الوزير الأول يشرف على احتفالية بمناسبة اليوم العالمي لحرية الصحافة    إحياء الذكرى ال63 لتفجير 2 ماي 1962 بميناء الجزائر: ترحم على أرواح الشهداء وتأكيد على الوفاء لمسيرتهم    وزارة التربية تعلن عن انطلاق عملية سحب استدعاءات امتحاني "البيام" و"الباك"    إطلاق خدمة جديدة عبر الانترنت على مستوى بوابة جبايتك    الجزائر تحتضن المؤتمر ال38 للاتحاد البرلماني العربي وسط دعوات لتوحيد المواقف تجاه القضايا المصيرية    الصحفيون الفلسطينيون يحيون اليوم العالمي لحرية الصحافة في ظل انتهاكات المحتل الصهيوني وصمت المنظمات الدولية المعنية بحمايتهم    في افتتاح المؤتمر ال38 للاتحاد البرلماني العربي: الجزائر تدعو إلى تحرك برلماني عربي موحد نصرةً لفلسطين    الجزائر لا تكل من الدعوة إلى وحدة الموقف العربي تجاه قضايا الأمة    كرة القدم/ بطولة إفريقيا للمحليين 2025 (الدور التصفوي الأخير): آخر حصة تدريبية للخضر قبل مواجهة غامبيا    وزير الاتصال يترحم على أرواح شهداء مهنة الصحافة    انطلاق أشغال الجلسات الوطنية للوقاية من السرطان ومكافحته    كرة القدم داخل القاعة/كأس الجزائر: أتلتيك أوزيوم يفوز على نادي بئرمراد رايس ويتوج باللقب    300 ألف محتج في مسيرات حاشدة ضد الحكومة الفرنسية    الخليفة العام للطريقة التجانية الشيخ علي بلعرابي يؤدي صلاة الجمعة بواغادوغو    تعاون جزائري غاني للتصدّي للتهديدات الإرهابية    توقيف بث قناة الشروق نيوز TV لمدة 10 أيام    انطلاقة مثالية للمنتخب الجزائري وطموح 15 ميدالية ذهبية في المتناوَل    بطولة دون مخدرات.. تحديد تنقّل الأنصار وعقود جديدة للاعبين    نادي ليفربول يصرّ على ضم ريان آيت نوري    توقيع مذكّرة تفاهم لتبادل الخبرات بالجزائر قريبا    مشاركة واسعة ومميّزة في الطبعة الثانية لمهرجان الرياضات    مهرجان تقطير الزهر والورد يعبّق شوارع سيرتا    خرجات ميدانية مكثفة من مسؤولي عنابة    أم الطوب تستذكر الشهيد البطل مسعود بوجريو    الذكاء الاصطناعي رفيق التراث وحاميه الأمين    تقوية الروابط الروحية بين زوايا منطقة غرب إفريقيا    الطبعة ال29 لمعرض مسقط الدولي للكتاب : مشاركة لافتة للناشرين الجزائريين    الطبعة الأولى للصالون الدولي للكهرباء والطاقات المتجددة من 17 الى 19 نوفمبر 2025 بالعاصمة    توقرت: وفاة أربعة أشخاص وإصابة آخر في حادث مرور بالحجيرة    تطوير شعبة الليثيوم وفق الرؤية الاستراتيجية للرئيس تبون    سفينة مساعدات متجهة إلى غزة تتعرض لهجوم صهيوني في المياه الدولية قرب مالطا    أضاحي العيد المستوردة: انطلاق عملية البيع الأسبوع المقبل عبر كافة الولايات    الاتحاد البرلماني العربي: دعم القضية الفلسطينية ثابت لا يتزعزع    الجزائر وغانا تؤكدان التزامهما بالحلول الإفريقية وتعززان شراكتهما الاستراتيجية    البطولة العربية لألعاب القوى (اليوم ال2): 17 ميداليات جديدة للجزائر    أضاحي العيد المستوردة: انطلاق عملية البيع الأسبوع المقبل عبر كافة الولايات    وزير النقل يترأس اجتماعًا لتحديث مطار الجزائر الدولي: نحو عصرنة شاملة ورفع جودة الخدمات    البهجة تجمعنا: افتتاح الطبعة الثانية لمهرجان الجزائر العاصمة للرياضات    افتتاح الطبعة الرابعة لصالون البصريات و النظارات للغرب بمشاركة 50 عارضا    اليوم العالمي للشغل: تنظيم تظاهرات مختلفة بولايات الوسط    إعفاء البضائع المستعملة المستوردة المملوكة للدولة من الرسوم والحقوق الجمركية    البروفيسور مراد كواشي: قرارات تاريخية عززت المكاسب الاجتماعية للطبقة العاملة في الجزائر    وزارة الصحة تحيي اليوم العالمي للملاريا: تجديد الالتزام بالحفاظ على الجزائر خالية من المرض    عميد جامع الجزائر يُحاضر في أكسفورد    يامال يتأهب لتحطيم رقم ميسي    اتحاد العاصمة ينهي تعاقده مع المدرب ماركوس باكيتا بالتراضي    تم وضع الديوان الوطني للإحصائيات تحت وصاية المحافظ السامي للرقمنة    تواصل عملية الحجز الإلكتروني بفنادق مكة المكرمة    بلمهدي يدعو إلى تكثيف الجهود    المحروسة.. قدرة كبيرة في التكيّف مع التغيّرات    ماذا يحدث يوم القيامة للظالم؟    نُغطّي 79 بالمائة من احتياجات السوق    معرض "تراثنا في صورة" يروي حكاية الجزائر بعدسة ندير جامة    توجيهات لتعزيز الجاهزية في خدمة الحجّاج    صفية بنت عبد المطلب.. العمّة المجاهدة    هذه مقاصد سورة النازعات ..    كفارة الغيبة    بالصبر يُزهر النصر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



شهداء لا يُنْسَوْن: محمد الدرة، فارس عودة، إيمان حجو
نشر في الشعب يوم 11 - 10 - 2023

لكل واحد من هؤلاء الثلاثة قصة مختلفة، إلا أن ما يجمعهم أشياء كثيرة، فهم من قطاع غزة المحاصر، أطفال، شهداء، استشهدوا خلال انتفاضة الأقصى، في أقل من عام، وشكّل استشهادهم انتباهة قوية للعالم على هذا الاحتلال الشرس، قاتل الأطفال. انتباهة توثيق، لا انتباهة محاسبة للقتلة. لا شك في أنّ الاحتلال يعي أنهم أطفال، وصغار، ويعلم ما تقوله الاتفاقيات التي تصمت وتتجمّد عندما تمس الشعب الفلسطيني وأطفال هذا الشعب.
ولعلكم تعلمون السبب، فهو أوضح مما يقال، ويعاد سرده. استشهد الدرة في 30 / 9 / 2000 بعد يومين من اندلاع الانتفاضة الثانية، وصار علماً على هذه الانتفاضة. لم يكن حدثا عادياً، قُتل بإصرار عجيب أمام الكاميرات، لم ترحمه البندقية البلهاء وهو يحتمي خلف جسد والده جمال. لم يكن ليشكّل الدرة ولا أبوه خطرا من أي نوع إلا أن يكون الدرة الطفل، إشارة للمستقبل، فبقتله يقتلون المستقبل ويغتالونه.
الدرة أصبح أيقونة شعرية وأدبية أيضا، ودخل إلى بطون الكتب، ليكتب عنه عشرات الكتّاب، وجمع بعض ما كتب فيه من شعر في مجلدين حملا عنوان "ديوان الشهيد محمد الدرة" تجاوز عدد صفحاته الألف صفحة، كما تناوله الشاعر محمود درويش في واحدة من أعداد مجلة الكرمل بقصيدة بعنوان "القربان" (عدد 66، شتاء، 2001)، وتحدّثتْ عنه روائيا الروائية المصرية رضوى عاشور في روايتها "قطعة من أوروبا". وآخرون كثيرون تحدثوا عن الدرة في المقالات والاستعادات السنوية، عدا قصائد الذكرى والحنين التي أبدعها الشعراء. وبعد (38) يوما تقريباً، وبتاريخ: 8 / 11 / 2000، استشهد الطفل فارس عودة، هذا الطفل الذي غدا علامة على الشجاعة، في مواجهته دبابة الميركافا بحجر. من حق هذا الطفل ألا يظل على قيد الحياة، هذا هو منطق البندقية الحمقاء التي اغتالته. يجب أن يموت هذا الفتى، لأنّه تجرّأ على أقوى قوة في المنطقة وواجهها بحجر، يا للمفارقة الكبيرة، دبابة وحجر. لقد كان منهم "الفولاذ والنار، ومنا لحمنا، ومنهم دبابة أخرى، ومنا حجر". هذا الفتى الغزيّ الذي خاطب ظله، حضر في الأغاني والشعر والرواية، وظلّ علامة أخرى مختلفة عن الدرة، في كونه مواجها، مرعبا في مواجهته، صارخا متحديا، لا يعرف بناء المعادلات المنطقية، ليقول كيف لي أن أدافع عن الأرض والجسد والروح بحجر أمام الميركافا التي لا تدمرها إلا الأسلحة الفتاكة. حطّم المعادلات المنطقية، ليبني من موته مستحيل الفتى الذي لا يهزم وإن ارتقى شهيداً، فكانت له منطقيته التي لا يفهمها إلا القليل من الساعين إلى الحياة بشرف وعزة وكبرياء روح.
لا أبالغ، وليس من قبيل الكلام الإنشائي الرومانسي الحالم، أن فارس عودة يمثل روح الشعب الفلسطيني التي لم تهزم، وإن كان يقف وحيدا أعزلَ في مواجهة أعتى الأسلحة، يجابه بجسده العاري وبصلابته الروحية. هذا هو فارس عودة، وهذا هو الشعب نفسه، وعمليات المقاومين بعد هذا الفارس وقبله تقول هذه الرسالة الساطعة في دلالتها الوطنية والمنطقية. شهيدان، شكّل كل واحد منهما اعتباريته الخاصة، على نحو خاص، في ظرف خاص، لكن لم تنته المسألة على هذا النحو، تحضر الطفلة إيمان حجو لتكون العلامة الثالثة. إيمان لم تقاوم بحجر، ولم تختبئ من الجنود وراء أمها أو أبيها. إيمان يأتيها الموت وهي في أكثر الأماكن أمانا على وجه الكرة الأرضية، يأتيها الموت وهي في حضن أمها، بتاريخ: 7 / 5 / 2001.
استشهد الدرة وفارس عودة بالرصاص، لكنّ إيمان ترتقي بالقذيفة، رضيعة ذات أربعة أشهر، لا يصلح لها أن تقتل برصاصة، لا بد لهذه الطفلة أن تموت بالقذيفة، لتصنع المفارقة الكبرى حالتها الأخرى الأدل على هذه الحالة من طرفي المفارقة، الطفل الرضيع يقتل بالقذيفة. بشاعة إنسانية صارخة، لا يمكن لهذه الميتة أن تقول إلا البشاعة. وماذا - إذاً - وراء هذه البشاعة؟ بعيدا عن لعلّ وربما.
إن هذه الحالة من القتل تقول: إنه لا أمان من الاحتلال، فمن يقتل وهو في حضن أمه هائنا مطمئنا فليس هناك أمان لأي أحد بعد ذلك، فأين الملجأ؟ وإلى أين نذهب؟ إنها رسالة تهديد مباشرة وعنيفة، يدعو فيها الاحتلال الشعب إلى الاستكانة والرضا بالاحتلال والعبودية، لكنني أظن أن الاحتلال لا يعلم أن الشعبَ، كل الشعب، يمتلك روح فارس عودة وصلابته، لن ترهبه آلات الدمار والعتاد والسلاح، وموج الخوذات المحشوة بالوحشية التي لا تعرف إلا الموت والنار والدم، تبذلها لغيرها، فلن يتلقاها غيرها إلا بمثل ما دفعت، والنار بالنار تفلح.
هذه رسالة لا يريد الاحتلال الاعتراف بها، ولذلك سيواصل الغرق في بحر الوحشية والدم. حضرت إيمان حجو كما حضر الدرة وفارس عودة في الشعر والأغاني. إبراهيم نصر الله كتب سيرتها شعراً في ديوان "مرايا الملائكة"، ومما جاء في هذا الديوان قوله في (حديث الوحدة): "يعبر الموت من تحت شبّاكها كل ليلٍ ويصمتُ / للعشب يكبر في غرفة النوم / لا غرفة غيرها / يسمع الكركراتِ / المناغاةَ / رقّة راحتها وهي تمسك كفّ أبيها".
يكتب "سيرة الجسد الطريّ" وإن لم يعد العالم يفهم لغة الشعر والأدب. إننا بحاجة لشيء آخر مع لغة الشعر هذه وتلك، شيء يشفي "صدور قوم مؤمنين" ويخلصهم من أوجاع الموت. هؤلاء الشهداء الثلاثة لن يُنسَوْا أبداً، لأن كل واحد منهم شكّل حالة تدل علينا نحن القابعين تحت رحمة البندقية والقذيفة والدبابة، نواجه الموت صغاراً وكباراً، كما واجهه هؤلاء الأطفال الشهداء. فكل واحد منا - نحن الواقفين على الدور - ننتظر رصاصة أو قذيفة أو دبابة لنكون اسما بجانب هؤلاء الشهداء.
هؤلاء الشهداء لن يُنسوْا، ليس لأنهم خالدون في الشعر والروايات وأغاني المنشدين، بل لأنهم يذكروننا بالعجز الأممي القانوني، والعجز الإنساني، والعجز القومي، فكل الأطفال الذين لحقوا بركبهم، ذاقوا ما ذاقه الثلاثة من عذاب اختراق الرصاص، وانسلال الروح من البدن، ذاق أهلهم ما ذاق أهل هؤلاء الأطفال من قهر، وفقدان، وحسرة، وحقد، ورغبة في الانتقام.
نعم الرغبة في الانتقام، لا الرغبة في التمجيد والتصوير وتعليق النياشين، ولا الرغبة في إنشاد الشعر، ولا حتى الرغبة في نيل الشهادة! تلك التي تأتيهم وهم لاهون، في وقت هم لا يريدونها فيه. إن لهم أحلامهم التي تنتظرهم في غدٍ من حقهم أن يكون غدا حيّاَ راقصاً مفعماً بالفرح. هؤلاء الشهداء لن يُنسوا، لأنهم علامة على كل شهيد طفل، ارتقى بعدهم، ويرتقي كل يوم، تاركين الحياة رغماً عنهم، تاركين مقاعد الدراسة، والزملاء، ومشاكسة المعلمين والمعلمات، والمزاحمة في الطابور على المقصف المدرسي ليشتري أحدهم شطيرةً، معدة على عجل من عامل يصارع الحياة أيضا لكي يعيش بكرامة. إنهم حالات خالدة رغماً عن الموت ذاته الذي لا يكفّ يذكرنا بهم يوميّاً.
هؤلاء الشهداء لا يمكن أن يُنسوْا بسهولة، لأنهم يفضحون العقل الباطن للاحتلال المجرم، الساعي إلى اغتيال المستقبل، فكل طفل يقتله الاحتلال، فإنه يقتل مربعا كاملا من الحياة والحيوية والمقاومة. فأسهل السيطرة قلع الغرسة قبل أن يشتدّ عودها، هذا هو الإجرام الصهيوني الذي تجده في أعداد الشهداء من الأطفال التي تزداد يومياً، وعدد الأطفال الأسرى، مع أنهم يحبون القتل أكثر!
هؤلاء الثلاثة لم يُنسوْا، ولن يُنسوْا لأنهم ثلاثة، كأي ثلاثة اجتمعوا ليشكلوا الحالة، ثلاثة قبلهم "تسابقوا على الموت: محمد جمجوم، وفؤاد حجازي، وعطا الزير"، وكالثلاثة الذين اجتمعوا ليشكّلوا العلامة في الرواية الفلسطينية (كنفاني وجبرا وحبيبي)، وقبلهم الثلاثة المذكورون في القرآن الكريم الذين رضي الله عنهم، وغفر لهم، وجعل فيهم قرآناً يتلى، كما سخّر لهؤلاء الشهداء الثلاثة شعراء كبار ينشد القراء أشعارهم آناء الليل وأطراف النهار أيضاً.
وأخيراً: لم تقف المسألة عند الثلاثة والعشرين عاماً هذه الممتدة من مقتل الدرة وحتى اليوم، بل إن المسألة عمرها ممتد منذ أكثر من سبعين عاماً، وستظل موجودة وتصنع حالاتها وتتوالد ما دام من يوجّه الآلة عقل محشو بالموت، يرى أنه كلما قتل فلسطينيا فإنه سيفسح مجالا لمستوطن ليكون البديل في الأرض وفي المستقبل، لكن هيهات، فالأرض ولّادة، والأمّ ولّادة، والسواعد دائما على أهبة الاستعداد، ولتطحن الحَبَّ الرحى، ونحن والأعداء والزمن طويل، فهذه الأرض لم تهزمْ أصحابَها يوماً، ولن تهزمهم أبداً.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.