وزير الداخلية خلال تنصيبه للولاة: الحركة الجزئية تهدف إلى إضفاء ديناميكية جديدة    وثائقي من إنتاج مديرية الإعلام والاتصال لأركان الجيش: الجزائر الجديدة.. إنجازات ضخمة ومشاريع كبرى    مع انطلاق حملة مكافحة الحرائق: منع التخييم والتجول بالغابات بداية من الأربعاء بقسنطينة    خنشلة: توقيف 12 شخصا في قضايا مختلفة    عطاف يُستقبل بالرياض من قبل رئيس دولة فلسطين    صراع أوروبي على عمورة    حوادث المرور: وفاة 4 أشخاص بتيبازة وتيزي وزو    لأول مرة في تاريخ القضاء الجزائري: رئيس الجمهورية يمنح قضاة المتقاعدين لقب "القاضي الشرفي"    إياب نصف نهائي كأس الكونفدرالية: الاتحاد متمسك بموقفه وينتظر إنصافه بقوة القانون    بطولة الرابطة الثانية    كشف عنها وزير المالية وسجلتها المؤسسات المالية الدولية: مؤشرات خضراء للاقتصاد الوطني    رفض الكيل بمكيالين وتبرير الجرائم: قوجيل يشجب تقاعس المجتمع الدولي تجاه القضية الفلسطينية    وزير المجاهدين و ذوي الحقوق من جيجل: معركة السطارة من بين المعارك التي خلدها التاريخ    الإقبال على مشاهدته فاق التوقعات    لا صفقة لتبادل الأسرى دون الشروط الثلاثة الأساسية    10 % من ذخائر الاحتلال على غزّة لم تنفجر    التسجيل الإلكتروني في الأولى ابتدائي في 2 ماي المقبل    استئناف أشغال إنجاز 250 مسكن "عدل" بالرغاية    مباشرة إجراءات إنجاز مشروع لإنتاج الحليب المجفف    الجولة 24 من الرابطة المحترفة الأولى "موبيليس": تعادل منطقي في داربي الشرق بين أبناء الهضاب وأبناء الزيبان بين والساورة تمطر شباك اتحاد سوف بسداسية كاملة    البنوك تخفّض نسبة الفائدة على القروض قريبا    الفريق أول السعيد شنقريحة : "القيادة العليا للجيش تولي اهتماما كبيرا للاعتناء بمعنويات المستخدمين"    الرئيس تبون يمنح لقب "القاضي الشرفي" لبعض القضاة المتقاعدين    بسكرة: ضبط ممنوعات وتوقيف 4 أشخاص    مظاهرات الجامعات يمكن البناء عليها لتغيير الموقف الأمريكي مستقبلا    نطق الشهادتين في أحد مساجد العاصمة: بسبب فلسطين.. مدرب مولودية الجزائر يعلن اعتناقه الإسلام    رياض محرز ينتقد التحكيم ويعترف بتراجع مستواه    بيولي يصدم بن ناصر بهذا التصريح ويحدد مستقبله    لحوم الإبل غنية بالألياف والمعادن والفيتامينات    حساسية تجاه الصوت وشعور مستمر بالقلق    هدم 11 كشكا منجزا بطريقة عشوائية    دورة تكوينية جهوية في منصة التعليم عن بعد    إنجاز جداريات تزيينية بوهران    15 ماي آخر أجل لاستقبال الأفلام المرشحة    أكتب لأعيش    الاتحاد لن يتنازل عن سيادة الجزائر    لو عرفوه ما أساؤوا إليه..!؟    استفادة كل ولاية من 5 هياكل صحية على الأقل منذ 2021    العدوان الصهيوني على غزة: سبعة شهداء جراء قصف الاحتلال لشمال شرق رفح    وزير النقل : 10 مليار دينار لتعزيز السلامة والأمن وتحسين الخدمات بالمطارات    جيدو /البطولة الافريقية فردي- اكابر : الجزائر تضيف ثلاث ميداليات الي رصيدها    محسن يتكفل بتموين مستشفى علي منجلي بخزان للأوكسيجين بقسنطينة    ندوة وطنية في الأيام المقبلة لضبط العمليات المرتبطة بامتحاني التعليم المتوسط والبكالوريا    غزة: احتجاجات في جامعات أوروبية تنديدا بالعدوان الصهيوني    الطبعة الأولى لمهرجان الجزائر للرياضات: مضمار الرياضات الحضرية يستقطب الشباب في باب الزوار    استثمار: البنوك ستخفض قريبا معدلات الفائدة    شهد إقبالا واسعا من مختلف الفئات العمرية: فلسطين ضيفة شرف المهرجان الوطني للفلك الجماهيري بقسنطينة    رئيس لجنة "ذاكرة العالم" في منظمة اليونسكو أحمد بن زليخة: رقمنة التراث ضرورية لمواجهة هيمنة الغرب التكنولوجية    نحو إعادة مسح الأراضي عبر الوطن    تجاوز عددها 140 مقبرة : جيش الاحتلال دفن مئات الشهداء في مقابر جماعية بغزة    ندوة ثقافية إيطالية بعنوان : "130 سنة من السينما الإيطالية بعيون النقاد"    مهرجان الفيلم المتوسطي بعنابة: الفيلم الفلسطيني القصير "سوكرانيا 59" يثير مشاعر الجمهور    منظمة الصحة العالمية ترصد إفراطا في استخدام المضادات الحيوية بين مرضى "كوفيد-19"    حج 2024 : استئناف اليوم الجمعة عملية حجز التذاكر للحجاج المسافرين مع الديوان الوطني للحج والعمرة    أهمية العمل وإتقانه في الإسلام    مدرب مولودية الجزائر باتريس يسلم    حج 2024 :استئناف اليوم الجمعة عملية حجز التذاكر للحجاج المسافرين مع الديوان الوطني للحج والعمرة    دروس من قصة نبي الله أيوب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بعد سنة الربيع العربي الأولى.. عودة لإشكاليات الفهم والتأويل
نشر في الجزائر نيوز يوم 19 - 03 - 2012

لقد كسرت الأحداث الأخيرة الرتابة التي كان يتأمل بها المثقف العربي عالمه، هذا العالم الذي بدا لفترة طويلة مستثنا من إمكانيات التغيير التي قد تحمل له التحديث والدمقرطة، حيث بدا المثقف العربي في الكثير من الأحيان على شاشات الفضائيات وصفحات الجرائد عاجزا عن مجارات الواقع وعن تحليله، مكررا الخطاب السطحي الذي تشجعه بعض وسائل الإعلام وصامتا في كثير من الأحيان صمتا غير حكيم ولا بريء، دون محاولة - لأن أي فكر يبقى أمرا لاحقا للفعل بعد تمامه، متوفرا على الشرط الأساسي لتكوّنه وهو المسافة الزمنية عنه - جادة للبحث عن جواب مؤسس للسؤال الأهم: ما الذي يحدث تحديدا؟
يشير هيغل في تفسيره للثورة الفرنسية إلى ثلاث مراحل قد تنطبق على كثير من الأنظمة وهي: الوضع، فالنفي فالتركيب، ويكون بذلك وضع ما مبررا في فترة تاريخية ما، كالأنظمة السياسية التي قامت في البلدان العربية بعد استقلالها، وعندما ينتشر النفي العام لهذا النظام نكون قد مررنا إلى المرحلة الثانية، ومنها إلى المرحلة الثالثة إذا آل هذا النفي إلى هدم حقيقي لهذا النظام وتركيب نظام جديد.
استنادا إلى هذا، هل يمكن أن تمثل الأحداث الأخيرة في العالم العربي مرحلة نفي ممنهجة وحقيقية للوضع القائم؟ أم ستُحقق بعض مطالب الشعوب في صيغة أخرى من الاستبداد؟ وإلى أي مدى كانت تطورات التاريخ العربي المعاصر تنبئ بهذا النفي الشعبي العام؟ وهل سنلتحق إذا اكتمل هذا النفي بنهاية العالم، بتعبير فوكوياما، بالتبني الكلي والنهائي للنظام الليبرالي أم سترسم الأحزاب الإسلامية وما بقي من اليسار ملامح لنظام مختلف؟
نحاول أن نقرأ إجابات لهذه الأسئلة وأخرى من خلال كتاب سمير أمين ''العالم العربي في المنظور الزمني الواسع، ربيع للشعوب؟'' الصادر باللغة الفرنسية في أكتوبر الماضي عن دار ''أبيك للنشر والترجمة''، ومن خلال ما قدمته مجلة نقد للدراسات والنقد الاجتماعي في عددها التاسع والعشرين الصادر قبل أسابيع بعنوان ''التحدي الديمقراطي''.
الأطر والمفاهيم
يتجاوز المفكر اليساري وأستاذ الاقتصاد السياسي سمير أمين، ما يثيره بعض المثقفين في العالم العربي من أسئلة من قبيل هل نحن بصدد ثورة حقيقية أم أن عمق الإصلاحات الثقافية والسياسية والاجتماعية للانتفاضات الشعبية لم تصل إلى حد تسميتها بالثورة؟ حيث يباشر ومنذ الصفحات الأولى للفصل الأول: ''2011 الربيع العربي؟'' الحديث عن ''الصحوة العربية''، ''الثورات العربية''، مؤكدا أن الأمر يتجاوز مجرد انتفاضة شعبية. ويضع الانتفاضات الأخيرة في العالم العربي ضمن الانتفاضات التي يعيشها ما يسميه ماوتسي تونغ -حسبه- ب ''مناطق الأعاصير'' أو ما دأبت على تسميته مجلة نقد بالجنوب الموسع - يبدو المفهومان قريبان من بعضهما على الأقل جغرافيا - وهي المناطق التي يعيش فيها 85 بالمائة من تعداد سكان العالم ولا يمكن للرأسمالية أن تهدي سكانها أي شيء، وهي المناطق ذاتها -حسب ماو دائما- التي ستعرف ثورات دائمة قصد تجاوز النظام الرأسمالي.
تحاول نهلة شهال الباحثة في علم الاجتماع السياسي، الإجابة على نفس السؤال ببحث ما تقول إنه الديناميكيات المشتركة لما نعيشه الآن في هذه المنطقة في مقالها: ''لماذا يمكننا الحديث عن ثورات في العالم العربي؟''، حيث تكتب في الصفحة 64: ''سيكون من الخطأ ومن غير العدل تماما أن نقلل من شأن ما يحدث وأن ننفي عنه صفة الثوري والشعبي الأصيل والعميق، وأن نفسره وفقا ل /المخططات الغربية/ التي تتحكم في هذه الأحداث وتهدف إلى تغيير صيغ هيمنتها أو إلى حد إقامة سايكس بيكو جديدة'' .
إن إطلاق صفة الثورات أو الانتفاضات على الأحداث الجارية -حسب الكاتبة- لا يتوقف فقط على التعريفات النظرية لهذه المصطلحات، فطبقا لهذه التعاريف فإن الأحداث الأخيرة لا تحمل مشروعا مكتملا وشاملا لنسميها ثورات، لكنها في الوقت نفسه قد مست أعصاب البنيات المتسلطة متجاوزة بذلك الرغبة البسيطة في زعزعة النظام السياسي فقط أو استبدال رموزه. إن تحرير جنوب لبنان سنة 2000 والفشل الإسرائيلي صيف 2006 - تضيف الكاتبة - كان لهما الأثر الكبير في محو ما حاولت الأنظمة بإرادة صلبة وعمل دؤوب زرعه في أوساط شعوبها من إحساس عميق بالعجز وبفقدان الأمل واحتقار للذات .
وإذا كان هذا التجاوز الذي تحدث عنه سمير أمين سيكون قطعيا نحو اشتراكية جديدة، فإنه لا يبدو كذلك لمحمد مواقيت الأستاذ بكلية العلوم الاقتصادية والاجتماعية بالدار البيضاء في مقاله ''العالم العربي والمغاربي بين خروج من التسلط والاستبداد ودخول إلى الديمقراطية'': بإن التجارب السياسية في القرن العشرين قد أثبتت أن تحقق مثال الحرية على خلاف نمط الديمقراطية الليبرالية قد واجه الفشل والانحراف إلى الشمولية أو الدكتاتورية، إن مآلات الأنظمة المستبدة والمتسلطة مستقبلا في العالم العربي والمغاربي والإسلامي تبدو محصورة في البديل المثالي للديمقراطية الليبرالية، بديل قابل للكمال''. يعالج محمد مواقيت بسلاسة نقاطا كثيرة تتعلق بالانتفاضات العربية منتقلا بين مستويين، مستوى نظري يتعلق أساسا بنقد نزعة العلوم الاجتماعية والإنسانية إلى صنع قوانين ثابتة ونهائية لكل ما هو إنساني، هذه النزعة التي أسقطت احتمالات معينة من مآلات بعض المجتمعات كالمجتمعات العربية، وينتقل إلى ''البنية التحتية''، مؤكدا على فكرة أساسية، يكتب في الصفحة 25 من المجلة: ''... وإذ نهتم بهذه الأحداث بإرجاعها إلى أسباب اقتصادية واجتماعية (أزمة عالمية، بطالة الشباب...) دون إدراج السبب الأخلاقي المرتبط برفض أسلوب حكم ونظام الاستعباد السياسي، فلن يكون هذا كافيا في أقل تقدير. إن وحدة هذه الأحداث تكمن بالتحديد في اللاشرعية الأخلاقية المباشرة للطبيعة الاستبدادية والتسلطية للأنظمة المقامة''·
هكذا يتفق أغلب المثقفين، إن لم يكن كلهم، حول وجوب بلوغ الديمقراطية ويختلفون حول شكل هذه الديمقراطية والنظام الاقتصادي والاجتماعي الذي يجب أن يصحبها. يحاول آلان بروسا أستاذ الفلسفة في جامعة باريس الثامنة، فحص مفهوم الديمقراطية الغربية، في مقاله ''أسطورة الديمقراطية'' حيث يَفصل منذ الفقرات الأولى بين ''الإيدولوجيا الديمقراطية'' و''الديمقراطية الحقيقي''، يكتب في الصفحة 19 من المجلة: ''إن الإيديولوجيا الديمقراطية تبدأ تحديدا من محاولة المفكرين الليبراليين - بالمعنى الأنجلو ساكسوني للمصطلح - الأكثر انتباها، إقناعنا بأن الديمقراطية تحتفظ بهذا الخط المفرد الذي طالما ميزها، احتفاظها دائما بهذا الزائد غير القابل للحساب من النفوس المثالية أخلاقيا، التي تبقى غير قابلة للاختزال في نقائص الديمقراطية الحقيقية والمؤسسات الديمقراطية (مصدر الخيبات وانعدام المحبة بالنسبة للعامة)، إن هذا الزائد يعمل دائما كعنصر محرك لآمال ولبرنامج الديمقراطية..''· ويمضي بروسا في شرحه مبينا أن الديمقراطية الغربية التي تستعصي على التعريف أو على الوصف، دائما ما تُعرف من خلال علاقة مع آخر ضعيف أو مذنب -الدكتاتوريات العربية على سبيل المثال التي سرعان ما وظفها الخطاب السياسي الغربي - من هنا لا تُبنى العلاقة مع هذا الآخر على أساس أخلاقي أو قيمي، بل لا يكون لوجود الآخر هنا إلا دور واحد هو تفعيل، تقوية، شد وتكثيف علاقة الحاكم بالمحكوم. هكذا يبين آلان بروسا كيف أصبحت الديمقراطية أسطورة في الغرب لا علاقة لها بالديمقراطية كفكرة، تحمل قيما مؤسِسة لكل إنساني، وذات قدرة أيضا غير محدودة للتصحيح ولإعادة الشرعية لكل ما يُلحق بها من قيم ومفاهيم.
في السياق نفسه يناقش سمير أمين علاقة الديموقراطية بالنظام الرأسمالي، يكتب في الصفحة 146: ''إن الإيديولوجيا المسيطرة اليوم تجمع دائما الديموقراطية وحرية الأسواق -التي تعني في الحقيقة الرأسمالية-، وتقدمهما على أنهما غير قابلين للفصل..'' ويؤكد على أن التقدم الذي عاشته الديموقراطية قد صنعته نضالات الشعوب في كل مرة: ''.. إني أؤكد على ضرورة مساهمة الشعوب العربية في خلق ديموقراطية الغد الاشتراكية، الجواب الوحيد للتحدي القائم''·
أشكال التحوّلات ومآلاتها
إن محاولة وعي الواقع وفهمه وتوقع مآلاته تحيلنا حتما إلى وعي التاريخ، حيث لا يصير الأخير مجرد تتابع للأحداث ولا يصير المؤرخ مجرد راوٍ لها بل قارئا لمنطقها، لهذا كان من المفترض أن يكون للمؤرخين للتاريخ العربي مكانة خاصة في تحليل وفحص الواقع. وإن لم يكن للمؤرخين هذه المكانة فإن استرجاعا بعديا للتاريخ قد يفسر الكثير من الأحداث الحالية. يكتب محمد مواقيت في الصفحة 26 من مجلة نقد: ''لم تشهد أي لحظة من تاريخ العالم العربي والمغاربي هذا الطموح للتحرر من العبودية والاستبداد وتسلط الحكام، ولم يكن أبدا التعبير عنها بهذه القوة ولم تكن شرعية الشعب والديمقراطية والحرية بمثل هذا الوضوح. مع هذا فإنه من الواضح أن هذه الأحداث لم تنشأ من ظرفية حاضر عاجل وبلا عمق..''.
يحاول سمير أمين بعد فحص الحالة المصرية كمثال في الفصل الأول، إعادة تشكيل الأحداث منذ العصور الأولى مرورا بالدولة المملوكية إلى ,2011 نقرأ في نهاية الفصل الأول ص 42: ''.. هل بإمكان القوى الديمقراطية التي صنع تدخلها هذا الربيع أن تعطي أجوبة بحجم التحديات التي نعيشها؟ لقد سبق وأن قلت إنه للتقدم نحو إجابة - إيجابية أو سلبية - لهذا السؤال كان يجب علينا العودة إلى قراءة التاريخ العربي المعتبر ضمن المنظور الزمني الواسع، وهو ما سيكون مادة للفصول القادمة''.
يحاول سمير أمين، انطلاقا من تحليل طويل للتاريخ، شرح شكل التحوّل الذي يعيشه العالم العربي ومآله، مركزا في الفصل الثاني ''الشرق الأوسط في النظام العالمي القديم: مركز للعبور والتوزيع'' على فكرة أساسية، وهي مكانة الشرق الأوسط - المفهوم الذي أصبح يعني تقريبا العالم العربي فقط - في النظام العالمي القديم، يكتب في الصفحة 47: ''إن المنطقة أ -الشرق الأوسط- لم تختزل أبدا في دول المشرق العربي وحدها، بل ضمت دائما إيران وما وراءها آسيا الوسطى من جهة، ومن جهة أخرى دول الإمبراطورية البيزنطية.. (··) لقد وُجدت المنطقة أ حتى قبل أسلمتها أو تعريبها الجزئي. إن وجودها يرجع إلى الهيلينية التي طبعتها بعد غزو ألكسندر لها، الذي دون أن يضمها لبعضها، ربط بشكل وثيق مراكزها الأكثر قدما في الحضارات السالفة (مصر، سوريا، بلاد ما بين النهرين، إيران واليونان)، هذه المنطقة كانت تشغل قبل هذا دور مركز للعبور والتوزيع، حافظت عليه بعدها حتى سنة 1500 ميلاديةب، بذلك فإن العالم العربي لم يعرف أبدا ركودا كليا· يعرض سمير أمين وهو يبين هذا، حركة صعود وهبوط القوى التي ساهمت في تطور النظام العالمي القديم أو ما قبل الحديث، مركزا على الصين وأوروبا، الأخيرة التي لم تتدخل في تطور النظام العالمي إلا بعد سنة 1000 م - حتى هذا التاريخ لم تكن أوروبا إلا هامشا خاليا من المدن متأخرا وهمجيا حسب الكاتب - وكانت كل مبادلاتها مع الصين تمر بالعالم العربي إلى أن وجدت طريق منغوليا. هذا النظام الذي انتهى إلى رأسمالية جديدة سنة 1500م، أصبح يحمل مفهوم هيمنة جديد ليس سياسيا إيديولوجيا بل اقتصاديا. هذا المفهوم الذي جعل الولايات المتحدة الأمريكية ترسم كل استراتيجياتها في المنطقة أ وفي بقية العالم كي تحكم العالم، على حد تعبير الكاتب.
إن أحد أهم الأسئلة التي تتعلق بمآلات الربيع العربي، خاصة بعد فوز الإسلاميين في انتخابات تونس ومصر -بغض النظر عما تفعله الولايات المتحدة وأوروبا ثم دول الخليج من افتعال للأحداث أو توجيه لها - هو الإسلام السياسي ودوره في التغيير الذي يعيشه العالم العربي؟
يشرح سمير أمين في الفصل الثالث ''الانحطاط: الدولة المملوكية، إجهاض النهضة والإسلام السياسي'' كيف وصلت المنطقة أ إلى الانحطاط بتضييعها لتنوعها وغناها، هذا الانحطاط كان قد بدأ حتى قبل غزو العرب للمنطقة وانتشار الإسلام فيها، ولم تكن تاريخيا -حسبه دائما- الدولة المملوكية والنهضة في القرن التاسع عشر إلا ردود فعل على هذا الانحطاط، أما الإسلام السياسي فلا يعدو أن يكون رد فعل - ليس على الخطاب العلماني كما يقال دائما للأسف حسب الكاتب- على الفراغ الذي خلفه فشل التجارب السابقة له، لا فعلا مؤسسا وواعيا في حد ذاته. إن الإسلام السياسي ليس إلا شكلا من أشكال الخضوع للرأسمالية التجارية، لهذا يكتب صفحة 118 ''فإنه ليس من الصدفة أن تكون الحركات السياسية الإسلامية المدانة بلا هوادة من طرف قوى مجموعة السبعة G7 ، هي بالضبط تلك الحركات التي تنخرط -بعلاقات محلية موضوعية- في نضالات ضد الإمبريالية، وهي حزب الله في لبنان وحماس في فلسطين''· لكن للأسف الشديد اإلى غاية يومنا هذا - صفحة 104 - فإن المجتمعات العربية ليست مجهزة بالشكل الكافي كي تعي بأن العلمانية ليست خصوصية غربية لكنها شرط للحداثة''·
الجزائر·· الاستثناء أم المثال؟
إن الوقوف ضد إفراغ الربيع العربي من مفهومه الذي لم يتشكل كليا بعد، أو ملئه بما لم يبلغه بعد أيضا، يعد أهم تحديات النخب التي كانت أغلبها خارج إطار الأحداث مشاركة أو قيادة.
قد تكون محاولة سحب نموذج واحد للتغيير وتعميمه على كل الدول العربية والحث على بلوغه من أهم أخطاء بعض النخب ووسائل الإعلام في المرحلة التاريخية التي نعيشها، هذه المحاولة -التي تغذيها كثير من الأطراف علّ أهمها قناة الجزيرة التابعة لقطر التي طالما عبّرت عن معارضتها للإمبريالية التي تحوّلت في وقت قياسي إلى طرف في الصراع مع حلف شمال الأطلسي ضد نظام معمر القذافي- تغفل عن قصد اختلاف أنظمة الحكم وتفاوت التجربة السياسية في بعض الدول العربية في الثلاثين أو أربعين سنة الأخيرة.
إن المتأمل للخارطة السياسية العربية لا يمكنه إلا أن يقف طويلا عند التجربة السياسية الجزائرية العصية على الفهم والتفكيك التي تتوفر على عناصر قد تجعلها إما استثناء لا يخضع كليا لتدابير الربيع العربي أو مثالا ستؤول إليه بعض التجارب الحالية مثل التجربة المصرية، يكتب إيفان إيفيكوفيتش أستاذ السياسات المقارنة في الجامعة الأمريكية بالقاهرة في مقاله ''ربيع 2011 المصري'' صفحة 68: ''ويبدو في رأيي أن النموذج الجزائري مع الخصوصيات المصرية وبعض التعديلات، هو الأكثر حظا للبروز... يبقى على العسكر مسألة إيجاد بوتفليقة مصري''.
لقد أخذ السؤال الأمني في الجزائر يفل ويتراجع على حساب هاجس التنمية ومعالجة مشاكل تراكمت أو انفجرت في العشرية السوداء وذلك منذ نهاية فترة رئاسة اليامين زروال (أحد الرؤساء المعدودين في العالم العربي الذين استقالوا من منصبهم)، رافقت هذه الفترة انعدام الممارسة السياسية، القضاء على المعارضة، وإجهاض مشروع نخبة جزائرية متماسكة تنتج خطابا معرفيا نقديا وتتخذ من السلطة مسافة ثابتة (هجرة الجامعيين الجزائريين التي ازدادت معدلاتها في التسعينيات، إنهاء الإنتاج الجامعي من خلال تمييع الوسط الجامعي وذلك عبر بناء أقطاب جامعية مغلقة خارج المدن واستقبال أعداد طلبة لا تحتملها هيئة التدريس وتوسيع الأخيرة بشكل فوضوي...)، هذا دون أن نغفل التحولات الاقتصادية والسوسيولوجية السريعة للمجتمع الجزائري (ارتفاع نسب الفقر، تكوّن طبقة من أغنياء الأزمة والتحوّل، اختفاء الطبقة الوسطى، تضخم المدن...)، لقد أنتجت هذه الظروف وغيرها مجتمعا دون مؤسسات ودون نخب فكرية أو جامعية أو سياسية حقيقية وبأغلبية شابة منقطعة عن السياسة ممارسة أو متابعة.
في هذا الجو الداخلي، وفي ظل المناخ العربي التغييري أو الإصلاحي العام الضاغط، ترى ما الذي قد تفضي إليه الحالة الجزائرية؟ تغيير أم إصلاح؟ تغيير - على شاكلة ما حدث في بعض الدول العربية - مررنا به في الجزائر وتجاوزناه على حسب الكثيرين؟ أم إصلاح - في ظل غياب كلي للبدائل - هو أقرب للتحقيق لكن قنواته تبدو مفقودة أو غير موثوقة إن وجدت.
للموضوع إحالات


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.