ربما يعتقد الكثيرون أن المثقف هو ذلك الشخص الذي لا يفارق مكتبه أو قاعة دروسه، فهو إما يقرأ وإما يكتب وإما يحاضر على طلبته وإما ينتج فكراً، ولو أخذنا هذا التعريف لتبيّن لنا أن المثقفين في الجزائر لا يعدون ولا يحصون وهذه هي الحقيقة، ولكن السؤال المطروح إلى أي مدى يعبّر هذا المفهوم عن المثقف الحقيقي أو بعبارة أخرى المثقف المسؤول؟ إن المثقف الحقيقي هو ذلك الذي يحوّل ما توصل إليه من أفكار ودراسات إلى عمل، وينقل المعارف التي اكتسبها من التجريد إلى الممارسة، أي لا تبقى دراساته مبثوثة على أوراق الجرائد وصفحات الكتب بل تتجسد على أرض الواقع، ويظهر مفعولها على أحوال الناس وعيشهم، وهذا ما يطلق عليه بالمثقف العملي الذي ينزل إلى الناس ويسمع معاناتهم وآهاتهم وآلامهم ويعمل على تخفيفها وإيجاد السبل الكفيلة لحياة أفضل، أما أن يبقى في برجه العاجي بعيداً عن مشاكل الناس ومعاناتهم يلقي الخطب العصماء بوجوب التغيير وضرورة مشاركة الشعب في ذلك، فهو في هذه الحالة شبيهاً بذلك السياسي الانتهازي الذي يعرف شعبه أيام الانتخابات فقط· لذلك يُشبه البعض رسالة المثقف برسالات الأنبياء والرسل، فكما أنه يشترط في عمل الرسل أن يخاطبوا أقوامهم على قدر عقولهم، وبحسب اللغة التي يتكلمون، ونجد أن معظم الرسل أُرسلوا إلى أقوامهم، لذلك فإن نجاح مهمة المثقف في التغيير منوطة أولا بلغة الخطاب، حيث يجب عليه الابتعاد عن اللغة الأكاديمية التي تستخدم في البحوث والدراسات والتحدث مع الناس بلغة يفهمونها، وبذلك فالأفكار التي تنتج عن طريق هذه اللغة تكون غير مستعصية على أفهام الناس، وهذا الشرط الثاني. أما الشرط الثالث، فيتمثل في أن يكون المثقف من البيئة التي يحمل فيها مشعل التغيير، وهذا ما يقودنا إلى الشرط الأخير، وهو ضرورة مشاركة الناس في همومهم اليومية· يقوم المثقف بمنح الجماهير المعرفة والوعي، لأن نشر المعرفة ضرورة ملحة لإحداث الوعي في عقول الناس ونمط تفكيرهم، والوعي بدوره يبدل طريقة تفكير الجماهير الضعيفة الراكدة، فتنتقل هذه الجماهير من حالة الضعف إلى القوة، ومن حالة الركود والسكون إلى الحركة والحيوية· كما أن المثقف يعلم المجتمع كيفية السير، حيث يمنحه الهدف، ويرشده إلى الطريق الصحيح· ونجد أن أعظم مسؤوليات المثقف وأخطرها هي البحث عن السبب الحقيقي الذي أدى إلى انحطاط المجتمع وركوده، ويكتشف أسباب تأخر مواطنيه وتخلفهم، ثم يعمل على تنبيه المجتمع إلى طريق الخلاص، فيرسم الأسلوب، ويعطي الحلول، ويوضح الهدف· ما يصدمنا حقا أن المثقفين الجزائريين لا يملكون مشروعاً خاصاً، لإخراج الجماهير من المعاناة والآلام، ومن التخلف والفقر، وإذا وجد فهو في الغالب يحمل إمضاء مثقف دون غيره، وهذا نتيجة عدم التواصل فيما بينهم، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، فإن السلطة السياسية اغتالت الثقافة ومعها تفرغ المثقف إلى شؤونه الخاصة، وتخلى عن رسالته الحضارية في تنوير العقول وتثوير الهمم وإحداث التغيير، وأصبح هناك نوعاً من الأنانية واللامبالاة عند الكثير من المثقفين· لعل الخلافات الإيديولوجية والخلفية الفكرية عند المثقفين الجزائريين، هذا فرانكفوني، وهذا عروبي، وهذا إسلامي، وهذا علماني، هي التي ساهمت بشكل أو بآخر في عدم التواصل فيما بينهم، وصل في بعض الأحيان إلى حد القطيعة، مما أخر ولادة مشروع موحد يحمل وصفات التغيير لإنقاذ البلاد من حالة الانهيار والسقوط، وخلاص الشعب من الوضعية المزرية التي يعيشها· لذلك لا بد على المثقفين أن يترفعوا عن الخلافات الفكرية، ويكون الهم الوحيد الذي يؤرقهم هو أداء الرسالة الحضارية على أكمل وجه، فالوطن يتسع للجميع، حيث لا وصاية لأحد على أحد، المهم أن تكون الوصفة الثقافية نابعة من البيئة الجزائرية غير المستوردة لا من الشرق ولا من الغرب، وأن تراعي خصوصيات المجتمع الجزائري وقيمه· وبهذا يقوم المثقف بسد الثقوب التي يحاول السياسي الولوج منها لإدامة الجفاء والبُعد بين المثقفين، فالتشتت يفيد السياسي ويريحه، ويضر مصلحة الشعب ويقلقه، الذي ينتظر اليد الممنوحة من طرف النخب المثقفة للخلاص من القمع والقهر والإقصاء· ومن ذلك، فمسؤولية المثقف ليست منحصرة في الجماهير فقط، بل تتعدى ذلك لتصل إلى السلطة السياسية، حيث يكافح ويناضل من أجل عدم حجب الحقيقة، الحقيقة المُرة التي تريد السلطة إخفاءها، وعدم الكلام عنها، فيعمل على نشر الوعي، وينادي بضرورة تبديل واقع الناس إلى الأحسن، وإيصال صوت الجماهير وأشواقها في الحرية والكرامة والديمقراطية إلى السلطات المعنية، ولقد عبّر المؤرخ الفرنسي فرانسوا جيزو عن مهمة المثقف تجاه السلطة في عبارة موجزة وبليغة تتمثل في ''رفع الحقيقة في وجه السلطة''، في حين يقول المفكر الأمريكي نعوم تشومسكي: ''من مسؤولية المثقفين أن يقولوا الحقيقة ويفضحوا الأكاذيب''، لأن السياسي يعمل على تزييف الواقع، وتحريف الحقائق وسلعته في ذلك الأكاذيب التي يسوقها عن منجزاته من ثوراته التنموية، إلى التقدم الحاصل في كل المجالات، إلى سعيه الدؤوب في بناء صرح ديمقراطي يحتذي به الصديق والعدو معا· لا بد أن نفتح قوسا هنا، ونشير إلى أن التغيير الذي يحدث عن طريق الثورة الشعبية، ويكون المثقف بعيداً أو مغيباً عنه سيكون مآله الفشل، وفي أحسن الأحوال ناقصاً، حيث تتعرّض الثورة للسرقة من طرف السياسي الانتهازي أو يقوم العسكري بسد الفراغ بدعوى الحفاظ على الجمهورية أو إنقاذ مكاسب الثورة، كما حدث في انتفاضة الشباب الجزائري في 5 أكتوبر 1988، ويحدث الآن لثورة الياسمين في تونس، بخلاف الانتفاضة المصرية التي انطلقت هذه الأيام، لها نخب مثقفة تقودها وتؤطرها من شخصيات سياسية وفكرية وفنية مثل محمد البرادعي وإبراهيم عيسى وأيمن نور وخالد يوسف·· إلى حركات وجمعيات وأحزاب مثل حركة ''كفاية'' والجمعية الوطنية للتغيير وحزب الوسط·· مما يجعل المثقف يشارك عن قرب في إرشاد الجماهير وتوجيهها، ويعمل على المحافظة على مكاسب الانتفاضة إن حققت أهدافها، وصياغة المرحلة المستقبلية بما يحقق طموحات الجماهير وأشواقها· إذن، هناك ثلاثة أطراف، الشعب، المثقف والسياسي، فالسياسي يملك قوة السلطة وإغراء المال، في حين المثقف يمتلك أداة التغيير وهي الأفكار. أما الشعب، فهو الذي يُحدث التغيير، والعنصر الأقوى في هذه الأطراف كما تبيّن الانتفاضات والثورات هو الشعب، فعلى المثقف باعتباره ناقل الرسالة وناشر الوعي أن يختار بين الوقوف في صف الشعب فيكافح ويناضل من أجله، وهذا ما يمليه عليه ضميره كمثقف صادق مع شعبه ملتزما بقضاياه، مما يوقعه حتماً في مواجهة قوة السلطة السياسية أو التمترس إلى جانب السلطة، أي الوقوف ضد طموحات الجماهير وتطلعاتها، وهذا ما يطلق عليه بالمثقف اللامبالي· في الأخير، إن المثقف اللامبالي بهموم الناس وواقعهم، وغير ملتزم بقضاياهم ومشكلاتهم، حيث أغوته سلطة المال وانحاز إلى قوة السلطة، سيكون مصيره كمصير أبي الطيب المتنبي الذي سَخر موهبته الشعرية ومنتوجه الثقافي في مدح الملوك والأمراء من أجل أن يحظى بإمارة أو يتولى ولاية، إلا أن قُربانه هذا لم يوصله إلى ما يريد، وتخطفه الموت وحيداً في فيافي الصحراء، فاعتبروا يا أهل الثقافة·