أيام قبل فصل الصيف : رفع العجلات المطاطية والقضاء على الأحراش بغابات عنابة    كما عقد لقاء مع ممثلي المجتمع المدني : وزير الداخلية يقف على مدى تنفيذ البرنامج التكميلي بخنشلة    أولاد جلال : حجز 72 كلغ من اللحوم غير صالحة للاستهلاك    قوات الاحتلال تحتل كامل معبر رفح البري ما أدى إلى توقف دخول المساعدات إلى غزة    انطلاق امتحان اثبات المستوى للمتعلمين عن بعد في مرحلتي التعليم المتوسط والثانوي    شهر التراث: أبواب مفتوحة على مخبر صيانة وترميم التراث الثقافي بمتحف الباردو    حج 2024:بلمهدي يدعو أعضاء بعثة الحج إلى التنسيق لإنجاح الموسم    الجزائر- تركيا: انعقاد الدورة ال12 للجنة المشتركة للتعاون الاقتصادي غدا الأربعاء    وكالة "النفط" و"ايكينور" النرويجية يوقعان اتفاقية من أجل دراسة الامكانات الجزائرية في المحروقات    القمة الإفريقية حول الأسمدة وصحة التربة بنيروبي: تبون يبرز الدور الريادي للجزائر في مجال الأسمدة    رئيس الجمهورية يترأس اجتماعا لمجلس الوزراء    كرة القدم/ذهاب نهائي رابطة ابطال افريقيا: تعيين الجزائري غربال لإدارة مباراة الترجي التونسي والأهلي المصري    زعماء المقاومة الشعبية ضد الاستعمار كانوا متحكمين في فنون الحرب    رئيس الجمهورية: ملف الذاكرة لا يقبل التنازل والمساومة وسيبقى في صميم انشغالاتنا        مجزرة كُبرى تتربّص بِرَفَح    القادسية السعودي يدخل سباق التعاقد مع المدرب البرتغالي جوزيه مورينيو    تكوين وتعليم مهنيين: تكريم الفائزين في مسابقة شهر رمضان    باتنة: دعوة إلى تسجيل مشروع ترميم متحف الفسيفساء بتيمقاد    هول كرب الميزان    كأس العالم للحمل بالقوة لذوي الاحتياجات الخاصة: دخول ثلاثة جزائريين المنافسة بنية الاقتراب من التأهل للالعاب البرالمبية    أعضاء مجلس الأمن الدولي يجددون التزامهم بدعم عملية سياسية شاملة في ليبيا    بطلب من الجزائر …مجلس الأمن يعقد هذا الثلاثاء جلسة مغلقة حول المقابر الجماعية في غزة    "الجزائر شريك استراتيجي في التعاون الإفريقي: الفرص وآفاق التعزيز" محور ملتقى بالجزائر العاصمة    بن طالب يبرز جهود الدولة في مجال تخفيض مستويات البطالة لدى فئة الشباب    الرابطة الأولى: تعادل اتحاد الجزائر مع شبيبة القبائل (2-2)    بن مبارك يشيد بدور الإعلام الوطني    قوجيل يستقبل رئيس الجمعية الوطنية للكونغو    دعوة إلى تعزيز التعاون في عدّة مجالات    تنصيب مدير عام جديد أشغال العمومية    فيلم فلسطيني يثير مشاعر الجمهور    وزير الاتّصال يكرّم إعلاميين بارزين    ماذا بقي في رفح؟    خطوة كبيرة لتكريس الرقمنة    الجزائر تصنع 70 بالمائة من احتياجاتها الصيدلانية    سطيف: حجز 383 غراما من الكوكايين و11 ألف قرص مهلوس    وزير الداخلية يؤكد من خنشلة: الرئيس يعمل على تغيير الأوضاع وتحصين البلاد    زيدان يحدد موقفه النهائي من تدريب بايرن ميونخ    ضبط كل الإجراءات لضمان التكفل الأمثل بالحجاج    الشهداء الفلسطينيون عنوان للتحرّر    صادرات الجزائر من الإسمنت 747 مليون دولار في 2023    حقوقيون يدعّمون المعتقلين المناهضين للتطبيع    "هولسيم الجزائر" تركب ألواحا شمسة بموقع الإنتاج    تهيئة مباني جامعة وهران المصنفة ضمن التراث المحمي    الإطاحة بمروج المهلوسات    تفكيك خمس عصابات مكونة من 34 فردا    حجز 134 كيلوغرام من اللحوم فاسدة    "نمط إستهلاكي يستهوي الجزائريين    بلبشير يبدي استعداده لتمديد بقائه على رأس الفريق    بيتكوفيتش يأمل في عودة عطال قبل تربص جوان    مدرب سانت جيلواز يثني على عمورة ويدافع عنه    "حصى سيدي أحمد".. عندما تتحوّل الحصى إلى أسطورة    الصناعات الصيدلانية : الإنتاج المحلي يلبي أزيد من 70 بالمائة من الاحتياجات الوطنية    بلمهدي يحثّ على الالتزام بالمرجعية الدينية    الشريعة الإسلامية كانت سباقة أتاحت حرية التعبير    إذا بلغت الآجال منتهاها فإما إلى جنة وإما إلى نار    "الحق من ربك فلا تكن من الممترين"    «إن الحلال بيِّن وإن الحرام بيِّن…»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



سنوات الشاذلي بن جديد : 10 - رئيس وملك...
نشر في الجزائر نيوز يوم 27 - 10 - 2012

عندما دخل مسرح السياسة تحت الأضواء الكاشفة، لم يأخذه معظم المراقبين بعين الجد.. نظروا إليه بنوع من الاندهاش الممزوج بالاستخفاف.. لم تكن شخصيته ذات جاذبية مثل أحمد بن بلة، أو هواري بومدين صاحب نظرات الصقر.. انتظروا نهايته أن تكون وجيزة وسريعة.. بدا بعينيه الحائرتين اللتين تنم عن عدم ثقة في النفس أنه مجرد دمية قد تحركها أشباح تختفي من وراء، لها سلطة الحل والعقد والقدرة الجهنمية والشيطانية على التحريك والتوجيه، وعلى رسم خريطة الطريق الجديد، ومنذ اللحظات الأولى أدرك الشاذلي بن جديد كيف يخفي أفكاره وخططه ويلعب دور الرجل المغفل وصاحب النوايا الطيبة إلى درجة السذاجة بإتقان.. وكان هذا الإتقان للدور فاعليته وسحره في إزاحة العقبات والرجال الأقوياء من على طريقه الذين راحوا يتساقطون بإيقاع متسارع ورهيب بشكل لافت جعل هذا الجزء الغالب من المراقبين يعيدون النظر في قراءاتهم التي بدت بتراء وقصيرة النظر.. لقد كان يقول الشاذلي بن جديد لمقربيه إنه كان يمضي وقتا طويلا في ممارسة لعبة الشطرنج مع هواري بومدين عندما كان يضيق ذرعا بأصحابه ورفاقه في العاصمة ويهرع هاربا إلى الباهية ليتنفس قليلا ويستعيد حيويته ومرحه، وكان الشاذلي يعترف أن بومدين كان دائما يخرج منتصرا عليه في لعبة الشطرنج، لكن ما لم يقله الشاذلي بشكل صريح أنه في أعماقه كان يؤمن أنه هو اللاعب الأقوى، واللاعب المنتصر على الأرض في نهاية المطاف، والدليل أن انخراطه في عملية التخلص من التركة البومدينية كان ينظر إليها ليس على أساس الانقلاب على سياسة هواري بومدين وبالتالي خيانته، بل من منطلق إصلاح أخطاء بومدين وتجاوزها، ولقد شعر الشاذلي ببداية النشوة في ولايته الأولى عندما تمكن من إزاحة وزير خارجية بومدين عبد العزيز بوتفليقة الذي كان يرى أنه الأولى في الشاذلي بن جديد لقيادة الجزائر فهو رجل ذكي، وصاحب سمعة دولية وعلاقات وطيدة ومتشابكة مع زعماء العالم، وأنه المؤهل في منافسة هواري بومدين كارزماتيته على صعيد قيادة إفريقيا والعالم العربي، وبالرغم أن الشاذلي بن جديد لم يكن يفكر في أول وهلة التخلص من بوتفليقة بل كان يفكر أن يوليه منصب وزير مستشار، إلا أن إصرار بوتفليقة على اعتداده بنفسه وشعوره بنزعة التفوق جعلته يذهب بعيدا في التخلص من الرجال الذين كانوا يظنون أنهم أقرب منه إلى بومدين، وكان الحلم الذي يراود الشاذلي بن جديد ويدفعه إلى رفع التحدي، هو التفوق على بومدين نفسه حيث تعثر وأخفق في مسألة التطبيع مع المغرب... وكان هواري بومدين الذي دخل في صراع مرير مع ملك المغرب الحسن الثاني حول قضية الصحراء الغربية مشغولا بهذا الأمر، وذلك عندما سادت العلاقة بينه وبين ملك المغرب بحيث راح البعض ينظر إليها كعلاقة حقد وكراهية بين حاكمين، وحدث أكثر من مرة عندما كان هواري بومدين يجتمع مع ما تبقى من رفاقه في مجلس الثورة، أن يطرح مدى استعداد الجيش وقوته في الدخول في مواجهة عسكرية مع المغرب.. وكان بومدين يزداد ضيقا عندما لا يجد ذلك التجاوب القوي من طرف رفاقه حيث كان يرين الصمت والسكون، ويبدو التردد واضحا على وجوههم وفي كلماتهم، وتجرأ الشاذلي في أحد هذه الاجتماعات ليصارح بومدين باعتباره قائد الناحية العسكرية الغربية أن قدرات الجيش لخوض مثل هذه المعركة يعد مغامرة وخيمة العواقب، وعندما أراد بومدين أن يستفسر ويفهم أكثر صارحه الشاذلي بالحقيقة المُرة “إننا يا سيد الرئيس غير مهيئين فنيا" وعندئذ استشاط بومدين غاضبا، وقال وعيناه تكادان تخرجان من محجريهما “ماعنديش رجال، ماعنديش رجال" لكن الشاذلي بن جديد ظل مصرا على موقفه، لأنه لم يرد كما قال أكثر من مرة لم فاتحته في الموضوع “أنه لم يرد أن يضلل الرئيس" ثم قال بومدين مخاطبا الشاذلي وهو يشعر بنوع من الضيق والكرب “مارانيش عليك يا الشاذلي مارانيش عليك" وعند تلقي بومدين ضربة قاسية في معركة امڤالا الأولى التي زجّ بها ببعض شباب الخدمة الوطنية ازدادت شكوك بومدين، وكادت تلك الثقة التي كانت تملأ نفسه أن تنهار لكنه تذكر ما قاله الشاذلي حول استعدادات وقدرات الجيش الجزائري الذي كان في حاجة إلى إعادة تنظيم وتأهيل على المستوى الفني.. ولقد عرف الشاذلي كيف يستعيد ثقة هواري بومدين عندما رد الصاع صاعين في معركة أمڤالا الثانية التي أقنعت كل من ملك المغرب والرئيس الجزائري هواري بومدين أن الحل هو ليس الحرب، بل اللجوء إلى الدبلوماسية كوسيلة وحيدة لإزالة العقبات أمام العلاقة المتوترة بين الجزائر والمغرب.
وبالرغم أن الشاذلي لم يكن معروفا لدى العديد من زعماء العالم، لكنه كان يدري أن ملك المغرب الحسن الثاني يعرفه تمام المعرفة انطلاقا من تقارير الاستخبارات المغربية عن رجل الناحية العسكرية الثانية في الجزائر، لكن أيضا عن مرافقة الشاذلي لهواري بومدين في أكثر من مناسبة لدى زيارة هذا الأخير إلى المغرب، أو إلى لقاءات جمعت بين بومدين والملك في تلمسان، وفي نواكشوط. وفي لقاء مع الشاذلي في 2001، ذكر لي الشاذلي أن مسألة العلاقة مع المغرب كانت تؤرقه منذ بداية الاستقلال عندما هاجمت القوات العسكرية المغربية الأراضي الجزائرية بينما كان هو ضمن وفد في زيارة إلى الصين وذلك بتاريخ 15 أكتوبر 1963، ويومها أطلق أحمد بن بلة صرخته واستغاثته الشهيرة “حڤرونا، حڤرونا" التي جندت الجزائريين من حوله بمختلف توجهاتهم ومشاربهم وجذبت الدعم الصريح لحكومته ضد المغرب من مصر جمال عبد الناصر ومنظمة الوحدة الإفريقية وكوبا فيدال كاسترو، ثم مرورا بوجوده على رأس الناحية العسكرية في منطقة الغرب الجزائري، ويذكر الشاذلي في أكثر من مناسبة أنه نصح هواري بومدين بعد قمتي إيفران وتلمسان اللتين جمعتاه بالملك الحسن الثاني في بداية السبعينيات بالتخلي عن المعارضة المسلحة التي كانت تجد الدعم العسكري والسياسي من طرف حكام الجزائر، بدءا بعهد أحمد بن بلة إلى غاية حكم هواري بومدين، وبالفعل تخلى -كما يقول الشاذلي- هواري بومدين عن دعم المعارضة المغربية بعد أن راحت الغيوم تنجلي في سماء البلدين، كما تم الاتفاق على ترسيم الحدود واستغلال منجم جبيلات من طرف كلا البلدين بعد اعتراف المغرب بأنه أرض جزائرية، لكن الأمل الذي كبر في الوصول إلى لحظة انقشاع حقيقية للغيوم سرعان ما خبا وتلبدت السماء من جديد بالغيوم عندما قام الكولونيل محمد بوعايو في 10 جويلية من العام 1971 بانقلاب فاشل ضد العاهل المغربي الحسن الثاني، واتجهت الأنظار المشكاكة نحو نظام هواري بومدين، لتلي هذه المحاولة محاولة أخرى أشد خطورة وهذه المرة من الرجل القوي المقرب من الحسن الثاني الجنرال أوفقير والذي كانت تربطه بالضباط الجزائريين الوافدين من الجيش الفرنسي في فترة حرب التحرير الجزائرية الذين فتح لهم هواري بومدين الأبواب واسعة على رأسها المؤسسة العسكرية بعد الاستقلال، علاقات صداقة وطيدة، وذلك بالرغم من أن هواري بومدين كشف للحسن الثاني عن تعاطفه في محنته وكشف عن حسن نواياه في عدم استغلال تلك الفترات الحرجة والصعبة التي كان يمر بها ملك المغرب لصالحه، ثم كانت النقطة التي أفاضت الكأس عندما اكتشف هواري بومدين أن ثمة اتفاقا سريا تم بين الرئيس الموريطاني ولد دادة الذي بذل من أجله بومدين جهودا معتبرة لأن يكف الحسن الثاني عن أطماعه في موريطانيا، والملك الحسن الثاني وذلك من أجل اقتسام الإقليم الصحراوي، وهنا اتخذ بومدين طريقا راديكاليا في دعم البوليزاريو، بل وقف إلى جانب المعارضة الموريطانية إلى حد بعيد للإطاحة بولد دادة في جويلية من العام 1978، ولقد عاش الشاذلي بن جديد كل هذه اللحظات الكبرى والتي تجاذبتها قوة السالب والإيجاب وكان يعتبر نفسه من بين القلائل بحكم موقعه العسكري وثقة هواري بومدين فيه المطلعين على تفاصيل هذا الملف الشائك الذي كاد أن يجلب متاعب جمة ومضرة بهواري بومدين، وكان الشاذلي بن جديد على علم، عندما حاول ملك بلجيكا في العام 1978 أن يجمع بين هواري بومدين والملك الحسن الثاني في بروكسل لإيجاد حل يكون في صالح الطرفين، ولما بدا على هواري بومدين التردد، وكان حينها يعاني من مرض مفاجئ سوف يقوده إلى حتفه، جاءته عن طريق وسطاء رسالة من الملك الحسن نفسه، يقول له فيها “إن لم نلتق هذه المرة فسوف لن نلتقي أبدا" ويذكر أب الصناعة الثقيلة في الجزائر والوزير في حكومة هواري بومدين السيد بلعيد عبد السلام “أن بومدين بدا متوترا، وقلقا وهو يتحدث إليه، مرددا مضمون رسالة الملك إليه.. لماذا، لماذا؟ يقول الحسن الثاني، إن لم نلتق هذه المرة فسوف لن نلتقي أبدا. لماذا؟ لماذا يقول لي مثل هذا الكلام؟!" ويتساءل عبد السلام في كتابه “الصدفة والتاريخ" وهو عبارة عن حوار مطول، أجراه معه علي الكنز ومحفوظ ينون، لماذا بدا هواري بومدين مفزوعا من هذا الإلحاح المبطن بالتهديد من قبل الحسن الثاني؟! هل كان يعلم الحسن الثاني أن نهاية هواري بومدين وشيكة ويضيف عبد السلام بلعيد “سيظل ذلك لغزا!؟".
كان الشاذلي بن جديد يعتقد أنه في حاجة إلى الحصول على غنيمة حقيقية يدشن على أساسها مجده السياسي ليس فقط داخليا، بل عربيا ودوليا، ومع من؟! مع زعيم حقيقي، مع ملك تمرس على فن الحكم والدهاء، صاحب مجد وسؤدد واحترام عند كبار العالم، ومن هنا عندما اتجه الشاذلي في بداية الثمانينيات إلى مكة لتأدية مناسك الحج بدعوة من الملك خالد ضمن وفد رسمي هام وكبير، حاول جس النبض وذلك دون أن يكشف عن نواياه وأوراقه، فتجنب بطريقة مسرحية مصافحة ملك المغرب الذي كان هو بدوره يؤدي مناسك الحج، ثم ليستثمر مصافحته وهما في لحظة الطواف لصالحه. ويروي الكاتب الصحفي، والمستشار آنذاك في الرئاسة محي الدين عميمور في كتابه “أنا وهو وهم" لحظة المصافحة فيقول “... ووقفت أغلي غضبا وأنا أتابع تقدم الرئيس نحو سلم الكعبة التي كان بابها مفتوحا والسيد أحمد عبد الوهاب مدير التشريفات الملكية السعودية يقف أسفل السلم ولا يسمح بالصعود إلا للرئيس الشاذلي وحده، ولمحت الملك الحسن الثاني يقف ساكنا وراء المدخل من الجهة اليمنى للناظر وهو يختلس النظر إلى الأسفل ويبدو وكأنه ينتظر أمرا اتضح بمجرد أن وصل الشاذلي في صعوده على السلم الخشبي إلى منتصفه تقريبا، وهناك خرج الملك ثم مد يده للرئيس الذي نظر له بهدوء، وأكمل الصعود ليقف في مواجهته وفي مستواه، وهناك فقط مد يده لمصافحة اليد القلقة الممتدة، ولمعت أضواء العشرات من آلات التصوير.. وإذا كانت المصافحة تمت كما أريد لها من الناحية الميكانيكية فإن العملية لم تنته بعد، من الناحية السياسية، وهكذا وقبل أن نبدأ السعي بين الصفا والمروة همست في أذن الرئيس متسائلا عن تعليماته فيما يتعلق بالاستثمار الإعلامي لما حدث، فأجابني بأنه ليس هناك أي بعد سياسي".. لكن ذلك لم يمنع من استثمار المصافحة على الصفحات الأولى من الجرائد والمجلات العالمية مثل أسبوعية باري ماتش التي أشارت إلى المصافحة “التاريخية" على غلافها الخارجي.. كان الشاذلي يتوق بعد جس النبض القفز إلى دائرة ضوء حقيقية، وكان في انتظار اللحظة التاريخية عندما يحين وقتها، وعندئذ ألقى بكل ثقله لتحقيق مثل هذه القفزة المنتظرة التي طال انتظارها، لما فاتحه سنوات بعد المصافحة التاريخية الأولى خليفة الملك خالد، فهد عبدالعزيز أن يكون وسيطا للانتقال بالعلاقة الجزائرية المغربية من مرحلة الفتور والشكوك إلى مرحلة التطبيع الحقيقي الذي يخدم مصلحة البلدين.. واعتقد الشاذلي بن جديد حينها أن الوقت حان لقطع الوعود القديمة المتمثلة في بناء مغرب عربي كبير موحد.. كان ذلك في العام 1986، وهو عام استم بتحديات كبرى واجهت الشاذلي بن جديد، الانخفاض المخيف لسعر البترول، وامتداد آثار الأزمة الاقتصادية إلى الجزائر بشكل صارخ ومخيف، وتصاعد الاحتجاجات الاجتماعية المنذرة بأيام صعبة وعسيرة، وكانت أحداث قسنطينة إحدى مؤشراتها، بالإضافة إلى اشتداد النزاعات والصراعات بين أجنحة الحكم على صعيد القمة، ولقد استدعى الشاذلي رجاله المقربين وعرض عليهم مثل هذه الخطوة الجريئة الساعية إلى إذابة الجليد بيننا وبين المغرب “لم يجد معارضة من القيادات العسكرية والأمنية، بل وجد تشجيعا خاصة من الرجل الذي أصبح له وزنا مهما في الرئاسة العربي بلخير، كما وجب تشجيعا كبيرا من طرف الرجل الذي كان يثق فيه بشكل كبير، ابن الشيخ بشير الإبراهيمي الدكتور طالب الذي هو الآخر كانت تربطه علاقة وطيدة مع أفراد من القصر الملكي خاصة أخت الملك الحسن الثاني عائشة.. لكن الشاذلي بن جديد الذي بدا متفائلا بهذا اللقاء، كما يقول أحد الدبلوماسيين الذي اشتغل لوقت طويل في ولايات الشاذلي الثلاث، كان قد اكتفى برغبة الملك فهد في عملية التطبيع لكن دون أن يحضر نفسه جيدا لمثل هذا اللقاء الذي كان يريده تاريخيا".. ويضيف هذا الدبلوماسي “طبعا، المبادرة التي كان وراءها ملك العربية السعودية فهد بن عبد العزيز، لم تكن لترى النور، لولا الدعم الأمريكي لها ولولا اقتناع ملك المغرب بأنه سيخرج من هذا اللقاء غانما وكاسبا، ودون أن يخسر شيئا..". وكانت الرأس المدبرة لهذا اللقاء، إطار سام بالمملكة العربية السعودية وهو الشيخ بلمسلم كان ذا ثقافة فرنكفونية، درس بباريس وكانت تربطه بالقصر الملكي علاقة وطيدة وفي ذات الوقت كانت تجمعه بالعربي بلخير صداقة قوية، خاصة وأن هذا الأخير لم يكن يخف عدم مشاركته نظرة هواري بومدين والشاذلي في إدارة ملف العلاقة بين الجزائر والمغرب، فالعربي بلخير كان أقرب إلى الأطروحة المغربية منه إلى الجزائرية، وكان يعتقد “أن وقوف الجزائر المتشدد إلى جانب البوليزاريو لن يخدم المصلحة الاستراتيجية للجزائر في المنطقة". وحسب هذا الدبلوماسي المخضرم فالملك الحسن الثاني، كان يعتقد بشكل جازم أن جزائر الشاذلي بن جديد التي أصبحت تتخلص بشكل سافر من التركة البومدينية سوف تنفض يدها من قضية الصحراء الغربية، وأن الشاذلي بن جديد بالرغم أنه وفيا لبومدين عندما كان هذا الأخير الرجل القوي، لكن الآن سوف يكون بديلا ونقيضا للخط الذي انتهجه سلفه، ومن هنا كان الحسن الثاني يثق في الملك فهد بن عبد العزيز الذي لم يكن يؤمن أصلا بمسألة تقرير المصير للشعب الصحراوي أنه سيقف إلى جانب المغرب، خاصة وأنه كان يقضي أوقاتا طويلة نسبية في المغرب في فترات الاستجمام لدى زوجته القريبة من العائلة الملكية، وهي أصيلة مدينة مراكش.. ولقد توصل الشاذلي الذي كان حذرا إلى حد ما، رغم تفاؤله مع الملك فهد بن عبد العزيز بعد نقاش طويل، أن يكون لقاء القمة بين الملك الحسن الثاني والشاذلي بن جديد على الحدود الجزائرية المغربية، في المنطقة المعروفة ب “زوج بغال"، قبل اللقاء التاريخي بين ملك المغرب والرئيس الجزائري، كان ملك العربية السعودية فهد بن عبد العزيز يقضي أيامه الخمسة عشر بالمغرب، ولقد جاء رفقة الملك الحسن الثاني ووفده من المغرب رأسا إلى الحدود المغربية، وكان وقتها شهر رمضان. وحسب محدثي، فإن فريق الشاذلي بن جديد ومستشاريه قد ارتكبوا حينها أخطاء كبيرة، لا تغتفر فلم يزود الرئيس الشاذلي بن جديد أصلا بخطة لتكون أرضية صلبة للمحادثات، وكان ثمة غياب كلي للمقترحات القائمة على تصور وآليات للتصديق، ولا على تصور للجان المقترحة لمناقشة الخطة وما بعد ما يترتب عن المحادثات.
عندما وصل الشاذلي بن جديد إلى الحدود اكتشف منذ اللحظات الأولى للقاء تهاون وعدم احترافية الطرف الجزائري، وذلك بدءا من اللوجستيك والناحية التنظيمية، فخيمة الملك الحسن الثاني التي كانت على الأرض المغربية كانت ضخمة ومجهزة بكل المستلزمات، بينما كانت خيمة الرئيس الشاذلي بدائية، وغير مجهزة وهي نفس خيمة رجال المطافئ، كما أصيب الشاذلي بن جديد بالإحباط عندما أصاب سيارته الرئاسية عطب اضطره للتوقف والانتظار وهو يهمّ بالعودة إلى وهران لتناول فطور المغرب، كما اكتشف أثناء المحادثات مع ملك المغرب، أن قضية الصحراء الغربية لم يشر إليها ولم تستدرج في جدول الأعمال، لأن ملك المغرب كان ينتظر تنازلا من طرف الشاذلي بن جديد عنها.. وكان كل الحديث يتعلق بمسألة ترسيم الحدود، وكان الشاذلي مضطرا لإثارة قضية الممتلكات الجزائرية التي تم تأميمها بغير حق إثر اعتراف الجزائر بالبوليزاريو، شعر الشاذلي بن جديد أنه اقتيد إلى فخ نصبه اللوبي المغربي، وشعر أنه تعرض لخديعة لم يكن ينتظرها، انتهى اللقاء بفشل ذريع، لكن الطرفين حافظا على سرية الفشل ولم يجد الشاذلي أمام هذا الفشل إلا البحث عن أكباش فداء باعتبارهم المسؤولين على جزء من هذا الفشل، وعندئذ اغتنم العقيد عباس غزيل الذي كان على رأس قسم “الأمن والدفاع" بمؤسسة رئاسة الجمهورية للانتقام من منافسيه داخل الرئاسة، فوضع على مكتب الرئيس الشاذلي بن جديد شريطا مصورا يكشف القصور التقني والتهاون في تحضير اللقاء، فتم تنحية عقيد كان مكلفا بالبرتوكول، وكذلك الرجل الصاعد نجمه داخل الرئاسة العربي بلخير، فوبخه الشاذلي بكلمات قاسية وعنيفة، وحكم عليه كأي عسكري بواحد وعشرين يوما حبسا لينحى نهائيا من منصبه، لكن بعد مرور خمسة عشر يوما على العربي بلخير في الحبس العسكري دخل كل من محمد الشريف مساعدية والدكتور أحمد طالب الإبراهيمي وتوسلا إليه بالصفح عن “السي العربي"، كما قال طالب، نظرا للخدمات الجليلة التي قدمها للدولة والرئيس، وأضاف محمد شريف مساعدية قائلا للرئيس “يا سيادة الرئيس أدري أنك لا تشك لحظة في وفاء وولاء سي العربي بلخير لك، إنه موظف متفانٍ ومخلص لك، فحتى الله سبحانه وتعالى عندما يحاسب الواحد منا ينظر إلى ميزان حسناته وسيئاته، فإذا ما تغلبت كفة الحسنات على السيئات فالله غفور رحيم..". صمت الشاذلي لحظة طويلة، ثم ابتسم، ليعود العربي بلخير من جديد من الباب العريض إلى مؤسسة رئاسة الجمهورية، ولقد تعلم العربي بلخير من هذه المحنة التي ابتلي بها، كيف يضع أعصابه في ثلاجة، أو يخفي كل مشاعره، وأفكاره، وكيف يعيد بتفانيه وعمله الصارم والدؤوب في إعداد الملفات والسهر عليها، ومتابعة تفاصيلها بشكل مثير للإعجاب حتى من طرف خصومه، ثقة الرئيس فيه، بحيث أصبح يوكل إليه كل المهمات السرية والمعقدة مع زعماء العالم وملوك أمراء ورؤساء الدول الذين اعتقدوا، أن الرجل القوي ورجل الظل في الجزائر، هو العربي بلخير الذي سرعان ما سيرقيه الشاذلي بن جديد إلى رتبة جنرال. وذات يوم عندما فكر الشاذلي بن جديد في التخلص من قائد الدرك زين العابدين حشيشي سأل العربي بلخير عن الرجل الكفؤ الذي يمكن أن يكون بديلا عن زين العابدين حشيشي، وهنا لمعت عينا العربي بلخير واهتدى إلى انتقام هادئ وبارد من خصمه الذي كادت أن تنتهي على يديه سلطته وحياته المهنية العقيد عباس غزيل، فصمت قليلا، ثم قال بصوت دافئ وهادئ “سيادة الرئيس، إن هذا المنصب لجد حساس، وأنتم تعرفون سيادة الرئيس ذلك التنافس الخفي بين جهاز الدرك والجيش حتى وإن كان هذا الجهاز تحت قيادة الجيش، وكذلك تلك الحساسية المفرطة بين جهاز الشرطة والدرك، لذا فالاختيار لا يمكن أن يكون متسرعا وغير مدروس، وأنتم في حاجة سيدي الرئيس إلى رجل محنك يحظى بثقتكم، وفي رأيي سيدي الرئيس لا يوجد شخص في الوقت الحاضر يصلح لمثل هذه المسؤولية مسؤول قسم الأمن والدفاع العقيد عباس غزيل الذي تعرفونه أكثر من أي شخص منا، سيدي الرئيس"، وما أن انتهى العربي بلخير من كلامه حتى وجد الشاذلي بن جديد الاقتراح فكرة عبقرية، لكن العقيد عباس غزيل لما اكتشف أن فكرة إبعاده من الرئاسة كان وراءها العربي بلخير ابتلع الضربة واعترف لمقربيه أن بلخير كان الأقوى، وقال “هذا العربي عفريت بسبعة أرواح".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.