اليوم العالمي لحرية الصحافة : وزير الاتصال يدشن المحطة الأرضية للبث عبر الساتل المخصصة لتوطين القنوات    وزير الاتصال يشرف على إطلاق إسمي صحفيين سابقين على قاعتي الندوات لملعبي نيسلون مانديلا و 5 جويلية    دراجات/ طواف البنين الدولي: الجزائري ياسين حمزة يفوز بالمرحلة الرابعة    الاتحاد الأوروبي سيمول 7 مشاريع للطاقة عبر "بنك الهيدروجين"    الأمم المتحدة : إعادة إعمار غزة تتطلب أكثر من 40 مليار دولار    الايطالي جيانلوكا كوستانتيني.. فلسطين في التظاهرات الطلّابية    مراسلون بلا حدود: إسرائيل قتلت أكثر من 100 صحافي فلسطيني    النفط يتأرجح بين توقعات أوبك+ ومخاوف بشأن بالاقتصاد الأميركي    الاهتمام بالتكوين ضروري لتحسين أداء الأفواج الكشفية    مهرجان عنابة للفيلم المتوسطي : الجائزة الكبرى "الغزالة الذهبية" من نصيب الفيلم الاسباني "ماتريا"    دعا لها مشاركون بندوة علمية بسطيف.. ضرورة بناء وتكوين قدرات فعالة في إدارة المخاطر محافظة على الموروث الثقافي    القضاء على إرهابي والقبض على عنصري دعم للإرهابيين ببرج باجي مختار    عطاف يواصل المشاركة في الندوة الوزارية إفريقيا-دول شمال أوروبا بكوبنهاغن    مشاركة قرابة 20 ولاية في المعرض الوطني للفنون والثقافات الشعبية    أولمبياد باريس 2024 : اللجنة الأولمبية تعين برباري رئيسا للوفد الجزائري في الأولمبياد بباريس    العرباوي في غامبيا للمشاركة في أشغال قمة منظمة التعاون الإسلامي    البرلمان العربي: الصحافة العربية لها دور ريادي في كشف جرائم الاحتلال الصهيوني في فلسطين    رئيس الجمهورية يبرز أهم مكاسب الاقتصاد الوطني ويجدد تمسكه بالطابع الاجتماعي للدولة    تنفيذا لتعليمات رئيس الجمهورية, وصول أطفال فلسطينيين جرحى إلى الجزائر    شهداء ومصابون في قصف للاحتلال الصهيوني استهدف منزلا برفح    تيارت..هلاك ثلاثة أشخاص وإصابة ثلاثة آخرين في حادث مرور    موريتانيا: افتتاح الطبعة السادسة لمعرض المنتجات الجزائرية بنواكشوط    "الحق من ربك فلا تكن من الممترين"    «إن الحلال بيِّن وإن الحرام بيِّن…»    إذا بلغت الآجال منتهاها فإما إلى جنة وإما إلى نار    عطاف يشير إلى عجز المجتمع الدولي عن وضع حد للفظائع المرتكبة ضد الشعب الفلسطيني    رئيس الجمهورية يشرف على إحتفائية بمناسبة اليوم العالمي لحرية الصحافة    لعقاب يدعو إلى تعزيز الإعلام الثقافي ويكشف: نحو تنظيم دورات تكوينية لصحفيي الأقسام الثقافية    الفنانة حسنة البشارية أيقونة موسيقى الديوان    وفاة 8 أشخاص تسمما بغاز أحادي أكسيد الكربون خلال شهر أبريل الماضي    وزير الصحة يشرف على افتتاح يوم علمي حول "تاريخ الطب الشرعي الجزائري"    اجتماع الحكومة: الاستماع الى عرض حول إعادة تثمين معاشات ومنح التقاعد    التوقيع على برنامج عمل مشترك لسنة 2024-2025 بين وزارة الصحة والمنظمة العالمية للصحة    استئناف حجز التذاكر للحجاج المسافرين مع الديوان الوطني للحج والعمرة يوم الأربعاء بالنسبة لمطار الجزائر    "تحيا فلسطينا": كتاب جديد للتضامن مع الشعب الفلسطيني    حوادث المرور: وفاة 62 شخصا وإصابة 251 آخرين خلال أسبوع    معرض الجزائر الدولي ال55: نحو 300 مؤسسة سجلت عبر المنصة الرقمية الى غاية اليوم    قسنطينة: صالون دولي للسيارات والابتكار من 23 إلى 26 مايو    رالي اكتشاف الجزائر- 2024 : مشاركة 35 سائقا اجنبيا وعدد معتبر من الجزائريين    في انتظار التألق مع سيدات الخضر في الكان: بوساحة أفضل لاعبة بالدوري السعودي الممتاز    القابض على دينه وقت الفتن كالقابض على الجمر    بداية موفّقة للعناصر الوطنية    إطلاق أول عملية لاستزراع السمك هذا الأسبوع    44ألف شهيد في العدوان الصهيوني على غزة    انبهار بجمال قسنطينة ورغبة في تطوير المبادلات    263 مليون دينار لدعم القطاع بالولاية    بولبينة يثني على السعي لاسترجاع تراثنا المادي المنهوب    دعم الإبداع السينمائي والتحفيز على التكوين    تكوين 500 حامل مشروع بيئي في 2024    أوغندا تُجري تجارب على ملعبها قبل استضافة "الخضر"    روما يخطط لبيع عوار للإفلات من عقوبات "اليويفا"    البطولة الإفريقية موعد لقطع تأشيرات جديدة لأولمبياد باريس    الجزائريون يواصلون مقاطعة المنتجات الممولة للكيان الصهيوني    دعوة للتبرع بملابس سليمة وصالحة للاستعمال    استئناف حجز التذاكر للحجاج المسافرين مع الديوان الوطني للحج والعمرة اليوم الأربعاء بالنسبة لمطار الجزائر    سايحي يكشف عن بلوغ مجال رقمنة القطاع الصحي نسبة 90 بالمائة    الجزائر تتحول إلى مصدّر للأنسولين    ذِكر الله له فوائد ومنافع عظيمة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



اختفى و هو يشرف على وضع نقطة النهاية لمذكراته
نشر في النصر يوم 13 - 01 - 2014


رابح بلعيد..المؤرخ المستقل
توفي أول أمس الأحد المؤرخ الجزائري وعميد أساتذة جامعة باتنة رابح بلعيد، عن عمر يناهز 87 سنة إثر جلطة دماغية مفاجئة، الفقيد ورغم مواقفه المثيرة للجدل إلا أنه عرف بصبره وتدقيقه في كل صغيرة وكبيرة في تاريخ الجزائر، يفضل مبدأ التمحيص ويقارن الوقائع ويبحث عن الأدلة.. فقدت الجزائر مؤرخا أكاديميا متميزا عرف عنه عناده في سرد الوقائع التاريخية التي لا تساير الاتجاه العام، الدكتور رابح بلعيد عرف باحثا في تاريخ الجزائر قليل الكلام ولكنه كثير البحث والتوثيق...عانى الكثير بسبب بعض مواقفه خاصة حين يتطرق إلى قضايا وحقائق عن مسيرة ونضال مصالي الحاج.عرف حسب العارفين بالرجل وفاءه لخطه وكفاحه من أجل رأيه إلى آخر يوم في حياته... شأنه في ذلك شأن شيخ المؤرخين أبو القاسم سعد الله، وكأن الرجلين سارا على نفس الخطى واشتركا في نفس الغاية وفضلا الرحيل في نفس الوقت تقريبا.
إعداد: صالح سعودي
عمر صافي (دكتور وباحث في العلوم الإنسانية، جامعة مرسيليا)
فارس الحقيقة، المناضل الثابت و المؤرخ المستقل الرافض للأبوة المفروضة بالقوة
"إن المناضل الحقيقي هو إنسان مثالي لا يتحدث عن نشاطه وأعماله مهما كانت قيمتها، لا يتحدث عن أعماله وكفاحه، لأنه لا تدفعه دوافع الشهرة أو دواعي الحصول على المادة". د. رابح بلعيد
يعتبر الدكتور المجاهد رابح بلعيد من أهم المراجع الفكرية والتاريخية والأدبية لثورة الجزائر الكبرى، فهو الذي تربى في أحضان الحركة الوطنية وساهم في بلورة مفاهيمها وإثراء أدبياتها وتحليل وقائعها وأحداثها. فبعد رحلة البحث عن الذات في مرحلة الاستدمار والسلب الثقافي والاجتماعي والسياسي، للمناضل رابح بلعيد مسيرة ثرية وحافلة بالأحداث والآلام، فقد تحدثت الكثير من المناسبات التاريخية عن الرجل الهادئ والمصمم عن سيرته النضالية ومراحل البحث عن ذاته منذ كان صغيرا، حيث حُرم من الدخول إلى المدرسة، فعمل ماسحا للأحذية وعاملا في مطابخ سفن الحلفاء التي نزلت بالجزائر أثناء الحرب العالمية الثانية، ليسافر في إحداها متخفيا إلى إيطاليا ومنها إلى الولايات المتحدة الأمريكية محققا حلم الطفولة حينما قبلته جامعة سان فرانسيسكو كطالب بها سنة 1953، ساهرا على التعريف بقضية شعبه عبر نضاله المستمر ضمن البعثة الجزائرية للأمم المتحدة، وبقائه وفيا للهوية الوطنية في كل المناسبات والتظاهرات الإقليمية والدولية.
تميز المجاهد بلعيد بجرأة قل مثيلها في زمن الثورة وبعدها، حيث سجل شهادته كاملة غير منقوصة ولم يحاول تأجيل الحديث عنها، رغم أنه كان يعلم علم اليقين أن هذا العمل سيؤدي به إلى التهميش والعقاب من طرف أصحاب القرار، أو لم يقف المجاهد رابح بلعيد في سبتمبر 1962 ضد المشروع الفرنكوفيلي التغريبي الذي طرحته أطراف فاعلة أثناء المؤتمر الخامس لإتحاد الطلبة المسلمين الجزائريين حيث كان حينها في الهيئة القيادية للاتحاد نائبا للرئيس مكلفا بالعلاقات الخارجية؟ أو لم يدافع المجاهد رابح بلعيد عن القادة لعموري ونواورة وعواشرية الذين أُعدِموا ظلما من طرف إخوانهم في الكفاح المسلح بهدف إبعاد القيادات الوطنية التي لا يتلاءم فكرها مع الإستراتيجية الأجنبية التي كانت تحاول وبكل الوسائل بسط سيطرتها ونفوذها على مختلف القيادات والعمل بجد لاحتواء الثورة، أو لم يدافع رابح بلعيد عن زعيم حزب الشعب ويبّين بالدليل والحجة والبرهان أن مصالي أيد الثورة المسلحة بمجرد اندلاعها عبر رسالة أرسلها لكريم بلقاسم مع مبلغ كبير من المال عبر هنري بوليت، وهو مناضل تروتسكي، وقال حينها مخاطبا هذا الأخير ''يا هنري، هل بإمكانك السفر إلى الجزائر فورا''، ووافق هذا الأخير وحمّله رسالة إلى كريم بلقاسم فحواها ''هناك خلاف حاد بيننا ولكن الآن الثورة اندلعت وعلينا أن ننسى هذا الخلاف ونهتم بالثورة''؟ هذا مصالي الحاج الذي أعاد الاعتبار له عبد العزيز بوتفليقة بعد وصوله للرئاسة، دافع عن مصالي منذ عقود وفي مرحلة معينة لم يكن فيه الواحد قادرا على أن ينبس باسمه ولو همسا.
إن الآلام التي تعرض لها المجاهد رابح بلعيد لم تكن مقتصرة على تهميش شخصه في الحياة السياسية بل وصل الأمر لمتاعب خطيرة عبر تحديات فرضتها شخصيته الرافضة للأبوة المفروضة بالقوة والمزورة والذي ظل الشعب الجزائري يعاني من آثارها وأخطارها وانعكاساتها، فمآسيه وآلامه لم تبدأ بالمحاكمة الشهيرة التي تعرض لها في مرحلة معينة، بل بدأت منذ أن جهر برأيه منددا بالردة الثقافية والتربوية والسياسية التي حاولت أطراف فرضها على الساحة الوطنية عبر طابور خامس يتحرك بإيعاز من مصدري حضارة السلب والرق والنهب وما تهدف إليه من تكريس للتبعية الاستعمارية وتشكيك الشعب في هويته واستقلاله.
لقد ظل قلما جريئا وكتابا مفتوحا ومصباحا يضيء طريق الباحثين عن الحقيقة، وسار على المنهج الذي رسمته له عبقريته وأكدته مسيرته النضالية الجريئة، كان يدرك ببصيرته النافذة وتجربته الغنية أن الحياة عقيدة وكفاح ونضال، أو ليس هو الذي خاطب أعضاء المكتب السياسي سنة 1963 مبينا الأخطار التي تحدق بهوية الأمة الجزائرية التي كافحت لاسترجاع هويتها الحقيقية، هذه الأخطار التي تتمثل في التيار التغريبي الفرنكوفيلي ، قال في رسالته: "فلو كنتم سادتي كمناضلين- ولا أشك في نضالكم- حاضرين في بن عكنون خلال شهر سبتمبر الماضي أثناء المؤتمر الخامس لاتحاد طلابنا لما حسبتم أنفسكم في أرض الجزائر المستقلة الجديدة في بداية عهدنا الجديد، بل كنتم تظنون أنكم موجودون في فرنسا، إن 90 % من الطلبة الحاضرين لولا الدم الجزائري الذي يجري في عروقهم لما اعتبرتموهم جزائريين. فبجانب استقلالنا فقد ورث شعبنا طبقة مثقفة خارجة تماما عن وجوده الأصيل وإذا شئنا قلنا إن شعبنا قد ورث من فرنسا فئة من الأفاعي هدفها هو امتصاص دم شعبنا بالإضافة إلى السم الاجتماعي الذي صدرته فرنسا".
سامي بخوش (أستاذ بجامعة باتنة)
قال لي تعال لأسلمك مكتبتي للقسم، وسأتقاعد هذا العام حتى أترك لكم الفرصة أيها الشباب
آخر مرة التقيت به قبل أسبوعين قال لي هذا العام الأخير لي في الكلية سأطلب التقاعد هذا العام وسأترك لكم الشباب الفرصة هو وقتكم... قال لي إذا كان عندك وقت فراغ تعال إلى بيتي لكي أسلمك مكتبتي الخاصة كهدية للقسم مكتبة ثرية بالعديد من الكتب التاريخية والسياسية القيمة بالعربية والانجليزية، وللأسف وافته المنية قبل أن استلمها،،كتب جزء كبير من مذكراته والتي تحمل الكثير من القنابل الموقوتة ولعل أبرزها المتعلقة بالأمير عبد القادر.
كان يحكي دائما بعد عودته من القاهرة أنه حاول الاستقرار في العديد من المدن الجزائرية على غرار العاصمة، عنابة، قسنطينة وسطيف إلا أنه في الأخير وجد راحته في مدينة باتنة واستقر بها، كان يحضر لزيارة القاهرة الربيع القادم ووعدته أن اصطحبه في هذه الزيارة، سيبقى حفل تكريمه بمناسبة عيد ميلاده 86 نهاية نوفمبر في ذاكرتي خاصة بعدما كلفني اساتذة القسم بتولي مهمة تكريمه باعتباري أصغر أستاذ يتولى مهمة تكريم عميد الأساتذة، كانت لحظة متميزة جدا في حياتي خاصة أنها تزامنت مع بداية مشواري التدريسي في القسم، كنت محظوظا بالوقوف أمام قامة بحجم ومكانة أستاذنا الكبير رابح بلعيد رحمه الله.
د يوسف بن يزة (كاتب وأستاذ بجامعة باتنة)
كان ينأى عن القراءة الرسمية للتاريخ
عرفت الدكتور رابح بلعيد في نهاية القرن الماضي كأستاذ لمادة التاريخ السياسي للجزائر عندما التحقت بتخصص العلوم السياسية بجامعة باتنة، وقد كانت محاضراته مختلفة نوعا ما عن باقي المحاضرات لأنها كانت جزء منه، فقد كان أستاذنا هو التاريخ نفسه وليس ما يكتب بين دفات الكتب.. فالدكتور بلعيد كان يروي لنا كثير من الأحداث التاريخية كما عاشها، وفي كثير من الأحيان كان يستظهر وثائق نادرة حول الحركة الوطنية والثورة التحريرية..
كان وفاؤه للزعيم مصالي الحاج كوفاء الابن لأبيه وكان يستحضر كل مواقفه ومقولاته، وكانت قراءته للأحداث التاريخية مختلفة تماما عن تلك التي ذكرتها الكتب خاصة المدرسية التي تربينا عليها.. التقينا مرة أخرى في مهنة الصحافة وهذه المرة كزملاء حيث تولى نشر عدد من كتبه بأسبوعية رسالة الأطلس التي كانت تصدر من باتنة، وهناك كنا نلتقي على موائد التاريخ، أين حمل الرجل على المتغربين من أبناء أمتنا في سلسلة مقالات دامت سنوات عديدة ومازلت أحتفظ بها إلى يومنا هذا..
كان الرجل لا يتقن اللغة العربية فكتاباته كلها بالإنجليزية وكان حريصا على الترجمة السليمة لكل ما كتبه، وهو الأمر ذاته الذي عشته معه في غرفة قصية من شقته المتواضعة بحي كشيدة بباتنة أين قضيت عدة أشهر أساعده في ترجمة مذكراته من اللغة الإنكليزية إلى العربية.. كان حرصه الكبير على سلامة الترجمة بمثابة عمل إضافي يضاعف من شقاء التأليف ولكنه كان صبورا وصبورا بطريقة عجيبة فقد كان يمر علينا اليوم الواحد وقد حررنا بالكاد صفحة واحدة، لقد اختار المرحوم واحدة من غرف شقته وحولها إلى ورشة حقيقية لكتابة التاريخ وكان يحتفظ بوثائق هامة حول تاريخ الجزائر خاصة قبل الثورة التحريرية..
لقد اختار المرحوم بلعيد أن يسبح عكس التيار واختار أن ينأى عن القراءة الرسمية للتاريخ بل إن المطّلع على كثير من كتاباته يدرك تلك الشجاعة النادرة في تناول الأحداث التاريخية كما هي ودون مواربة أو مجاملة لشخصيات موجودة في الحكم.. وشاءت الأقدار أن التقينا أخيرا كزملاء في قسم العلوم السياسية بالجامعة أين كنا نستعين به في كثيرا من القضايا المرتبطة بالتاريخ السياسي للجزائر .. رحم الله الفقيد وأسكنه فسيح جناته.. لقد كان مصمما على أفكاره مكافحا من أجلها عنيدا في تناولها متحججا بها ولها بما توفر لديه من أدلة دامغة حول عدد من الأحداث التاريخية.
نور الصباح عكنوش (آخر طالب باحث يشرف عليه الفقيد في الدكتوراه)
ضحى بموعد طبي هام من أجل مناقشة رسالة جامعية
كنت أخر طالب باحث يشرف عليه في الدكتوراه... كان يقول لي إن شاء الله تناقش رسالتك لكي أرتاح من الجامعة ...وفي 28 نوفمبر الماضي تحقق الحلم وبعدها بأيام قليلة يرحل من كان يقول لي عندما يراني قلقا ...يا عكنوش كن جامدا ...
الراحل كان يحب أن أحضر لمنزله بعد القيلولة في الخامسة مساء... يبحث معي عن أدق التفاصيل في بعض الصفحات المبعثرة ... يحدثني أحيانا بمرارة عن عدم وفاء البعض وأحيانا أخرى عن مذكراته التي تؤرقه لأنه لم ينته منها...وعن حال البلاد وخاصة الجيل الشاب التائه بعيدا عن الحقيقة ...حدثني كذلك عن عدم بث لقاء تلفزيوني له في الصيف الماضي مع قناة خاصة... وعن ذكرياته مع حصة الجليس في التسعينيات من القرن الماضي.
كلمني هاتفيا في الخريف الماضي عن تضحيته بموعد طبي هام للغاية بسبب ترأسه للجنة مناقشة أطروحة دكتوراه لطالبة بجامعة باتنة مفضلا نجاح باحثة في مشوارها العلمي على صحته بكل نبل ورجولة ...
كان يحاول أن يجعل من صفحته على الفايس بوك نافدة علمية جادة تؤرخ لأفكاره وهو الذي لا يتعب في استعمال جهاز الكومبيوتر الشخصي رغم مشاكسة
الحفيد له ...
أخر مرة رأيته فيها كان ذلك على هامش مناقشة رسالة الدكتوراه ...حملت محفظته البنية الكبيرة التي كان يجد صعوبة في غلقها ومشيت معه حتى السيارة ليركبها رفقة الدكتور محمد رضا مزوي (الذي يحترمه كثيرا) من جامعة العاصمة ثم يغادر المكان وبعدها الزمان ...
لقد كنا نودع بعضنا دون أن نعلم ...
وداعا دكتور.
فارس بوحجيلة (كاتب وباحث)
"لا يؤمن بإخفاء الحقائق، و الاسترجاع الفعلي للهوية الوطنية أخذ مكانة مركزية في كتاباته ونضاله "
تعود علاقتي بالمرحوم المجاهد الدكتور رابح بلعيد إلى نهاية التسعينات من خلال متابعتي للحلقات المسلسلة لتاريخ الجزائر التي كان ينشرها في أسبوعية رسالة الأطلس، حينها كنت تلميذا في بداية المرحلة الثانوية، ومع أني لم أكن أستوعب الكثير مما كان ينشره، إلا أني كنت مهتما بطرحه غير المعتاد والذي يختلف بطبيعة الحال عن الرواية السائدة، وبالرغم من تخصصي الأكاديمي في الفيزياء وليس التاريخ، إلا أني بقيت متابعا وفيا لكتابات المرحوم التي كانت تنشر في الصحف، والتي أرى أن لها تأثيرا كبيرا في اهتمامي بالكتابة والتوثيق في مجال التاريخ.
أذكر أن أول اتصال مباشر لي بالمرحوم الدكتور المجاهد رابح بلعيد كان منذ قرابة السنتين بغرض التوثيق لإحدى المسائل التاريخية، لكني لم أشعر حينها كيف كان ينتقل حديثنا من مسألة إلى أخرى كما لم أشعر أيضا بمرور الوقت وأنا أصغي إليه، فرغم أنه قد جاوز الخامسة والثمانين سنة حينها إلا أنه كان يورد التواريخ والأسماء وعناوين الكتب وصفحاتها بدقة متناهية..، كما أن أهم ما يميز أحاديثه تحاليله العميقة ونظرته الشاملة، فهو لا يعالج الأحداث التاريخية وانعكاساتها بطريقة جزيئية معزولة، بل يردها إلى جذورها ويضعها في إطار الظروف المحيطة بها.
إضافة لمنهجه المتكامل في دراسة التاريخ، يحوز المرحوم صفة الشاهد على الكثير من الأحداث التاريخية الحرجة والحساسة، والتي قرر تسجيل شهادته عليها وحفظها للأجيال من خلال مذكراته التي شارف على إنهائها قبل رحيله، فالدكتور من خلال أحاديثه عن الأحداث أو الشخصيات التي عايشها لم يكن يتحفظ أو يخاف، إنه لا يؤمن بإخفاء الحقائق أو تأجيل كشفها بمبرر المصلحة الوطنية كما يفعل أغلب الباحثين والدارسين خوفا في الواقع على مكاسبهم ومصالحهم الشخصية، ومع ذلك لا يمكن أن تتلمس من خلالها مشاعر الحقد أو الكراهية اتجاه أحد حتى لو كان ممن ظلموه وقصدوا الإساءة إليه وهم كثر، وقد كان يطلب الرحمة والمغفرة لهم جميعا ويحزن لرحيل أي منهم، وقد تلمست ذلك منه مرات عدة وأنا أنقل له خبر وفاة أحدهم.
إن متاعب الدكتور لم تبدأ بالمحاكمة الشهيرة التي تعرض لها قبل عقد من الزمن، بسبب قوله للحقيقة كاملة في مسألة تاريخية شائكة ومسكوت عنها بناء على وثائق وشواهد ثابتة، فهو المناضل الصنديد الثابت أمام المغريات والصعوبات، وأعماله التي نشرت جزئيا في الصحف قبل سنوات وستجد طريقها إلى الطبع قريبا بحول الله شاهدة على مشروعه الفريد الذي يعتمد على إعادة مد جسر التاريخ بين الأجيال الجديدة وماضيها، كوسيلة وحيدة وفعالة لمواجهة الصراع المستمر بين العالم الإسلامي والعالم الغربي الذي أنتج ظاهرة الاستعمار التقليدي الذي تحور وتطور بعد الحرب العالمية الثانية إلى استعمار حديث لا زالت الشعوب المسلمة تعاني تحت وطأته.
إن قضية الاسترجاع الفعلي للهوية الوطنية أخذت مكانة مركزية ليس في كتابات الدكتور فقط، وإنما في نضاله المستمر الذي انطلق قبل التحاقه بجامعة سان فرانسيسكو سنة 1953، فقد كانت لغته الأساسية هي الانجليزية حيث بقي غير قادر على التحرير الجيد باللغة العربية، وهو ما كان وراء شرف مساعدته في التحرير خلال الأشهر الأخيرة من حياته، وهي التجربة التي استفدت منها كثيرا، ومع ذلك فإنه لم يعاد القيم الإسلامية واللغة العربية كما فعل ويفعل إلى اليوم الذين لا يعرفون من العالم غير فرنسا، كما أنه لم يزايد باللغة العربية والقيم الإسلامية ويتخذ منها سجلا تجاريا وواجهة لقضاء مآربه ومصالحه الشخصية، فلم يركبها مطية ينادي بها من حين لحين ويسكت عنها بعد قضاء الحوائج، بل بالعكس كانت ومازالت له مواقف عملية فعلية استهلها قبل أزيد من نصف قرن من الزمن.
يتميز المرحوم كمؤرخ بموضوعيته، لأنه لم يرتبط بأي حركة أو تيار سياسي أو ديني بخلاف غيره، فجهاده ونضاله بدأ مباشرة من خلال جبهة التحرير الوطني، باعتباره كان السباق لطرح القضية الجزائرية أمام الأمم المتحدة باسم الجبهة، فهذه الحيادية الايجابية هي التي جعلت من كتاباته وأرائه غير مستساغة عند البقية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.