سنة 2011، كانت مميزة بكل المقاييس على العالم بأسره والمنطقة العربية عموما والجزائر على وجه الخصوص لكونها عصفت بحكومات أوربية بفعل الأزمة الخانقة في منطقة اليورو، وأزاحت ديكتاتوريات عربية ظلت جاثمة على شعوبها لعقود طويلة، جعلتها تفكر في التوريث، وكأنها تسير ملكيات خاصة وليست شعوبا تطوق إلى الحرية وتنبذ الاستبداد البشع بكل صوره. ما عدا التجربة التونسية التي اختزلت الزمان والأرواح البشرية، وتسير بثبات نحو تحقيق أهداف الثورة فإن تجارب الانتفاضات العربية الأخرى التي شهدتها سنة 2011، لا تزال في مفترق الطريق، ولم تتعد بعد الخطوط الحمراء نحو بر الأمان، نظرا للخصوصية الشائكة والمعقدة لكل تجربة، والتي تظل مفتوحة على كل الاحتمالات. عندما اندلعت الأحداث الشهيرة لسيدي بوزيد التونسية وزحفها بسرعة البرق نحو مدن وضواحي تونس إلى أن بلغت العاصمة في زمن قياسي غير متوقع، بالتوازي مع هذه الأحداث المفاجئة في تونس، اندلعت نفس الشرارة في الجزائر، وعمت بطريقة مفاجئة أيضا معظم مناطق الوطن، واعتبر الملاحظون أن نفس الأسباب التي وراء انتفاضة التونسيين وأدت إلى الإطاحة بنظام زين العابدين بن علي، هي التي حركت الشارع الجزائري، وستكون لها انعكاسات مباشرة على النظام الجزائري. لكن المفاجأة التي حيرت ولا تزال تحير نفس الملاحظين، أن الأحداث التي اندلعت فجأة اختفت فجأة ايضا وأخمدت ليس عن طريق القمع العنيف أو المواجهة المسلحة الشرسة مثلما حدث ولا يزال يحدث في الانتفاضات العربية المتلاحقة التي عرفتها بعض الدول العربية وإنما من خلال احتوائها السلمي السريع مما جعل تجربة الانتفاضة في الجزائر في بداية سنة 2011 توصف بالخصوصية لاعتبارات عديدة، أهمها أن الجزائر من حيث موقعها الاقليمي توجد في قلب الانتفاضة العربية، تونس من جهة، وليبيا بثورتها الدموية العنيفة من جهة أخرى، أو كما قال أحد أمراء الخليج الداعمين للتدخل الخارجي والثورات العربية خوفا من الانتفاضة الداخلية في إمارته، «أن الدور آت على الجزائر»، وكأن إمارته تتمتع بالديمقراطية إلى حد النخاع!؟، ومع هذا لم تنتقل العدوى إلى الجزائر. غير أن توالي الانتفاضات والدسائس ومحاولات ركوب الموجة، ودعم المنشقين هنا وهناك بإيعاز وتنسيق مع الغرب عموما وأمريكا على وجه التحديد، لم يكن لها تأثيرات مباشرة على الشارع الجزائري، الذي كان يتحرك في اتجاه آخر، أكثر سلمية وفاعلية براڤماتية، حيث تعد هذه السنة الأكثر حراكا اجتماعيا بحكم عدد الاحتجاجات التي مست قطاعات واسعة. هذا الحراك الاجتماعي غير المسبوق، حاولت جهات عديدة استغلاله لاثارة الفوضى، أسوة بما كان يحدث في دول عربية أخرى، وإن كانت قد فوتت فرصة احتجاجات جانفي الماضي، فقد سعت إلى فبركة مسيرات «سبتية» طالبت فيها بمزيد من الحرية والعدالة الاجتماعية، واستمرت لأسابيع طويلة دون أن تتمكن من تحريك الشارع الجزائري، قيد أنملة، والذي حدث أن نفس الشارع الجزائري الذي كان منشغلا باحتلال مساحات أخرى في أماكن أخرى للمطالبة بتحسين ظروف المعيشة، انتقد بشدة عبث العابثين، في إشارة واضحة ورسالة قوية إلى أن الانخراط في مسيرات لزعزعة الاستقرار والأمن الداخليين، أمر غير وارد، ومستبعد طالما أن الجهات المكلفة بتسيير شؤون البلاد، تبدي استعدادا لتلبية المطالب المشروعة سواء كانت اجتماعية أو سياسية. وتدعم هذا الرفض القطعي، في تحويل الجزائر إلى مسرح للعنف الدموي مثلما حدث في تونس، مصر وليبيا واليمن وسورية.. من خلال رفض الشارع الجزائري الاستجابة لنداء الثورة الشعبية المزعومة التي حدد لها أصحابها تاريخ 27 سبتمبر الماضي، ليتلقى هؤلاء صفعة أخرى ومر اليوم مرة أخرى بردا وسلاما على الجزائر والجزائريين، الذين يبدون المزيد من العزم والإصرار على رفض التغيير المنشود بالأساليب الدموية، أو العنف المدمر للبلاد والعباد. لا يبدو أن دعاة زعزعة الاستقرار، سوف يتراجعون عن سعيهم لاعادة خلط الأوراق، مجددا أو تأليب الشارع الجزائري ضد الدولة، رغم اقتناعهم أن هذا الأخير لا يزال يبدي رفضا قاطعا للعودة إلى نقطة الصفر، عندما كانت الجزائر بأكملها تغرق في بحر من الدم والعنف والمواجهات المسلحة، في عشرية دموية عجزت الجهات المعنية عن إحصاء الخسائر المادية والبشرية فيها بدقة ويقال مجازا أنها أكثر من 200 ألف قتيل وعشرات الملايير من الدولارات كخسائر مالية، دون الإشارة إلى التأخر الكبير في التنمية الاقتصادية ومخلفاتها الوخيمة على البطالة والانتاج وكل الخدمات الملحة للمواطنين. محاولات زعزعة الاستقرار ستستمر بكل تأكيد، ولا يبدو أن للدولة أو النظام الجزائري من بديل آخر سوى تقوية الجبهة الداخلية من خلال التكفل الحقيقي بكل الانشغالات الاجتماعية والسياسية، وإعطاء معنى حقيقي لسياسة الاصلاح التي بادر رئيس الجمهوية لاطلاقها قبل أشهر، حتى لا تتحول هذه الأخيرة إلى مجرد أداة ظرفية، لا تف بالحد الأدنى من المطلوب، ولعل سنة 2012 التي تعد مفصلية وحاسمة في تحديد ملامح جزائر جديدة، ستكون شاهدة على مدى الالتزام باعطاء بعد حقيقي لسياسة الاصلاح الشامل، انطلاقا من الانتخابات التشريعية، التي يراد لها أن تكون تعددية وغير اقصائية، تعطي للجميع نفس الفرص من خلال حيادية الادارة، وشفافية ونزاهة الاقتراع. ومن جهة أخرى، فإن تقوية الجبهة الداخلية تعني أيضا استرجاع المواطن، الثقة في مؤسسات الدولة ومحاربة الفساد على جميع المستويات، وأن تكون الادارة في خدمة المواطن وليست مصدر للتذمر والاحتجاج، مثلما عليه الحال اليوم، وهي كلها عوامل ستساهم إلى حد كبير في التصدي لأية محاولات قد تجر الجزائر نحو ما لا يحمد عقباه.