها الخ...وبهذا انتقل الفكر الديمقراطي إلى القارة الأوروبية فاصّلته، وأثرته، وتنوعت في آلياته ، وطبعته بطابعها الغربي فأصبحت بذلك ابتكارا غربيا خالصا، ولو أن بعض الرأي ينكر ذلك ،باعتبار أن هناك من المواضيع مما له طابع إنساني.
أما بالنسبة لمكانة الديمقراطية بين اليمين واليسار كما لمحنا فيما سبق، والتي بالتأكيد تعود بنا إلى القرن العشرين وأواخر القرن التاسع عشر، إذ عرف الفكر السياسي ذيوع تقسيم وتصنيف مازال قائما إلى يومنا هذا على مستوى الدول، والأحزاب ، والأفراد، فهناك الدول اليسارية والتي مع الأسف تقلّص عددها إلى درجة الانتهاء والفناء،وهناك الدول اليمينية التي كثر عددها وتباين حجمها، وهناك ما يسمى بالأحزاب اليمينية، و بجانبها الفكر السياسي اليساري أو أحزاب اليسار، بل وان من الأفراد من يوصف بعضهم بأنهم يمينيون،ويوصف آخرون بأنهم يساريين، وهو تصنيف وتقليد يكاد الآن يختفي من الأوساط الاجتماعية إلا عند بعض المفكرين ورجال السياسة الذين لايجدون في ذلك ما يحرجهم بل يعتبرون في ذلك الوفاء لقناعاتهم، وفلسفة حياتهم ..الخ
إن اقتصارنا على ذكر بعض الأمثلة على الحكم الديمقراطي في أوروبا قد يكون مفيدا ويكسبنا سماحة في التفكير والحكم على الظواهر والمسالك من خلال أوجه تطبيقها، لقد نظر بعض المفكرين من الغرب، وتبعهم بعض من المثقفين من دول العالم الثالث إلى موضوع الديمقراطية، إذ اعتبروه ابتكارا وتجربة غربية، مثلها مثل الدستور بصفته آلة تقنية للحرية، ا و توفيق بين السلطة والحرية في إطار الدولة وهو في نهاية المطاف ابتكار اوتنظيم غربي، ولو اعترضت قلة من المفكرين كما سبقت الإشارة على هذا الاستئثار، باعتباره تراثا إنسانيا ولا فضل لقوم فيه على قوم،أما ما أصبح يعرف بالمؤسسات السياسية فهو ينتمي إلى العصور القديمة اليونانية، والحضارة الرومانية، والى التطور السياسي في أبريطانيا بعد الخروج من القرون الوسطى، وعصر الأنوار في أوروبا وأمريكا، ومجمل القول، إلى الحضارة الغربية التي قامت وترعرعت على أنقاض الحضارة العربية الإسلامية و بفضل الدور العظيم الذي قامت به في ربط الصلة بين الحضارة اليونانية وأوروبا عن طريق الاحتكاك المباشر بحضارة الأندلس غربا، وبلإحتكاك أيضا مع المشرق عن طريق مدينة البندقية، وحينها كانت الحضارة العربية الإسلامية هي المهيمنة ، فخلقت بذلك الحافز الأول عند كل أوربي لتغيير نمط حياته،كما كانت لكتابات ابن سينا وابن رشد أثرها الفعاّل لدى الدارسين، وطالبي المعرفة من طلاب أوروبا وبلك ربط الغرب نهائيا صلته بمرجعيته الثقافية والفنية والفكرية المتمثلة في الحضارة الإغريقية، كما سبقت الإشارة فاحي علومها، وصنفها، ورتبها، واقبل على هضمها، وأطلق دعوى التحرر الفكري، وتحديدا على مدرسية القرون الوسطى، وذلك مع مطلع القرن الرابع عشر، في الوقت الذي بدأ فيه الغرب يخطو خطواته الثابتة، جنح العالم الإسلامي إلى السبات العميق مغلوب الفكر، مسلوب الإرادة متأثرا بجراح خارجية وداخلية أعمق وأوجع...
إن النهضة العلمية التي تطورت في الغرب في أواخر القرون الوسطى والتي تأكدت بشكل نهائي خلال القرن الثامن عشر، تنطلق من قناعة أن العالم يفهمه المراقب المخلص، وانه منتظم بشكل عقلاني وأننا عندما نمسك بالقوانين الأساسية التي تتحكم بسلسلة من الظواهر المعينة، يمكن أن نستخلص عددا من النتائج تثبتها الوقائع بشكل عام، وهذا الوصف انعكس على سبيل المثال في ميدان الفكر السياسي على تكييف شكل الحكم ومحتواه مع ما يتناسب مع الواقع الجديد، ذلك انه في إطار دولة المدينة كما سبقت الإشارة كان يمكن للحكومة أن تكون مباشرة حيث كان يمكن جمع كل المواطنين في مكان عام من اجل التصويت بلا آو نعم وعلى كل ما يهم التنظيم السياسي، أما عندما يتعلق الأمر بالدولة التي تظم عادة عددا من السكان ، فان الحكم الديمقراطي المباشر يصبح مستحيلا، فيجب أن يكون والحالة هذه حكما تمثيليا، هذا لم يمنع من أن بعض الدول قد تبنت منذ القرن الثامن عشر إجراءات الديمقراطية نصف المباشرة في دول محصورة مثل دولة سويسرا..
إن النظام التمثيلي قد تكامل تدريجيا في بريطانيا العظمى منذ القرون الوسطى متقدمة بذلك الدول الأوربية جميعها التي لم تعمده إلا منذ أواخر القرن الثامن عشر، وما يمكن تأكيده أن بريطانيا لم تعهد بالنظام التمثيلي إلا بالتدرج البطء مقتصرة في بادئ الأمر على طبقة سياسية ضيقة بصفة عامة ،وهذا ما حدا ببعض المحللين السياسيين إلى القول بان دستورية السلطة السياسية سبقت الديمقراطية في أبريطانيا الخ... أما الطبقة المحظوظة فتتمثل في الطبقة الارستقراطية، والبورجوازية، التي وحدها كانت تتصرف في الشؤون السياسية،ثم توسع فيما بعد الجسم الانتخابي ، وفرضت في كل البلدان الأوروبية فكرة الانتخاب العام للرجال والنساء ، وذلك خلال النصف الأول من القرن العشرين.
إن الإجراءات التمثيلية قد تدعمت في مرحلة لاحقة بعناصر من الديمقراطية المباشرة، التي عرفتها الكثير من البلدان ،فأعطتها بذلك نفسا جديدا يتمثل على وجه الخصوص في: تعيين رئيس السلطة التنفيذية عن طريق الانتخاب العام، وبتوجيه الانتخابات التشريعية نحو دعم الحكومة القائمة أو الحلول محلها، وكذلك استخدام الاستفتاء الشعبي.
تعتبر حرية الاختيار إحدى المميزات الرئيسية للديمقراطية الغربية وللقانون الدستوري، وهي على اتصال وثيق بالاعتراف بالحرية كعنصر ذي كيان مستقل بل وثابت في إطار الدولة، فالحرية الحقيقية تقتضي تعدد الآراء والمسالك، وحيث توجد حرية الأفراد فثم مجتمع تعددي، فالتعددية وراءها بالضرورة انتخابات تنافسية يتقدم لها مرشحون عديد ون، ذوو برامج مختلفة ومنتمون في الغالب إلى أحزاب سياسية مختلفة........... وللحديث بقية


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.