وزير الداخلية: الحركة الجزئية الأخيرة في سلك الولاة تهدف إلى توفير الظروف الملائمة لإضفاء ديناميكية جديدة    الفريق أول شنقريحة يترأس أشغال الاجتماع السنوي لإطارات المنشآت العسكرية    فايد: نسبة النمو الإقتصادي بالجزائر بلغت 4,1 بالمائة في 2023    وزير النقل : 10 مليار دينار لتعزيز السلامة والأمن وتحسين الخدمات بالمطارات    الجزائر الجديدة.. إنجازات ضخمة ومشاريع كبرى عبر مختلف مناطق الوطن    عنابة: فندق "سيبوس" يحتضن فعاليات الملتقى الجهوي حول الاستثمار    العدوان الصهيوني على غزة: سبعة شهداء جراء قصف الاحتلال لشمال شرق رفح    الرابطة الأولى: مولودية وهران أمام منعرج حاسم لضمان البقاء    الدوري البلجيكي : محمد الأمين عمورة في مرمى الانتقادات    بن ناصر يخسر مكانه الأساسي في ميلان وبيولي يكشف الأسباب    عين ولمان في سطيف: تفكيك شبكة ترويج المخدرات الصلبة "الكوكايين"    جيدو /البطولة الافريقية فردي- اكابر : الجزائر تضيف ثلاث ميداليات الي رصيدها    بوغالي يؤكد من القاهرة على أهمية الاستثمار في تكنولوجيات الذكاء الاصطناعي    محسن يتكفل بتموين مستشفى علي منجلي بخزان للأوكسيجين بقسنطينة    الذكرى ال60 لتأسيس المحكمة العليا: طبي يبرز أهمية الإصلاح الشامل لتكريس العدالة الإلكترونية    أفلو في الأغواط: حجز 19.5 قنطار من اللحوم البيضاء غير صالحة للاستهلاك    حوادث المرور: وفاة 16 شخصا وإصابة 527 آخرين بجروح خلال 48 ساعة الأخيرة    برج بوعريريج : فتح أكثر من 500 كلم المسالك الغابية عبر مختلف البلديات    جسدت التلاحم بين الجزائريين وحب الوطن: إحياء الذكرى 66 لمعركة سوق أهراس الكبرى    ألعاب القوى/ الدوري الماسي-2024 : الجزائري سليمان مولة يتوج بسباق 800 م في شوزو    ندوة وطنية في الأيام المقبلة لضبط العمليات المرتبطة بامتحاني التعليم المتوسط والبكالوريا    الدورة الدولية للتنس بتلمسان : تتويج الجزائرية "ماريا باداش" و الاسباني "قونزالس قالينو فالنتين" بلقب البطولة    غزة: احتجاجات في جامعات أوروبية تنديدا بالعدوان الصهيوني    الطبعة الأولى لمهرجان الجزائر للرياضات: مضمار الرياضات الحضرية يستقطب الشباب في باب الزوار    النشاطات الطلابية.. خبرة.. مهارة.. اتصال وتعاون    تجاوز عددها 140 مقبرة : جيش الاحتلال دفن مئات الشهداء في مقابر جماعية بغزة    استعان بخمسة محامين للطعن في قرار الكاف: رئيس الفاف حلّ بلوزان وأودع شكوى لدى "التاس"    بطولة الرابطة الثانية: كوكبة المهدّدين بالسقوط على صفيح ساخن    نسرين مقداد تثني على المواقف الثابتة للجزائر    بهدف تخفيف حدة الطلب على السكن: مشروع قانون جديد لتنظيم وترقية سوق الإيجار    42 ألف مسجل للحصول على بطاقة المقاول الذاتي    الجزائر كندا.. 60 عاماً من العلاقات المميّزة    لقاء تونس ليس موجهاً ضد أيّ طرف    توقيف 3 أشخاص بصدد إضرام النيران    الكشافة الإسلامية الجزائرية تنظم اللقاء الوطني الأول لصناع المحتوى الكشفي    تفاعل كبير مع ضيوف مهرجان الفيلم المتوسطي بعنابة : بن مهيدي يصنع الحدث و غزة حاضرة    ندوة ثقافية إيطالية بعنوان : "130 سنة من السينما الإيطالية بعيون النقاد"    مهرجان الفيلم المتوسطي بعنابة: الفيلم الفلسطيني القصير "سوكرانيا 59" يثير مشاعر الجمهور    شهد إقبالا واسعا من مختلف الفئات العمرية: فلسطين ضيفة شرف المهرجان الوطني للفلك الجماهيري بقسنطينة    رئيس لجنة "ذاكرة العالم" في منظمة اليونسكو أحمد بن زليخة: رقمنة التراث ضرورية لمواجهة هيمنة الغرب التكنولوجية    مدرب مولودية الجزائر يعتنق الإسلام    نحو إعادة مسح الأراضي عبر الوطن    منظمة الصحة العالمية ترصد إفراطا في استخدام المضادات الحيوية بين مرضى "كوفيد-19"    السيد بلمهدي يلتقي ممثلي المجلس الوطني المستقل للأئمة وموظفي قطاع الشؤون الدينية والأوقاف    المجلس الوطني لحقوق الإنسان يثمن مرافقة الدولة لفئة كبار السن    حج 2024 : استئناف اليوم الجمعة عملية حجز التذاكر للحجاج المسافرين مع الديوان الوطني للحج والعمرة    اللقاء الثلاثي المغاربي كان ناجحا    على السوريين تجاوز خلافاتهم والشروع في مسار سياسي بنّاء    استغلال المرجان الأحمر بداية من السداسي الثاني    أهمية العمل وإتقانه في الإسلام    "توقفوا عن قتل الأطفال في غزة"    ضرورة وضع مخطط لإخلاء التحف أمام الكوارث الطبيعية    قصص إنسانية ملهمة    هذا آخر أجل لاستصدار تأشيرات الحج    مدرب مولودية الجزائر باتريس يسلم    حج 2024 :استئناف اليوم الجمعة عملية حجز التذاكر للحجاج المسافرين مع الديوان الوطني للحج والعمرة    أعمال تجلب لك محبة الله تعالى    دروس من قصة نبي الله أيوب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تمنراست مدينة الخطايا: سياحة، تهريب وأشياء أخرى

فرق بين أن تدخل مدينة في ضوء النهار وبين أن تدخلها تحت جنح الليل، فالداخل ليلا يحوز على نوع من الأسبقية في اكتشاف معالم المدينة وأهلها نيام، وهو حال من يزور تمنراست في هذا الوقت، حيث تبدو من خلال عمرانها كمن يسعى لإنجاح معادلة المزج بين روح العصرنة والحفاظ على الأصالة· لكن سرعان ما يتضح مع بزوغ أول خيوط الفجر أن عاصمة الصحراء الجزائرية لا تكاد تخطو خطوة في اتجاه المدنية، إلا وتراجعت خطوات للوراء· فتمنراست المدينة الجزائرية الإفريقية بامتياز تظل تصارع تركيبتها البشرية المتناحرة، والتي تعيق انطلاقتها مادام هناك من يسألك عن قبيلتك وعرقك قبل سؤالك عن اسمك، فقيمة الشخص هناك يحددها الانتماء، هو عرف يرتضيه الجميع في صمت، يقسم مجتمع المدينة الواحدة إلى سادة وعبيد ودخلاء بالرغم من حمل الجميع لبطاقة وطنية خضراء كتب عليها جزائري الجنسية·
الحديث عن مدينة تمنراست يرتبط لدى الكثيرين بتاريخ العصور القديمة، صور الرجال الزرق، فلكلور الطوارف، حكايا الملكة تينهينان، وتلك الرحلات السياحية الخيالية في مواسم آخر السنة، حيث تتحوّل المدينة وصحاريها إلى قبلة السياح من مختلف بقاع العالم· والواقع أن تمنراست تتوفر على معالم طبيعية أهلتها عن جدارة لأن تكون مدينة سياحية من الطراز الأول، حتى في ظل غياب الحد الأدنى من المرافق السياحية المتعارف عليها في السياحة الحديثة عبر العالم، ولعل هنا يكمن سر إقبال الهاربين من المدينة الحديثة بكل عمرانها وتقنياتها وتكنولوجياتها، حيث يجدون في مساحات صحاري تمنراست الشاسعة بدايات الخلق والعودة لأصول الإنسان الأولى· فمن يجد نفسه محاطا بالصحراء على مد النظر لا بد من أن يغير من نظرته للأشياء ولو للحظة· كيف لا وأنت تكتشف أنك تحت رحمة الطبيعة مهما بلغت درجة تجهيزك التكنولوجي، فلا الحواسيب ولا الهواتف وحتى السيارات الرباعية الدفع تجدي نفعا ما لم يكن إلى جانبك مرشد من المنطقة يفقه لغة الصحراء ويتوارثها أبا عن جد·
هي الصحراء التي تبعث في النفس السكينة والهدوء وروح التأمل، ولا عجب في أن تكون صحاري ولاية تمنراست على مرّ العصور مكانا محببا من طرف الزهاد من مختلف الأديان، إلى يومنا هذا تجد من ضمن وفود السياح الراغبين في التوغل في عمق الصحاري أفواجا من مختلف دور العبادة المسيحية من مختلف القارات، يسمونها الخلوة· يقضون ما يقارب العشرة أيام زاهدين في الصحراء، حيث يقل طعامهم وشرابهم إلا بالقدر الذي يحفظ لهم الحياة· مهمتهم الوحيدة التعبد والتفكر في شؤون الخلق· تماما مثلما كان يقوم به الأب فوكو، المتعبد المسيحي، الذي ترك دياره الفرنسية ليختلي بنفسه في صحاري الجزائر طلبا في العزلة والتأمل، فكان له ذلك· هذا الأب، الذي تحوّل مسكنه بمدينة تمنراست لمقام وجب زيارته لكل السياح· الجدير بالذكر أن تمنراست المدينة لا تقدم لسياحها الفرجة الكبيرة التي من شأنها الإبقاء على السائح بها، فعدا متحف الحظيرة الوطنية للأهفار، الذي لا يكاد يأخذ من وقت السائح أكثر من ربع ساعة ومقام الأب فوكو وسوق الأسيهار، لا تتوفر المدينة على شيء يذكر جدير بلفت انتباه أي زائر· فحالها حال كل المدن الداخلية التي تصارع في سبيل الحياة اليومية، بنايات عمومية ذات هندسة محافظة على الإرث المعماري للمنطقة بشكل من الأشكال، إن افترضنا أن هناك تراثا معماريا مميزا، على اعتبار أن أهل المنطقة من الرحل ممن يتخذون الخيم مسكنا لهم· وقد يتأكد الأمر مع هندسة الأحياء السكنية، سيما الشعبية منها، حيث لا تحددها أي ميزة عمرانية عدا كون العمران في تمنراست بعيد عن العلو وعادة ما يكون التوسع أفقيا، وإن كانت صهاريج الماء المثبة أكثر ما يميز مساكن تمنراست، صهاريج تشير لأزمة الماء الحادة التي تعرفها الولاية، في انتظار الحل الموعود مع مشروع استقدام الماء من عين صالح· ومع ذلك تظل البنايات العمومية بعمرانها الخاص دليل ما يشبه النهضة التنموية ودليل وجود دولة تهتم بالمنطقة· فكل الإدارات العمومية لها بنايات لا تختلف كثيرا عما هو موجود في شمال البلاد، بالرغم من بُعد المسافة المقدر بحوالي 2000 كلم جنوب العاصمة، مستشفى، جامعة، إدارة، جمارك، مراكز البريد، شرطة، درك، ضرائب، بنوك··· وغيرها مما يصنع حياة معاصرة، كلها أشياء لا ترقى لمنافسة غروب وشروق شمس الأسكريم·
الأسكريم بجباله الفريدة في تركيبها والبديعة في جمالها تظل قبلة السياح، فلا يكاد أي فوج سياحي يقضي يومه في مدينة تمنراست إلا وغادرها في اليوم التالي متوجها للأسكريم وصحاريه، حيث دلائل بدايات البشرية، كتابات، منحوتات، نقوش وغيرها من الدلائل على وجود حياة، برع سكان الأهفار في أقلمتها مع طبيعة قفار الصحراء، بل أكثر من ذلك، لم يكتفوا بالتأقلم إنما تفننوا في ابتكار حياة متكاملة حق نعتها بالحضارة· لم يتبق اليوم من حضارة الطوارف، أو الإيموهار التسمية التي يحبذها سكان المنطقة الأصليون، سوى الفلكلور والعادات والتقاليد الراسخة يتناقلها الأهالي في إطار الأسرة بعيدا عن أي تدوين معرفي حقيقي بتاريخ المنطقة وحضاراتها· ولعل أصدق دليل المرويات العديدة عن ملكة الأهفار، تين هينان، تلك الحسناء التاركة لموطنها الأصلي بمنطقة تفيلالت المغربية على إثر خلاف عائلي، حيث يرد في الرواية الشعبية أنها نجحت في تشكيل تحالف مع قبائل المنطقة لتتحول بذلك إلى أم كل الطوارف، هذا عن الرواية الشعبية· أما ما يقوله خبراء التاريخ وعلم الآثار فيكاد يقارب العدم، إذ تظل هذه المرويات الشعبية تتردد من دون القدرة على التحقيق في مصداقية المروية، حتى أن الهيكل العظمي المتواجد بمتحف الباردو، والذي يقدم على أنه هيكل الملكة تين هينان تجد من الباحثين من يشكك في جدية هذا الطرح، على اعتبار أن الضريح المستخرج منه الهيكل لا يشير بأي شكل من الأشكال لصاحب الضريح، بل إن هناك من يعتقد أن الأمر يتعلق برجل وليس امرأة· المثير أن ما كرس رواية الملكة تين هينان في المخيال الجماعي ليس في الجزائر فحسب وإنما عبر العالم، رواية تحمل عنوان ''الأتلانتيد الضائع'' وهي رواية للكاتب الفرنسي بيير بونوا، الذي يروي قصة ملكة صحراوية نجحت في جني ثروة من خلال استغلال جندها في نهب القوافل في الصحاري· ولما كان اسم الملكة أنتينيا اللفظ اللاتيني لاسم تين هينان، فقد ساد الاعتقاد أن الرواية تتحدث بالضرورة عن ملكة الأهفار، وحتى لو افترضنا أن الحال كذلك، فإنه لا يمكن الأخذ بعين الاعتبار الحديث عن رواية للاستشهاد على وقائع تاريخية· ومما زاد الموضوع إثارة أن العالم بات يشيد بالمجتمع الطارفي الذي بالرغم من بداوته يمنح المرأة مكانة الأولوية على عكس المجتمعات البدوية التي تنظر لها على أنها كائن من الدرجة الثانية، عدا الطوارف الذين كرسوا احترامهم للمرأة لدرجة توليها أعلى المناصب، وهو الملك· كان هذا الطرح مدخلا لترويج الاستثناء الطارفي، حيث تداخلت الروايات المتامشية مع ذات الطرح، من قبيل اللثام الذي يضعه الطارفي خجلا وإجلالا للمرأة التي تسير هي دون الحاجة لتغطية وجهها، كلها روايات باتت تتناقل على أنها مسلمات، غير أنه يكفي أن تنبش في الحقائق قليلا لتكتشف أنها مغالطات تم الترويج لها خلال فترة معينة، إما عن جهالة أو خدمة لأغراض معينة· فالجدير بالذكر أن بدايات الاهتمام بتاريخ الطوارف كان خلال الفترة الاستعمارية على أيدي باحثين يملكون من النظرة الغرائبية ما يجعلهم يأولون الوقائع والمرويات على حسب فهمهم الخارجي ورغبتهم أحيانا، وهو ما يسعى اليوم شباب الطوارف المهتم بمطابقة المرويات المتوارثة شعبيا وبين البحث العلمي الجاد، حيث يؤكدون لكل من يرغب في تصديقهم على أن التراث الطارفي لا يذكر تين هينان على أنها ملكة وإنما شخصية بارزة تماما كما لا يقرون بخرافة اللثام الذي يرتديه الطارفي لشعوره بالخزي، وهو ما أكده الأستاذ بجامعة تمنراست، السيد زنداري، الذي يؤكد أن حقيقة المجتمع الإموهاري بات يحوي من المغالطات ما يستلزم عملا ميدانيا جادا لتخليصه منها، في إشارة إلى أن البداية تكون من خلال فهم الموروث الشعبي للمنطقة·
مع الإشارة إلى أنه عدم اعتراف الطوارف بتولي تين هينان منصب الملكة أو كما يعرف لدى المجتمع الإموهاري ب ''تمنوكلت''، لا ينقص من أهميتها ولا من مكانة المرأة لدى الطوارف، حيث تحظى باحترام يقارب التقديس والإجلال، فهي في العرف الطارفي المحرك الرئيسي للمجتمع وحافظة الذاكرة· وليس بالغريب أن تكون المرأة الطارفية من حفظ ميراث المنطقة من الاندثار من خلال نقله شفهيا تماما كما أورثت خط التيفيناغ من الضياع، وهو الحال الذي ما تزال تسير عليه المرأة الطارفية إلى يومنا هذا، إذ تظل خزان التراث الشعبي· ولاتزال هذه المكانة من اختصاص المرأة وإن باتت الفتاة الطارفية تتطلع لما هو أكثر من حفظ التراث، وإن كانت توليه اهتماما· فقد أتاح التعليم وقرب الجامعة من فتح آفاق المرأة· مع ذلك يظل تمدرس الفتاة في تمنراست رهانا وتحديا يوميا، بالنظر لبعد المسافة للوصول للمدارس، سيما الثانوية منها، فتمنراست من أكبر الولايات والمسافة بين بلدياتها العشر تكاد تكون بذات المسافة بين ولاية وأخرى، وفي ظل غياب النقل المدرسي والحضري يتطلب الاستمرار في التمدرس إصرارا ما بعده إصرار، مثلما يؤكده السيد علالي سيدعلي، مدير مدرسة ببلدية إيدلس، حيث يشير إلى النسبة العالية للتسرب المدرسي للفتيات بالرغم من النتائج الإيجابية المتحصل عليها بسبب بُعد المسافة والعقلية المحافظة التي تعارض انتقال الفتاة بعيدا عن الأهل·
الطوارق، الحراطن، الأتواج والآخرون
تاريخ المنطقة الضارب في عمق القِدم لدرجة إرباك الباحثين أكسب الطوارف أنفة يستلهمون منها تفاخرهم بانتسابهم لمنطقة صعبة التطويع، ومع ذلك نجح أسلافهم في ترويضها وخلق حياة بل وحضارة في مكان لم يكن مؤهلا لذلك، هذا التفاخر الذي توارثه الطوراف كرس اعتقادهم بكونهم سادة المنطقة وأشرافها· والواقع أنه في تمنراست عاصمة الطوارف في الجزائر يصعب على الزائر التمييز بين من ينتمي للطوارف من غيرهم من سكان الولاية· فمميزاتهم لا تقرأ في كتاب كما تاريخهم، إذ تتطلب معرفتهم التقرب منهم ومعايشتهم· وأول ما يقوله لك الطارفي: ''لا تعتبر كل من يضع اللثام ويلبس الزي المحلي طارفيا''، عبارة تجعلك تستفر أكثر وعادة ما يكون الرد السريع، أن لا تبحث عن الطوارف ضمن سود البشرة، فبشرة الطوارف فاتحة تميل لدى الكثيرين للبياض، تماما مثل لون العينين اللتان عادة ما تكون عسلية فاتحة· أما عن الشكل الخارجي للجسم، فيقولون لك إن الطارفي نحيل وطويل القامة، صفات تقترب من قبائل بربر الشمال، وهو ما يمكنك تلمسه من الطوارف الأصليين، حيث تنطبق على معظمهم هذه الصفات· أما بقية سكان الولاية من السود، فإن سألت طارفيا فقد يختلف الجواب مع اختلاف سن الطارفي المستجوب، فإن كان كهلا أو مسنا فلن يتردد في إجابتك بأنهم ''عبيد''، أما إن كان شابا ممن ارتادوا الجامعات فسيكون جوابه بأنهم ''حراطن''، ليسارع في تفسير الرد، بقوله معنى الكلمة ''حر ثان''، أي أنه كان عبدا مملوكا لدى الطوارف وتم منحه حريته ثانية ليصبح سيد نفسه بعدما كان ملك سيده الطارفي· وبالرغم من أننا قد نعتقد أن مثل هذا الكلام ولى عليه الدهر، إلا أنه من خلال المعايشة اليومية في قلب مدينة تمنراست تكتشف أن بقايا هذه الأفكار ما تزال تصارع الوجود وتصر على إبقاء كل عرق ضمن نطاقه لا يتجاوزه· هذا الصراع الذي لا يجهر لك سكان المدينة بسر إن اعترفوا أنه بات يمتد حتى للتمثيل النقابي والإداري وغيره· فالحراطنة، على حد تعبير الطوارف، تمكنوا من الحصول على قسط من التعليم سمح لهم بولوج عالم الوظائف والمناصب الإدارية، يعتقد الطوارف أنه يتم استغلالها لتصفية حسابات والانتقام من الماضي· وإن كان جيل الشباب يسعى للتخلي من هذه الأفكار التي تبدو بالية، إلا أن ترسخها صعب من مهمة تجاوزها، البدء في الحديث عن المواطنة بدلا من الانتماء القبلي· ويعتقد الكثيرون من الطوارف أن إحكام الحراطنة القبضة على الإدارات العمومية ومختلف المناصب العمومية السبب الرئيسي في توجههم نحو امتهان السياحة على وجه الخصوص، إذ لا يختلف إثنان على أن الطوارف اليوم برعوا في مهنتي السياقة والإرشاد في الصحاري رفقة الأفواج السياحية بقدر براعتهم في تحضير الشاي الطارفي·
والغريب في التركيبة البشرية لمدينة تمنراست أنها لم تعد تقتصر على طوارف وحراطنة، وإنما تشمل كذلك القبائل العربية، التي قدمت لنشر الإسلام وبفعل الحركات التجارية لتجد نفسها ضمن الحدود الجزائرية قادمة ليس من شبه الجزيرة العربية، ولكن من إفريقيا على غرار قبائل الأتواج، كنته، الظراهنة وتدبوكه··· وغيرها من القبائل العربية، التي انضمت للنسيج البشري للولاية· ومع أن الحديث عن الانتماء القبلي قد يبدو غريبا في عام ,2010 إلا أن واقع الحال يؤكد على أنه تقسيم ممارس في الحياة اليومية ولا مفر منه لفهم حقيقة وخفايا هذه الولاية الحدودية الجنوبية، التي ارتبطت صورتها بالكم الكبير من المشكلات القادمة من الحدود· ولا يقتصر الأمر على تهريب البضائع من قبيل التبغ وإنما يمتد لكل أنواع التهريب، مخدرات، أموال بالعملة الصعبة مسروقة من بنوك إفريقية وصولا إلى الأسلحة والبشر·
فقد تحوّلت تمنراست منذ فترة إلى منعرج مهم في عالم التهريب أجبر الدولة على مضاعفة الجهود لمكافحة ظاهرة التهريب، غير أن انحصار الأفق أمام شباب المنطقة جعل الكثيرين لا يتردد في امتهان التهريب بالنظر لتحكمهم في مسالك الطبيعة الوعرة مقابل مبالغ مالية أقل ما يمكن أن يقال عنها إنها مغرية، مثلما أكده (خويا· ع) شاب لم يتجاوز الخمسة وعشرين سنة من عمره، ومع ذلك له باع طويل في عمليات التهريب، حيث يقول: ''بالنسبة لنا لا تعنينا طبيعة البضاعة بقدر ما تعنينا قيمتها، إذ على أساسها يتم تحديد حصتنا، أيا كانت طبيعة البضاعة، لكن في الغالب نأخذ الوقود من مازوت وبنزين ونجلب التبغ''، في إشارة إلى أن تهريب التبغ الأكثر شيوعا، إلا أن تهريب المخدرات والأسلحة له المختصون فيه وليس بذات انتشار تهريب التبغ· إن حدثت الشاب خويا أو رفيقه عن الحدود ومخاطرها، يجيبك أن الحدود بالنسبة لهم مثل الساحة الخلفية للمنزل اعتادوا عبوره منذ الصغر ولا خوف عليهم· أما إن حدثتهم عن جمارك الحدود فيجيبونك أن الحدود لا حدود لها ويعرفون أحسن الطرق للتلاعب بها وبمن يحرسها· أما إن حدث ووقع أحدهم، فهناك طرق يتقنونها كمحاولة أخيرة لتفادي السجن· والمثير أن لعمليات التهريب خططا جديرة بقادة الحروب في أكبر المعارك، حيث يتم تقسيم المهربين إلى أفواج موزعة على متن شاحنات ''تويوتا ستايشن''، التي تطير طيران الرياح بدلا من السير على المنعرجات الصحراوية الوعرة، إذ يعرف كيفية الاستفادة من التكنولوجيا الحديثة، لا عجب أن تجدهم مزودين بخطوط الثريا للاتصالات، بوصلتهم ووسيلتهم للتواصل، إذ عادة ما تتم عمليات التهريب على مراحل، يتم نقل البضاعة خلالها من طرف مجموعة مختلفة حسب منطقة معينة· والحق أن مشكلة الحدود الجنوبية بتمنراست ليست حكرا على التهريب، بل باتت تشمل الهجرة غير الشرعية التي يسهل ملاحظتها في مدينة تمنراست، حيث بات للأفارقة أحياء كاملة خاصة بهم وأخطر ما في الأمر أن هؤلاء المهاجرين غير الشرعيين باتوا متهمين من طرف سكان المدينة بأنهم السبب الرئيسي في تفشي العديد من المشكلات الأخلاقية· ومع أن عددا من الأفارقة القادمين من مختلف دول الساحل الإفريقي تمكنوا من التأقلم في حياة المدينة من خلال خلق مناصب شغل لهم في عدد من الحرف اليدوية، على غرار محلات الأكل السريع التي كادوا يختصون بها على غرار ما يعرف بمحلات ''المايناما'' وتعني صاحب اللحم بالهوسا، وهو نوع من اللحم المطبوخ على الجمر· فقد فرضت الهوسا اللغة التي يتقاسمها الأفارقة نفسها وباتت تزاحم الطارفية والعربية في أسواق تمنراست، حيث بات تواجد الأفارقة ملحوظا بدرجة كبيرة في التجارة· تواجد يربطه البعض بالفترة اللازمة لجمع المال للمغادرة والتوجه نحو أوروبا، إذ تظل الإقامة في تمنراست مؤقتة· لكن يبقى هذا المؤقت بالنسبة للكثيرين طويلا لدرجة تكاد تقارب الاستقرار في الأحياء الإفريقية، التي تضاهي خطورتها، حسب عناصر الشرطة، خطورة أحياء الفافيلا البرازيلية، حيث يمكن للمرء أن يقضي حتفه دون العثور على دليل واحد· قد يبدو الأمر مبالغ فيه، لكن مع المعلومات المتوفرة حول الترويج للمخدرات وأخطر أنواع الكحول يسهل تصديق خطورة هذه الأحياء، التي يتجنب السكان المحليون دخولها لسبب أو لآخر· يكفي أن تسمع كلمة شابولو أو القوروقورو، ليسري في بدنك نوع من القشعريرة· هذا حتى قبل أن تدرك أن الكلمتان تسمية لنوع من الكحول الناتج عن عفونة العديد من المكونات العالية الإدمان، يقول العارفون بها أن خطورتها تفوق المخدرات· وقد تضاعف مع هذا المشروب المميت عمل عناصر الأمن، بالإضافة للمخدرات، الدعارة السرقة، حيث يتم البحث عن البيوت التي يصنع فيها هذا المشروب، ولا داعي للقول إن هذه الأحياء الإفريقية باتت مرتعا للدعارة وانتشار الأمراض الخطيرة على غرار فقدان المناعة، هذا هو الحال بأحياء قطع الواد، التي تجد دائما من ينصحك في تمنراست بعدم الذهاب إليها، وإن أصررت فيكفيك أن تتمعن عن بُعد لجبل تيهقوين الذي بات المقر الرئيسي للمعربدين· أكثر ما يثير الحسرة في هذه الأحياء المدقعة الفقر أولئك الأطفال المشردين العديمي الهوية، الذين بالرغم من ميلادهم على أرض الجزائر إلا أن عدم توفرهم على شهادات ميلاد ونسب أب معروف يظلوا محرومين من التمدرس، ليهيموا على وجههم طوال الوقت في انتظار حل يعيد للفرد معنى المواطنة·
القاعدتان، واحدة لنا والأخرى لهم
بالعودة لمدينة تمنراست لا يمكن تجاهل الحديث عن الوضع الأمني بالولاية، والذي دخلت عليه مصطلحات جديدة من قبيل قاعدة المغرب العربي، هذه الجماعة التي بات يتردد الحديث عن وجود أذناب لها في الولاية وعناصر فاعلين تنشطهم متى بدا لها ذلك· والأخطر أن الولاية باتت تزود هذه الجماعة بالسلاح، هذا على حد ما يتداول في الصحف· أما ما يقال في الواقع، فإن ما يسميه الإعلام عناصر قاعدة المغرب العربي لا يعدو يكون شباب اعتاد التهريب كوسيلة للعيش ولا مانع لديه أن ستبدل بضاعة ببضاعة أخرى وإن كانت أسلحة· أما عن الولاء لمعتقدات هذه الجماعة، فلا وجود له على أرض الواقع، ويستشهد السكان بمدى معرفتهم بكل المشتبه في تورطهم مع الجماعة الإرهابية ومعرفة حبهم للمال أكثر لأي شيء آخر· يكفي أن تتحدث لأي كان عن قاعدة المغرب العربي إلا وسارع للرد عليك بتعودهم على حديث القاعدة، غير أن القاعدة التي سمعوا بها غير تلك المتعلقة بالإرهاب وإن كانتا مرتبطاتان بشكل ما، على اعتبار أن القاعدة التي سبق الحديث عنها هي تلك التي سعت الولايات المتحدة الأمريكية لإقامتها في الولاية، والتي أسالت الكثير من الحبر، بالرغم من تأكيدات الدولة على عدم وجود لواحدة من هذا النوع لا في ولاية تمنراست ولا غيرها من الولايات الجزائرية· غير أن الاعتقاد السائد أن المنطقة تضم قاعدة عسكرية أمريكية مهمتها الرئيسية التجسس على الجماعات الإرهابية بدول الساحل الإفريقي، فقد باتت هذه المنطقة من العالم تكتسي بعدا استراتيجيا بالنظر لسعي فرع قاعدة بن لادن التمركز فيها وإيجاد أرضية انطلاق لهجمات محتملة للمصالح الأمريكية والغربية في إفريقيا، كل ذلك حسب تقديرات منظري البيت الأبيض الأمريكي والبنتاغون· والأكيد أن ولاية تمنراست تكتسي أهمية قصوى من ناحية أمن، ليس فقط القارة الإفريقية وإنما انتقل حتى للقارة الأوروبية، التي باتت تشكو من تفاقم الهجرة غير الشرعية القادمة من إفريقيا· من هذا المنطلق باتت الجزائر وولاية تمنراست بالدرجة الأولى تشكل الدرع الحامي من مخاطر انتشار الإرهاب والعنف المسلح، وكذلك الهجرة غير الشرعية· وبالنظر لكل هذا الكم المتراكم من المشكلات المتداخلة فيما بينها، تظل الولاية تسعى للمضي قدما وفسح المجال أمام التنمية الحقيقية وإن بدا مطلبا صعب المنال على ولاية ينظر لها من باب الترويج للسياحة فقط لا غير، سياحة ترتكز في المقام الأول على الحفاظ على الوضع القائم، سياحة ترهن الفرد في فلكلور ممسوخ يعيقه من التقدم· والواقع أن تمنراست تحولت بالرغم من كل مشكلاتها لمدينة كبيرة تستقطب كل يوم أعداد متزايدة من الزوار والمقيمين، حتى أن الإحصاء السكاني الرسمي لم يعد يعكس حقيقة التعداد على أرض الواقع، إذ يعتبر الكثيرون أن عدد سكان الولاية تجاوز 200 ألف نسمة، ما يجعلها في مصاف المدن الكبيرة ويرفع حجم الرهانات المستقبلية·


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.