يجلس سبعة أطفال كل واحد منهم قبالة مربيته الخاصة في قاعة لا تتعدى الثلاثين مترا مربعا التي تحتضن بوهران القسم النموذجي الوحيد بالغرب الجزائري المخصص للتكفل بالمصابين بمرض التوحد. إنهم سبع محظوظين من بين مئات الأطفال المصابين بهذا الاضطراب الذاتوي الذي يؤثر على قدرة الطفل على الإتصال مع محيطه الخارجي. هو قسم يعد بالكثير قد يخرج هؤلاء الأطفال من سجنهم الداخلي ليجدوا طريقهم في الحياة. أما أولئك الذين لم يسعفهم الحظ في إيجاد تكفل خاص يتناسب مع احتياجاتهم فيبقى مستقبلهم غامضا. هم إذا خمس صبيان وفتاتان أصغرهم مليك في السابعة من العمر وهو الأكثر إصابة وأكبرهم سنا وسام في الثانية عشرة وهي مثال حي عن النجاح التي يمكن أن يحققه التكفل بهذه الشريحة من الأطفال. بعيناه الزجاجيتين وشعره الذهبي لا يكاد أحد مقاومة إبتسامة مليك. ابتسامة ثم إشارة باليد ثم كلمة ثم كلام لا يرد مليك على أي منها. وسرعان ما تحل الخيبة جراء عدم امكانية التواصل معه. وتعد وسام بمثابة أمل هذا القسم حيث حققت تقدما كبيرا منذ أن التحقت بالقسم منذ اربع سنوات. إنها تتكلم و تبتسم و تضحك و تكتب و تقرأ ولا تكاد تختلف عن الأطفال الطبيعيين في الكثير من الاحيان. لقد نجحت على الأقل في كسر قيود اضطرابها لتغادر الطفولة وهي قادرة و لو نسبيا على الإعتماد على نفسها. التكفل المركز بالمتوحدين هو الحل الوحيد يؤكد المختصون أن التوحد لا يعد قدر محتوم مدى الحياة حيث يمكن للرعاية الكثيفة والمكيفة مع احتياجات المصابين أن تأتي بنتائج مذهلة أحيانا. و تشير أسماء بلجيلالي و هي مربية مختصة في التوحد و عضوة في جمعية المتوحدين لوهران التي أنشأت القسم النموذجي أن المتوحدين المتكفل بهم لا يصبحون طبيعيون مئة بالمائة إلا أنهم يندمجون في الحياة الطبيعية. ويفترض أن يبدأ التكفل بالأطفال المتوحدين في سن الثالثة. وقد وقع إختيار الجمعية على طريقة "آبا" المبنية على المحاكاة الفردية المكثفة والتي تطبق على أطفال القسم النموذجي مدة 8 ساعات في اليوم على مدار الأسبوع. وتقوم المربيات المختصات وهن في الاساس أخصائيات نفسانيات في هذا القسم بأدوار مختلفة اذ تلقنن الأطفال الأكثر إصابة الكلام و الإبتسام و التشخيص بالنظر ومسك الأشياء وغيرها من السلوكات الاساسية بينما تعلمن القراءة و الكتابة و الحساب للمصابين بشكل أقل حدة وأولئك الذين تمكنوا و لو جزئيا من التغلب على اضطرابهم. ويمكن أن تأتي كل هذه المجهودات المبذولة من طرف المربيات والأولياء بثمار أثمنها هي ضمان استقلالية الأطفال في حياتهم اليومية أما أولئك الذين لا يلقون الرعاية فيبقى مستقبلهم غامضا. قسم نموذجي ثم لا شيء لقد تم انشاء القسم النموذجي من طرف مجموعة من أولياء أطفال مصابين بالتوحد اعتادوا إرتياد عيادة طبيب مختص في أمراض النطق واللغة كان يساعد اولادهم في تعلم الكلام. و قد وافقت وزارة التربية الوطنية على إقامة هذا القسم بينما اخذت مديرية النشاط الاجتماعي و التضامن لولاية وهران على عاتقها تسديد أجور المربيات. وتحتضن إحدى المدارس الابتدائية بغرب وهران هذا القسم مما يسمح للأطفال المتوحدين الاحتكاك بالأطفال الطبيعيين خاصة اثناء الاستراحة. غير أنه لا يمكن التكفل بكل الأطفال بالنظر لإنعدام الامكانيات والمساحة لذلك. وقدرت الجمعية بناء على نسبة انتشار المرض عدد المتوحدين بالغرب الجزائري بحوالي 5.000 طفل بينما أحصت ما لا يقل عن مائة طفل سجلهم اولياءهم في قائمة الانتظار للاستفادة من التكفل لدى الجمعية. وقد انشأ هذا القسم النموذجي تحسبا لتوسيع التجربة وخلق أقسام أخرى أو حتى مركز متخصص للاستجابة للطلب بالمنطقة. أولياء المتوحدين: معركة يومية يشير المختصون إلى أن المتوحدين وخاصة الاطفال منهم لا يعون إختلافهم عن الأخرين ما يقلل من معاناتهم على عكس الأولياء الذين لا يجابهون المرض يوميا. وقد اختار كل من كريم و أم يانيس مواجهة كل الصعاب من أجل كسر جدار المرض الذي تحبس طفليهما "مليك" و "يانيس" البالغان من العمر 7 و 8 سنوات رغم نقص الإمكانيات. وتبقي نظرة المجتمع و عدم تفهمه لمرض التوحد الذي يعد سلوكيا مائة بالمائة عبئا ثقيلا على الاولياء. كم من مرة نعت يانيس او مليك بنعوت مثل "قليلي التربية" في الاماكن العامة من أشخاص لا يدركون حقيقة مرضه. تمدرس الاطفال المتوحدين ممكن فقط على الورق رغم امتلاك "وسام" قدرات تأهلها للسنة الثالثة إبتدائي إلا أنها تواصل تلقي دروسها في القسم النموذجي للجمعية نظرا لصعوبة الحاق هذه الفئة من الاحتياجات الخاصة رغم كون التعليم للجميع حقا يكرسه الدستور الجزائري. وقد باءت كل محاولات الحاق اطفال مصابين بالتوحد ويمتلكون المؤهلات المطلوبة للتمدرس بالفشل اذ كثيرا ما يشكل السلوك غير الطبيعي للطفل المتوحد مشكلا للمعلمين والتلاميذ الآخرين بحيث يفضل الكثير من الأولياء سحب اطفالهم عقب توالي الاستدعاءات والشكاوي في حين يقرر بعض المدراء ذلك تجنبا للمشاكل. وينص القانون 08-04 المتضمن القانون التوجيهي للتربية الوطنية على تكريس حق المعاقين في التعليم غير أن الكثير من المدراء يبدون تردد في قبول الأطفال المتوحدين. وجوب تحديد وضع المتوحدين لا يملك جميع الأولياء الامكانيات للتكفل بأطفالهم المتوحدين في غياب مراكز مختصة و عدم الاعتراف بالتوحد كمرض في التصنيف الطبي الجزائري. وتبقي جلسات العلاج لدى بعض المختصين مثل المهتمين باللغة والنطق باهضة الثمن سيما ان الضمان الاجتماعي لا يتكفل بها. وتكلف الجلسة الواحدة لدى أخصائي النطق حوالي 1.000 دج بينما تستوجب الرعاية المكثفة القادرة على تحقيق نتائج 6 جلسات في الاسبوع مما يرفع كلفة الميزانية المخصصة لطبيب واحد الى 24.000 دج شهريا لا يعوضها الضمان الإجتماعي. ولا يعد التكفل بالأطفال المتوحدين جهدا ضائعا إذ أنه يعلم الأطفال الإستقلالية والإندماج الإجتماعي كأدنى حد. كما يمكن من الكشف عن مواهب غير عادية فالكثير من عباقرة العالم أمثال أنشتاين و توماس ايديسون كانوا متوحدين.