بأعالي العاصمة الجزائر وبالتحديد بمنطقة "باب الوادي"، الحيّ الشعبيّ الأكبر في البلاد، تتربّع القصبة العتيقة على كتلة جبلية ليس الوصول إليها صعباً، فكلّ الطرق تؤدي إليها. باردة ممرّاتها، وتمتزج ريحها بنسمات البحر المتوسّط الذي تطلُ عليه، ولعلّ أبرز شيء يشدّكم إلى المكان هو عبق الياسمين وماء الزهر اللذان يعطّران ممراتها الضيقة. يُخالجكم شعور وأنتم تتجوّلون بممرّاتها الضيقة ومبانيها العتيقة، وكأنّكم في العهد العثماني؛ سلالم كثيرة وأزقّة عديدة، مداخل ومخارج تُصادفكم من كلِّ جهة تمرّ فيها. إنها "القصبة"، أشهر الأحياء العتيقة ومعقل القصور التاريخية. شغف اكتشاف المكان الذي يعود للحقبة العثمانية قادنا للتوغل بقلبها، وكانت انطلاقتنا من أمام قصر "خداوج العمياء"، فهو قصر مليءٌ بالأسرار التاريخية الجميلة والصّور الفنية القديمة، تبوح لزوّاره بتاريخ قاطنيه أثناء المرحلة العثمانية. قصدنا القصرَ الذي يقع غير بعيد عن جامع "كتشاوة"، وعن ضريح الولي الصّالح عبد الرحمن الثعالبيّ. وجدناه فارغاً ماعدا الحارسيْن اللذين وجدناهما أمام مدخله، وسكونٌ يغمر المكان. أول شيء يلفت انتباهكم هنا هو الصّور التقليدية الفنية التي تكشف لزوارها عن تاريخ قاطني القصر أثناء المرحلة العثمانية، ثمّ مرحلة الاحتلال الفرنسي للجزائر. فدار "خداوج العمياء" المشهورة في القصبة، والتي تمّ تحويلها حالياً إلى متحف للفنون الشعبية، تسرد حقائق من الزمن الجميل، وهي معقل ابنة الخزناجي حسن باشا، الذي كان قائد الأسطول البحري في الدولة العثمانية في القرن السادس عشر، اسمها "خديجة" ويطلق عليها اسم "خداوج". ويتميز القصر بالتصميم المعماري العُثماني فله "سقيفة" كبيرة تُطلُّ على السّماء، يعلوها سقف بيضاويّ يتواجد فيه مخزنان تعرف بمخازن "البرطوس"، وتوجد غرفة "خداوج" في الطابق الثالث من القصر، وكانت تجلس "خداوج" في المشربية الباشوية التي تطلّ على الشّارع لتسمع صخب الشوارع المحاذية للقصر. النّحاس...تراث يحكي تراث القصبة العتيق تشتهر القصبة بفنّ الطرق على النحاس المعاصر ممّا جعلها قبلة للسياح الأجانب والمحليين وممثلي السفارات الأجنبية بالجزائر على غرار سفارة الولاياتالمتحدة وكندا وروسيا وألمانيا وفرنسا وروسيا والصين. وهي مهنة لم تكن بالنسبة للأجداد مُجرّد عملٍ يكسبون من خلاله لُقمة عيشهم بل هي جزءٌ لا يتجزأ من حياتهم، وطالما يشكّل مصدر فخر لهم ولنسائهم، فالعروس الجزائرية لا تستغني عن الأواني النحاسية في جهازها. وتشتهر القصبة أيضاً بحرفة المصنوعات الجلدية، بالأخص "البابوش الجلدي" (الحذاء التقليدي)، وأيضاً الصندوق الخشبي المزركش بألوان ورسومات تجسّد تاريخ هذه المنطقة وأسرارها، ويرافق العروس ليلة دخلتها لتضع فيه جهاز عرسها من ملابس وحلي، حتى أنه كان يُعوض عن الخزانة في غرفتها. وتُعتبر القصبة من أبرز الأحياء الشعبية التي تروي تاريخ ثورة المليون شهيد ضدّ المستعمر الفرنسي، فبمجرّد ولوجكم شارع "ديزابرام" يصادفكم منزل وُضعت فوق بابه جدارية رُخامية مكتوب عليها: "في هذا المكان وبتاريخ 8 أكتوبر 1957 سقط في ميدان الشرف الشهداء الأبطال"، في إشارة المنزل الذي فجّرته قوات الاستعمار الفرنسي كان يختبئ فيه رموز معركة الجزائر". واختيرت القصبة لتكون المنطلق لتبدأ معركة مدينة الجزائر لعدّة أسباب أبرزها أنها كانت عصية على السّلطات الفرنسية، بسبب شكل منازلها ومنافذها وضيق ممرّاتها وشوارعها التي منحت المجاهدين فرصة المناورة والهروب. وتعتمد بيوتها نفس التصميم العمراني، مكوّنة كلُّها من طابقين أو ثلاثة يتخللها سطح كبير، ويتوسط المنزل ساحة كبيرة أيضاً تُعرفُ ب "الحوش" أو "وسط الدار" بها نافورة مياه، وفي جانب منها بئر يمتدّ عمقه إلى أكثر من 40 قدماً تحت الأرض. ويضمّ الطابق الأول "بيت الضياف" أو "السقيفة"، إضافة إلى المطبخ، وكانت النساء يستعملن "الحوش" أو "وسط الدار" أو "الفناء" لغسل اللباس والفراش. ولعلّه أبرز ركن في البيت والذي لا يمكن الاستغناء عنه من طرف قاطني المنزل، لأنه يُطلّ على الواجهة البحرية. وكانت القصبة تضمّ ما يقارب عشرة آلاف بناية من العهد العثماني، فتقلّصت إلى ألف مبنى بسبب محاولة الاستعمار الفرنسي تجديد المباني والتي أوجدت أحياء جديدة على أنقاض المباني العثمانية، وقد قامت منظمة اليونيسكو عام 1990 بتصنيف القصبة العتيقة في الجزائر ضمن التراث العالميّ، لتقرّر السلطات الجزائرية إحياء القصبة من جديد وإعادة ترميمها. ومن أبرز المساجد التي تعرف بها القصبة العتيقة بالجزائر هو "المسجد الكبير"، ومسجد "كتشاوة ".