الساعة العاشرة عند توقف الحافلة وفيها هذا السائق الجاف ...معروف في المنطقة ..يشعل سيجارته ولا ينزعها من فمه ..ينتقم منها لا يكاد يطفئها حتى يشعل أختها .. يحث الناس على الركوب بلهجة غليظة..أول وهلة تصورت أنه مرغم على هذا العمل .. تثاقلت رجلاي في البداية ثم قررت الصعود ..أحدد مكاني في أخر الحافلة أمام تلك الحسناء والى جانبي شيخ هرم .. وتسير الحافلة قاصدة مكانا غير بعيد .. السائق قبل أن يضع سيجارته الرابعة يمهد للكلام وفي صوته نبرة حزن ..يتمنى لو أن الكل يشاركه ألمه ..يتكلم عن حادث سيارة مرعب وعن ارتفاع الأسعار، لكن الموضوع أكبر من ذلك، يقتله الصمت ليعود لحزنه، يكلمه زميله لا تحزن كل الناس مصيرهم الموت -لكنه أغلى ما لدي -الردى يأخذ درة العقد - أتذكر أني حين ادخل إلى البيت يستقبلني .. يعاتبني عن التأخير ..وعلى ما وعدته في الأيام السابقة .. وبمزيج من الكذب والحلم يصدقني.. يتعلق بي . .يقول ارفعني، وأنهره كيف أرفع رجلا؟ يقبلني في وجهي ورأسي ويفضلني على أمه حين تمازحه من تحب أكثر، لا يأكل إلا إذا أكلت ولا ينام إلا إذا قبلني ويتجرع مرارة الدواء من اجلي - لا تبك يا رجل وانظر إلى الطريق - انه أعز شيء في حياتي وأتدخل بكلمات الحكمة معالجا هذا الخطب، وعرفت أن هذا الرجل الجاف المنظر يحمل قلبا طيبا وبصيغة رجل محنك - أنه الموت يا سيدي .. لا يدق بابا ولا يعطي إنذارا ولست أول من فقد أبنه - ولمن أعيش بعده ..أمه تعاني مرض القلب وضعف البصر ..وأخته الخرقاء حمقاء لن تحل محله ..لم أعرف الابتسامة بعده وتبكي جارتي في المكان وأبادرها في لباقة -البكاء.. وهل من شيء يدعوا للبكاء وترد عني في غلظة: -وكأن ليس لك قلب .. أما سمعت مأساة الرجل .. انتم الرجال قساة القلوب -لكن الموضوع انتهى أنت تزيدين في عمق الجرح لينهض الشيخ بعدما اخذ غفوة يستطلع الموضوع الذي سمع بعض كلماته: -من مات .. كلنا سنموت..ويسرد كيف مات والده وهو ابن العاشرة ..ثم أمه بعد ثلاث سنوات .. وعاد إلى غفوته ..لأن الموت يفتح له شجونا باكية، ثم عزف سنفونية من أنفه ، قررت التقرب من السائق كما فعلت الحسناء ولم يجذب الانتباه إلا قول: -دعك من التدخين ..يا سي موسى لن يعيد لك ولدك..وصحتك بالدنيا..اطلب من الله العوض -بل اطلب منه التعجيل بالموت..ابنتي البلهاء لن تعينني عندما تقيدني الشيخوخة..أم أنها ستبقى معي طول العمر ..اسكت دعني أنسى..موت ابني علمني أن الولد أفضل من البنت هذه الجملة لم تعجب الحسناء -ليس كل الأولاد أحسن من كل البنات -علمتني الفاجعة أن لا أشرب خمرا ..وأن اركع لله ..هو عقاب لقد آمنت بالقدر وأتمنى أن ارزق ولدا بدل احمد و.... تسير الحافلة عرفت سي موسى جيدا ، الرجل الذي هزمته الموت في جولة واحدة فألف الدمع سلوى ...وهرب للسيجارة التي حينما تحترق تموت الحكاية - أما انتهى الموضوع ..فلماذا البكاء الآن ..أنسى -أنسى ...لو نسيت كل شيء لا أستطيع نسيان أخر منظر حين قال لي دعني أقبلك اليوم أكثر من كل يوم ..فراح يلتصق بي يقبلني هنا وهنا..سألته لما كل هذا فقال لأني أحس أنك لن تعود من سفرك أو ستطيل الغياب ..لا أعرف من أين تسرب إليه ها الإحساس أو كيف تحدثه نفسه بهذا .. وفي المساء أشتد به المرض .. ولما قررت الذهاب به إلى الطبيب الذي مل علته منعني قائلا -لا داعي ظننتك أنت الراحل لكني سأرحل قبلك ..سأذوق نكهة السفر فطالما طلبت منك أخذي معك لكنك كنت تتحجج بمرضي .. إني راحل دون حافلة أو ثمن ... لن أحزن بعدك ..أحبك جدا صدقني ...الألم يشتد..لكنه معك عذوبة ..إنها النهاية يا أبتي ..لو كنت أنت المريض لحزنت عنك طول العمر لأني لا أحتمل غيابك أو مرضك لأن للأب أكثر من ابن لكن ليس للابن إلا أب واحد ..سيل حنانك غمرني وسيكون بعدي لأمي وأختي ..أعرف كم أنت طيب .. رغم الخمر ..رغم منظرك الجاف ..أرجوك سامحني إن كنت لحوحا وكثير الطلبات ولا تقل أن الكلمات اكبر مني لأني مستعد لهذه اللحظة مذ قال الطبيب لا علاج ينفع طبعا يسرع الأب للطبيب لكن..تخرج الروح ...تسير الحافلة ..تبكي الحسناء -لم أصدق أنه ميت ..أخذت السكين لأغرزه في صدري لولا المجانيين الذين منعوني تتوقف الحافلة ويستيقظ الشيخ -أما زال حديثكم عن الموت والأبناء ..كما يوجد ضحك يوجد بكاء ..أذكر أن أبني قرر أن يدخلني مركز للعجزة و المسنين..سر يا سي موسى ...الأبناء كالبطيخ حلو و....... لكنهم في نهاية الأمر أبناء وتعايرني الحسناء لأني بكيت ...وتسير الحافلة والعمر وسي موسى لا يزال مكان للجلفة هيا بسرعة ..وعندما يكون بجانبه ولد يداعبه -أطع والديك.. خذ هذا الدينار ..ما أسمك -اسمي احمد -كان لي ولد اسمه ..يقبله ..قل يأبي وسأأخذك ل"الجلفة" مجانا