50 شهيدا وعشرات الجرحى في غارات إسرائيلية.. العالم يصرخ أوقفوا الإبادة في غزة    روسيا : إعلان السيطرة على قرية جديدة في منطقة دونيتسك الأوكرانية    الجامعة الجزائرية تشهد اليوم وثبة نوعية    مشروع استراتيجي لتعزيز الاقتصاد الوطني    اختتام المرحلة النهائية بوهران    هذا موعد السوبر    ترامب يحضر نهائي المونديال    وزير المالية يشيد بدور الجمارك    لاناب تكرّم ياسمينة سلام    قطاع السياحة يستهدف استقطاب 4 ملايين سائح مع نهاية 2025    المسابقة الوطنية الكبرى للقفز على الحواجز نجمتين وثلاث نجوم من 16 إلى 19 يوليو بوهران    نقل : سعيود يبحث مع سفير قطر بالجزائر سبل تعزيز التعاون الثنائي    الصالون الدولي للسياحة والأسفار: توقيع اتفاقية تعاون بين وزارتي السياحة واقتصاد المعرفة    برنامج ثري لتنشيط الأسبوع الثقافي لولاية المغير في إطار مهرجان الفنون والثقافات الشعبية بوهران    السجل الوطني للمستفيدين الحقيقيين آلية تعكس حرص الجزائر على شفافية منظومتها القانونية والمالية    وزارة التربية : انطلاق فترة تقديم طلبات النقل للأساتذة ومديري المؤسسات التربوية غدا الاثنين    الجزائر تعد فاعلا مهما على المستويين الإقليمي والدولي من خلال جهودها فيما يخص مسألة الهجرة    موسم اصطياف 2025: زيارات ميدانية تفقدية عبر الولايات السياحية    منع دخول المراقبين الدوليين إلى الصحراء الغربية المحتلة مؤشر واضح على عدم احترام حقوق الإنسان    موجة حر وأمطار رعدية ورياح قوية تمس عدة ولايات    منصات رقمية مبتكرة تفتح آفاقا واعدة للسياحة في الجزائر    المغرب: أرباح فاحشة لشركات المحروقات على حساب اقتصاد البلاد ومصالح المواطنين    تقديم العرض الأولي لفيلم "دنيا" بالجزائر العاصمة    موسم الاصطياف: وصول 80 طفلا من أبناء الجالية الوطنية بالخارج إلى عين تموشنت    كاراتي دو/البطولة الوطنية: تتويج نادي مولودية الجزائر باللقب    ضرورة إضفاء التوازن على الشراكة الاقتصادية بين الطرفين    الالتزام بأقصى درجات الحيطة والحذر والتقيد بالتدابير الوقائية    الجمارك تمثل خط الدفاع الأول في حماية الاقتصاد الوطني    روسيا : لافروف يجتمع مع زعيم كوريا الشمالية ويشيد بعلاقة "أخوة لا تُقهر"    طُلب مني أن أغيّر موقفي من قضية الصحراء الغربية    عمورة يواصل الغياب عن تحضيرات فولفسبورغ    قرار انضمامي إلى فاينورد كان موفقا    غالي يدعو الأمم المتحدة إلى الإسراع في تنفيذ التزامها    التنديد بزيارة العار ل"أئمة" إلى الكيان الصهيوني    توزيع مياه مجهولة المصدر بعنابة    انضمام الجزائر إلى "أسيان" ورقة رابحة لترقية الصادرات    السكة الحديدية.. هندسة جديدة للخريطة التنموية    تحذير من انتشار أمراض سرطان المعدة والقولون    تحذير من فيروس "أر أس في"    أطفال يبيعون كل شيء.. والأولياء في قفص الاتهام    صورة جزائرية ضمن أحسن 10 صور في مسابقة عالمية    إنجاز مخبر جهوي للشرطة العلمية والتقنية    حلبة سباق السرعة لكل الفئات العمرية بالبليدة    غوص في عرش العزلة الإنسانية    "الفالوجة" تبدع لحظات فلسطينية مؤثرة    20 موسيقياً يصدرون ألبوماً مشتركاً    دعاوى لتصنيف مواقع أثرية ومبان تاريخية    فضائل ذهبية للحياء    تلمسان ستصبح قطباً صحّياً جهوياً بامتيازّ    سيدي بلعباس: افتتاح فعاليات الطبعة 15 للمهرجان الثقافي الدولي للرقص الشعبي بحضور جماهيري كبير    نجاح موسم الحجّ بفضل الأداء الجماعي المتميّز    وزير الصحة: تلمسان على أبواب التحول إلى قطب صحي جهوي بامتياز    تكريم وطني للطلبة المتفوقين في معاهد التكوين شبه الطبي بتلمسان تحت إشراف وزير الصحة    موسم حج 1446 ه : بلمهدي يشيد بالأداء الجماعي للقطاعات المشاركة    من اندر الاسماء العربية    هذا نصاب الزكاة بالجزائر    جامع الجزائر : ندوة علميّة تاريخيّة حول دروس عاشوراء وذكرى الاستقلال    سورة الاستجابة.. كنز من فوق سبع سماوات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رجل من أمّة وأمّة في رجل
نشر في الشعب يوم 27 - 12 - 2019

هل أطمع أن يغفر لي القرّاء الأفاضل ما قد يبدو لهم في حديثي هذا من خلط لموضوعية التحليل السياسي مع حماس العواطف الجيّاشة؟ فأنا أتناول جانبا من مواقف الشعب، أي شعب، عندما تعطى له حرية التعبير عن مشاعره بصدق وإخلاص تجرد، وبعيدا عن أي شوفينية وتعصّب إقليمي.
كنت أقرأ زفرات عبد الباري عطوان وهو يقول: «هذا الرّجل أحمد قايد صالح الذي قاد الجزائر في فترةٍ عصيبة، وبأعصابٍ فولاذيّة، كان يُجسّد عقيدة جيش وطنيّ حمى البِلاد، وحافظ على وِحدتها الوطنيّة والترابيّة، ومنع انزِلاقها إلى الفوضى، وكان الدّستور نبراسه وقدوته، يستحقّ كُل مشاعر المحبّة هذه من الشّعب الجزائريّ الذي كان واحِدًا منه، وشارك في بناء جيشه وتحديثه، وخاضَ حرب الاستقلال مُجاهِدًا، وحرب الأمّة العربيّة ضِد العدو الإسرائيليّ في عاميّ 1967 و1973 مُقاتلًا، وكان يتمنّى الشّهادة من أجلِ فِلسطين التي أحبّها بإخلاصٍ مِثل كُل أبناء الشعب الجزائري فردًا فردًا، نساءً ورِجالًا، رضعوا حُبّها الذي ورثوه عن آبائهم وأجدادهم ولم يتخلّوا عنها في زمنِ الردّة العربيّة».
ومن «رأي اليوم» أنتقل إلى تعليقات «الفيس بوك» المتعاطفة مع أحزان الجزائر لأقرأ للرّفيق صالح عوض زفرات أخرى تقول: «ندّد رئيس أركان المؤسّسة العسكرية الجزائرية بأي راية ترفع إلى جانب الراية الوطنية الجزائرية، باستثناء الرّاية الفلسطينية».
وأعود للصّحيفة الإلكترونية فأقرأ تعليقا على افتتاحية عبد الباري بتوقيع «المغاربي» يقول: «عطوان يرثي ويمدح عسكريا متسلّطا…يرفضه الشّعب الجزائري».
وأجد نفسي مضطرا للتّوقّف لحظات لأوضّح أمرا من المؤكد أنّه لن يستوقف الكثيرين، خصوصا في المشرق العربي (ولن أضيّع وقتا في تفنيد أو إنكار ما ادّعاه عن رفض الشعب الجزائري، فمن لم يرَ ما عشناه اليوم يثبت أنه أعمى البصر مظلم البصيرة، ومن لم يفهم أنّ جنازة اليوم هي الحراك الشعبي الحقيقي وليس التظاهرات التي يدفع نحوها باحثون، بدون جدوى، عن التموقع القيادي، سيظل يدور كالجمل الأعمى في طاحونة لا تطحن سوى الهواء).
وما أريد توضيحه هو أنّ كلمة «المغاربي»، تماما مثل كلمة «المغاربية»، هي التسمية التي يستعملها من يرفضون تسمية «المغرب العربي» التي كان من أهم من استعملها المجاهد المغربي الأمير عبد الكريم الخطابي، وكلمة «العربي» تصيبهم بحكة «الأرتيكاريا»، وواضح أنّ هؤلاء أنفسهم هم الذين شنّوا حملات الكراهية والحقد ضد الفريق قايد صالح، الذي حرمهم من سرقة السلطة الجزائرية كما فعلوا في التسعينيات، وهم أنفسهم الذين انتقدوا السلطات الجزائرية التي لم تمنع رفع الراية الفلسطينية في المسيرات الجزائرية، حيث كانت تعبيرا عن الشعار الذي رفعه يوما «هواري بو مدين»: «نحن مع فلسطين ظالمة ومظلومة»، وهم أبناء وأحفاد من رفضوا في الأربعينيات دعم الجهاد الفلسطيني، وكانوا السنوات الماضية كدمل يسيل بالقيح النتن في هجومهم على بو مدين، ورأوا في قايد صالح بو مدينا آخر، يقول عن يقينٍ بأنه ليس مدينا بشيء لفرنسا الاستعمارية.
اليوم، الأربعاء، كان تعبير الشعب الجزائري عن مشاعره أكثر من رائع، برغم أنه كان يتعرض خلال الأسابيع الماضية لشلال من الاتهامات التي وُجّهت للمؤسسة العسكرية ولقائدها، وتراوحت بين التنديد بما أسموْه حكم العسْكر أو التناقض مع الإرادة الشعبية، وهي اتهامات لم تقتصر على صحافة وتلفزة بلاد الجن والملائكة.
ولن أتوقّف عند الحجم الهائل للمشيعين، فهذا شاهده الجميع في القنوات التي التزمت النزاهة والموضوعية، بل سأكتفي بأمرين، الأول هو الهتاف الذي كانت تردّده الجماهير: «الجيش والشعب خاوة خاوة وقايد صالح مع الشهداء»، وهو هتاف يرد على التّجمّعات الموبوءة التي نهقت يوما: «الجيش والشعب خاوة خاوة وقايد صالح مع الخونة».
الأمر الثاني هو مظاهر تعطي صورة عن مشاعر الشعب التلقائية، من بينها بائع الخضر والفواكه الذي رفع على بضاعته لافتة مكتوبة بخط بسيط تقول: الخضر والفواكه اليوم مجانا، صدقة على روح قايد صالح، وهي صورة نشرت في «الفيس بوك»، مع صورة أخرى لمواطن بسيط يرتدي «قندورة» ويحمل كيسا يوزّع منه التمر على جماهير المشيعين، ويعلم الله كم دفع للتمور ثمنا، لعل أسرته في حاجة له.
ويمكن أن أضيف بأن حركة المرور بعد انتهاء الجنازة كانت كثيفة لدرجة لا تحتمل، ومع ذلك لم يسمع نفير واحد (كلاكسون) يطلقه سائق قليل الصبر.
ومرة أخرى لن أستعرض حجم الجنازة، وأكتفي ببعض التعبيرات التي جاءت في مواقع التواصل الاجتماعي، واطّلع عليها كثيرون، لعل من بينها كلمات تقول عن «الفريق»: «رفض كرسيّ الرئاسة فأهداه الله جنازة يحلم بها أي رئيس».
ولأن هناك مجموعات موبوءة في نواحي تعيش وضعية الطائرة المختطفة راحت تطلق صيحات الفرح إثر وفاة الرجل الذي كان قادرا على سحقهم، كان الرد البسيط من إحدى الحرائر: «خسروا المعركة أمامه وهو حيّ وخسروا الشرف أمامه وهو ميت».
ولقد قلت إنّ الفقيد رجل من نوع خاص متميز، لعلنا سنعرف عنه وهو في رحاب الله أكثر ممّا عرفنا عنه وهو بيننا، رجل أدى مهمة لعلها أصعب مهمة أداها قائد عسكري في زمن السلم، وأحيا بها صورة تاريخية كانت تجسيدا لروح ثورة نوفمبر المجيدة، صورة مناضل جبهة التحرير الوطني الأصيلة الذي يرتدي الملابس العسكرية.
وعلى وجه المثال، هناك جولاته الميدانية في كل النواحي العسكرية، وزيارته المتواصلة لكل القوات البرية والبحرية والجوية، وهو جهد رهيب بالنسبة لرجل ثمانينيّ تحمل مسؤولية الواجب القتالي منذ سن السابعة عشرة، بدءا بثورة التحرير إلى المساهمة الفعالة في المواجهة مع الكيان الصهيوني.
وكانت الجولات رسالة أرادت منها المؤسسة العسكرية أن تكون تحذيرا لكل من تسوّل له نفسه محاولة المساس باستقرار الجزائر، وأيا كان وحيثما وُجد، ومن أي جحرٍ انطلق ومن أي وكرِ جاء.
وهناك مثال آخر يرتبط باختفاء الفريق منذ نحو ثلاثة أسابيع، فقد أصيب يومها بأزمة قلبية استدعت نقله بصفة عاجلة إلى المستشفى العسكري، حيث رأى الأطباء أن علاجه يتطلّب إجراء عملية لزراعة «بطارية» لتنظيم ضربات القلب، ورفض قايد صالح بشدة إجراء العملية قبل الانتخابات الرئاسية، وكأنّه كان يُحسّ بأن هذه هي مهمته الأساسية التي لن يسمح بأي شيء قد يكون سببا في عرقلتها، وهكذا واصل جهوده بإرادة هائلة، لم تمنع من أنه بدا مرهقا يوم تنصيب الرئيس عبد المجيد تبون، وكادت ابتسامته المنتزعة برغم ما كان يعانيه تقول: مهمتي انتهت، استودعكم الله.
وهناك أيضا إصراره على أن تكون كل مداخلاته بناء على نصّ مكتوب، في حين أنه كان معروفا بطلاقة اللسان في كل توجّهاته للضباط والجنود، وكانت الخلفية هي أنه أراد أن يقول لمن يهمه الأمر: ما أقوله ليس رأيي الشخصي ولكنه رأي المؤسّسة العسكرية، لا أملك الخروج عنه ولو بكلمة واحدة.
ولعلّي أذكر هنا بأن كل خطبه كانت باللغة العربية، وهي رسالة من المؤكّد أنها آلمت كثيرين في الداخل والخارج، كما توجّع بعض الجيران في الشمال من اختياره لشركة «مرسيدس» الألمانية لإنتاج جزائري ألماني يتخصص في صنع أنواع معينة من الشاحنات والسيارات التي تستعملها قوات الأمن.
وقد كان عبد الباري عطوان على حق وهو يقول عنه: «أحبّ فِلسطين، أحبّ أمّته، مثلَما أحبّ الجزائر، وها نحن نبادله والملايين غيرنا، الحُبّ نفسه، هذا الرّجل الذي حَرِصَ دائمًا على الحديث بلُغَة القرآن حتّى في مجالسه الخاصّة، ولم يلحن أو يعوّج لسانه بلُغةٍ أُخرى، والفرنسيّة خاصّةً، وكان رجُلًا مُؤمنًا مُتماسِكًا بعقيدته الدينيّة والعسكريّة».
ويبقى أن هناك من خسروا أنفسهم عندما اختفوا إعلاميا، بعد أن كانت بياناتهم المملّة وثرثرتهم السياسية واجترارهم اللغوي قذىً للعيون وتلويثا للأسماع طوال الشهور الماضية، ولم نسمع منهم كلمة ترحم أو عبارة عزاء، وبعضهم ممن يدعي الحكمة والموعظة الحسنة والثقافة الواسعة.
وواقع الأمر أن هذا كان أمرا طبيعيا من البعض، وبغض النظر عن تناقضه مع مقاييس الرجولة والنزاهة السياسية، فهؤلاء، ومنذ أن فشلوا في التموقع القيادي عبر استنساخ تجربة التسعينيات، وبفضل موقف المؤسسة العسكرية المتمسك بالدستور، كانوا يشحنون أتباعهم بكراهية المؤسسة ويركزون بوجه خاص على قايد صالح، وإلى درجة اتهامه بالخيانة والعمالة لفرنسا، أي والله، لفرنسا، وبالتالي فلم يكن من بينهم من يملك الشجاعة ليذكر للراحل فضيلة واحدة على الأقل، هي حرصه على ألاّ تسيل قطرة دم واحدة حتى ممّن لم يدّخروا كلمة سباب واحدة لم يوجهوها له.
وكان من زعماء آخر الزمان من يخشى، إن ترحم على الفريق، أن يتعرّض لسخط أنصاره وانفضاض أتباعه، وما يمكن أن يسمعه من لوم من جهات كانت تبارك لغوه بل وتروج له.
لكن الجماهير رفضت ما تشهده بعض الشوارع والميادين من تشنّجات كان بعضها واضح الافتعال، وخصوصا فيما يتعلق بما قدمته بعض قنوات التلفزة قائلة عنه أنه مظاهرات للطلبة، وعلّق البعض عليه، وهو يرى في الواجهة كهولا وشيوخا، بأن هؤلاء كانوا أولياء أمور الطلبة!!، ينوبون عنهم في رفض نتائج الانتخابات الرّئاسية.
ومع كل هذا كانت التعليمات صارمة في عدم إيذاء أي متظاهر، مهما كانت هتافاته.
لكن البعض أصابتهم عدوى «النكتة المصرية» فقد سمعت من يقول: «الحمد لله، ظلّوا على حقدهم وعنادهم، كنت أخشى أن يعترفوا بخطئهم فتكتب لهم حسنة تمحو سيّئاتهم».
وأعترف بأنّني حزين، لأنه هناك من أضاع على نفسه فرصة منحها إياه المولى عز وجل ليندمج مع الأمة في مسيرتها ويلتحق، بصفحة بيضاء، بالانطلاقة الجديدة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.