وزير العدل يبرز جهود الدولة في مجال الوقاية من تبييض الأموال وتمويل الإرهاب    رئيس الجمهورية يُكرم المتفوقين في شهادتي البكالوريا والتعليم المتوسط 2025    الرئيس تبون: الجزائر ماضية نحو تحقيق أمن غذائي مستدام    مجلس الأمة يشارك بسويسرا في المؤتمر العالمي السادس لرؤساء البرلمانات    العدوان الصهيوني على غزة: ارتفاع حصيلة وفيات المجاعة إلى 147 فلسطينيا من بينهم 88 طفلا    شان-2024 (المؤجلة إلى 2025) – تحضيرات : المنتخب المحلي يواجه موريتانيا وديا    كأس العالم للكرة الطائرة 2025: انهزام المنتخب الجزائري امام نظيره الصيني 3-0    حوادث مرور وحرائق وغرقى… حصيلة ثقيلة للحماية المدنية خلال 24 ساعة    العدوان الصهيوني على غزة: واحد من كل ثلاث فلسطينيين لم يأكل منذ أيام    ضبط أزيد من قنطار من الكيف المعالج بالبليدة وبشار مصدره المغرب    كاراتي دو/بطولة إفريقيا-2025: الجزائر تنهي المنافسة برصيد 12 ميدالية، منها ذهبيتان    مكافحة التقليد والقرصنة: توقيع اتفاقية بين المديرية العامة للأمن الوطني والديوان الوطني لحقوق المؤلف    الألعاب الإفريقية المدرسية-2025: تألق منتخبات مصر، تونس، السودان ومدغشقر في كرة الطاولة فردي (ذكور وإناث)    تواصل موجة الحر عبر عدة ولايات من جنوب البلاد    اقتصاد المعرفة: السيد واضح يبرز بشنغهاي جهود الجزائر في مجال الرقمنة وتطوير الذكاء الاصطناعي    اختتام المهرجان المحلي للموسيقى والأغنية الوهرانية : تكريم الفائزين الثلاث الأوائل    جثمان الفقيد يوارى بمقبرة القطار.. بللو: سيد علي فتار ترك ارثا إبداعيا غنيا في مجال السينما والتلفزيون    تمتد إلى غاية 30 جويلية.. تظاهرة بانوراما مسرح بومرداس .. منصة للموهوبين والمبدعين    السيد حيداوي يستقبل مديرة قسم المرأة والجندر والشباب بمفوضية الاتحاد الإفريقي    وفود إفريقية تعبر عن ارتياحها لظروف الإقامة والتنظيم الجيد    هذا موعد صبّ المنحة المدرسية الخاصّة    يوميات القهر العادي    غوارديولا.. من صناعة النجوم إلى المدربين    إقامة شراكة اقتصادية جزائرية سعودية متينة    تدابير جديدة لتسوية نهائية لملف العقار الفلاحي    رئيس الجمهورية يعزي نظيره الروسي    إشادة بالحوار الاستراتيجي القائم بين الجزائر والولايات المتحدة    الوكالة تشرع في الرد على طلبات المكتتبين    الاتحاد البرلماني العربي : قرار ضم الضفة والأغوار الفلسطينية انتهاك صارخ للقانون الدولي    رغم الاقتراح الأمريكي لوقف إطلاق النار.. استمرار القتال بين كمبوديا وتايلاند    وهران.. استقبال الفوج الثاني من أبناء الجالية الوطنية المقيمة بالخارج    خاصة بالموسم الدراسي المقبل..الشروع في صب المنحة المدرسية    نيجيريا : الجيش يصد هجوماً شنته «بوكو حرام» و«داعش»    إستشهاد 12 فلسطينيا في قصف على خانيونس ودير البلح    العملية "تضع أسسا للدفع بالمناولة في مجال إنتاج قطع الغيار    تحقيق صافي أرباح بقيمة مليار دج    الابتلاء.. رفعةٌ للدرجات وتبوُّؤ لمنازل الجنات    ثواب الاستغفار ومقدار مضاعفته    من أسماء الله الحسنى.. "الناصر، النصير"    حملة لمكافحة الاستغلال غير القانوني لمواقف السيارات    تزويد 247 مدرسة ابتدائية بالألواح الرقمية    المخزن يستخدم الهجرة للضّغط السياسي    هدفنا تكوين فريق تنافسي ومشروعنا واحد    عنابة تفتتح العرس بروح الوحدة والانتماء    لا يوجد خاسر..الجميع فائزون ولنصنع معا تاريخا جديدا    إنجاز مشاريع تنموية هامة ببلديات بومرداس    عندما تجتمع السياحة بألوان الطبيعة    "المادة" في إقامة لوكارنو السينمائية    ورشة الأصالة والنوعية تختتم الفعاليات    جثمان المخرج سيد علي فطار يوارى الثرى بالجزائر العاصمة    دعوة مفتوحة للمساهمة في مؤلّف جماعي حول يوسف مراحي    شبكة ولائية متخصصة في معالجة القدم السكري    منظمة الصحة العالمية تحذر من انتشار فيروس شيكونغونيا عالميا    وهران: افتتاح معرض الحرمين الدولي للحج والعمرة والسياحة    النمّام الصادق خائن والنمّام الكاذب أشد شرًا    إجراءات إلكترونية جديدة لمتابعة ملفات الاستيراد    استكمال الإطار التنظيمي لتطبيق جهاز الدولة    رموز الاستجابة السريعة ب58 ولاية لجمع الزكاة عبر "بريدي موب"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عن قمة الخرطوم وخبر المرض المفزع
يا جزعي عليك يا ولدي يا نبيل (الجزاء الثاني)
نشر في الشروق اليومي يوم 26 - 07 - 2008


عبد القادر حجار
ولكن، ونحن في هذا الظرف العصيب العطيب، لا تنسوا قوله تعالى: "لا يكلِّف الُله نفسا إلا وسعها"، "ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة"، وقد لجأنا إلى هذا الأسلوب الأليق الذي فيه شيءٌ من التقية أو الباطنية، نُعلن غير ما نُخفي، ونُضمر غير ما نُخبر، حفاظا على سلامة واستقرار شعوبنا، وحرمةِ سيادة أوطاننا، خطبنا وتكلَّمنا وذكَّرنا بالقانون الدولي، وقرارات مجلس الأمن، ولكن أمريكا لا تُصغي ولا تعي. أصدرنا في قمتنا هذه بنودا كالعهود، صغناها قراراتٍ فيها من التلميح ما يفهمه العدوُ بدون جهد ولا مشقة، فيها من الوضوح والشفافية، ما لا يحتاج لتفسير أو تأويل. وأكدنا بأننا نحن العربَ متمسكون بمبادرة السلام العربية الصادرة عن قمة بيروت، وأبدينا من جديد استعدادَنا الكاملَ للتطبيع الجماعي من المحيط إلى الخليج مع إسرائيل، وأن استراتيجية العرب الآن، وبعد الهزائم المتعاقبة للعروش والجيوش،‮ هي‮ مسلكُ‮ السلام‮ الدائم‮ والعادل‮ والشامل،‮ وأن‮ الحروب‮ مع‮ إسرائيل‮ عهدٌ‮ ولى‮ وأدبر،‮ لم‮ يعدْ‮ في‮ قاموسنا‮ الحالي‮ ولا‮ القادم‮ لفظٌ‮ من‮ ذاك‮ القبيل‮.‬
*
*
وصدعنا، نحن، القادةَ العرب، على مسامع الدنى بمواقفَ من الشجاعة والحكمة ما يُبهر العالم، وكم راح يُكبرنا جذلان نشوان، وهو يرانا ويسمعنا نُدين أيَّ فلسطيني برعما يانعا يتأزَّر حزامَه الناسف، ويفجِّر نفسَه في كوكبة من غُلاة بني صهيون، أو عروسا فلسطينيةً غيداءَ لم تُنهِ دراستَها الجامعية بعد، وتسجِّل على الجهاز المصوِّر شهادتَها قبل استشهادها، وتفضِّل شهادةَ الفداء الممهورةَ بالدماء، على ورقة مختومة من كلية أو جامعة بحبر المداد، وتغدو تتأبَّط قنبلتَها بشوق وحنان، وبرباطة جأش لا يعتورها التردُّد أو الخوف، وتنقطع علاقتُها بزوائل الحياة الفانية، وعند وصولها لمقصدها، تقف شامخةً كلبوءة تزأر في تجمُّعٍ صهيوني، معلنةً: "فلسطين عربية، وتُردف: الله أكبر"، وتضغط على كنزها الثمين، قنبلتِها العطرة، لتتحوَّل في لمح من بصر هي، ومن حولها من الأعداء، إلى أشلاء متناثرة، وشظايا متقاطرة، وبعدها، لا يهمُّها، ولا يهم رفقاءَها الشهداءَ من يصفهم بإرهابيين، ولا من يتبجَّح من العرب بوقاحة، واصفا عملياتِهم الاستشهاديةَ بالحقيرة أو الدنيئة. فالشهيدُ الفلسطيني بهذا الاستعداد للشهادة، وبهذه الطريقة في القربان، أثمن وأغلى وأرفعُ وأشرفُ من أي‮ عربي‮ سياسي‮ دجال،‮ سواءً‮ كان‮ جالسا‮ على‮ قمة‮ مملكة‮ أو‮ إمارة‮ أو‮ جمهورية‮.
*
نعم تلك كانت قراراتُ قمتنا، وعلى غرارها كانت سابقاتُها، فيها من دقة البلاغة والبيان، ظنا منا نحن القادةَ العرب، بأن الصياغاتِ المنمّقة، والتورياتِ المبطَّنةَ وحدها كافيةٌ لتجعل إسرائيلَ تسارع للاعتراف بالدولة الفلسطينية بعاصمتها القدس، وبعودة اللاجئين، وبالجلاء عن أراضي سوريا ولبنان، اعتقدنا أن الدولة العبرية تأتي إلينا لهفى متلهفةً على هذا الاعتراف العربي بوجودها، وعلى تطبيع علاقاتنا بدولتها من المحيط إلى الخليج، كما جاء في ما سميناه "مبادرةَ بيروت". وهذا الاعتراف كأنه كان غير منتظر منها، لا من حيث الظرف، ولا من حيث التوقيت، وكأن ذاك هو الهاجس الوحيد الذي كان يُؤرق إسرائيل، فقدَّموه لها على طبق من ذهب دون أيِّ التزامٍ مسبقٍ منها بالتفاوض أو الوساطة، ودون أي التزام ولو بالتلميح من صانعتها وحاميتها أمريكا.
*
وليت أصحابَ النخوة والأنفة، يكفيهم التذكير، بأن الرئيس الشهيد الحي عرفات لم يكنْ يومها بينهم، كان محاصرا برام الله، ممنوعا من المغادرة للأرض، ومن المشاركة في الاجتماع، وممنوعا منهم من أن تُلقَى كلمتُه في قمة بيروت في الزمن المطلوب، كانت تلك الصيحاتُ العرفاتيةُ نذيرا مدوِّيا حرِيا بأن يُفيقهم من غفلتهم، وينتبهوا إلى فعلتهم المشينة في حق أمتهم، وفي تلك المبادرة الخزيِ تحدٍّ صارخٌ بالمصادرة على حق الأجيال القادمة في النضال من أجل قضيتها، وطرد غاصبيها، وتحرير أراضيها، طال الزمن أم قصر، كان المفترض أن تتحرَّكَ في دواخلهم، أمام الصلف الإسرائيلي والعنجهية الأمريكية، حميةُ العروبة ونخوتُها وعصبيتُها لتمزيق تلك المبادرة اللعينة، ورميها فورا إلى سلة المهملات، واستبدالها بقرار، أقلُّه عدمُ الاعتراف بالعدو الصهيوني اليوم وغدا، ويطالبون من الدول المعترفة به أن تسحبَ ذلك وتبادر، وإن عجز هذا الجيلُ الهجينُ، دون تعميم، في استعادة فلسطينَ المجاهدة، فلا شك أن الأجيال القادمة تُكمل المشوار جهادا وفداء وصراعا حتى النصر، على غرار ما فعل الشعب الجزائري في مقارعة الاستعمار، ثوْراتٌ تتلوها انتفاضات، فإن فشلت حركةٌ ما، اندلعت أخرى من هناك لتواصل المسيرَ على درب الكفاح، وكانت الخاتمةُ تتويجا بثورة التحرير المظفرة في غرة نوفمبر 1954، في وثبة عارمة شاملة، قامت بها الجزائرُ الثائرةُ في وجه ما قننته فرنسا: "بأن الجزائر جزء لا يتجزأ من أراضيها"، فواجهت مقابلَ ذلك الادّعاء ثورة عارمة جبارة بالحديد والنار، وبالشهادة والافتداء، قام بها شعبٌ أبيٌّ ثائر، يقدِّم من المهج الحرَّى، والدماء الزواكي، قوافلَ تلو القوافلِ من الشهداء ومواكب تلو المواكب من المجاهدين، فكلَّل جهادَه بالنصر والاستقلال، وخرجت فرنسا تجرجر أذيالَ الهزيمة بعد قرن واثنتين وثلاثين‮ سنة،‮ ذليلةً‮ كسيرة،‮ مازالت‮ تلعقُ‮ غصةَ‮ الهزيمة‮ النكراء‮ في‮ حلقها‮ علقما‮ مر‮ المذاق‮ حتى‮ الآن،‮ وستظل‮ حنظلا‮ في‮ لهوات‮ أجيالها‮ إلى‮ يوم‮ الدين‮.
*
ولكن لا شك أن الزمن الأمريكي الرديء كان قد فعل فعلتَه في قادتنا ونُخَبنا السياسية والثقافية، ولو بنِسَبٍ متفاوتة، ولكنها مؤطَّرةٌ ومتأثرة، خورا في العزيمة، وامتهانا للكرامة، وعمالة في السياسة، وانبطاحا في المواقف، ووقْرا في الآذان لا تُصغي لصيحات عرفات، وهو محاصرٌ في سجنه من رام الله، "سأموت شهيدا شهيدا شهيدا"، فالقراراتُ التي لا تُسندها قوةٌ ما، مآلها الفشل والانتكاس، والعروضُ العربيةُ الرخيصةُ المقدَّمةُ من دون مقابل، تدل على الغفلة والارتجال، أو على البلاهة السياسية والاختلال، أو على افتقاد الأنفة والحمية‮ وشمائل‮ الرجال‮.
*
ولكن ماذا يستطيع أبوك أن يفعل يا نبيل؟ وهو وقلة من بني قومه العرب، ما زالوا يغرِّدون خارج السرب، فقادةُ أمته بلا تعميم إمَّاعاتٌ رخوةٌ تحبو على بطونها نحو أمريكا كالزواحف، خوفا على عروشها، والجبنُ منقصةٌ ذميمةٌ في خصال الرجال، ولكنه لحماية الكراسي فضيلةٌ وذكاءٌ‮ ودهاء،‮ أين‮ منه‮ معاوية،‮ وعمرو‮ بن‮ العاص‮.
*
وإذا حاججتَ القومَ أو واجهتَهم تعللوا بالقول: "ماذا تريدون منا أيها الحالمون بعروبة الأمة ووحدتها، وهي شظايا متطايرة متناثرة؟ وما تطلبون من قادةٍ لا يجمعهم جامع، أو يقرِّب بينهم تشابهٌ إلا تلك الخناجرُ المسنونةُ المسمومة المخبوءةُ تحت المآزر، والطوايا المتخابثة الناقمة المنطوية على ذلك الكم الهائل من الضغائن والأحقاد نحو بعضعهم؟ أتشكُّون فينا نحن قادةَ الأمة بعد ما كتبنا وصغنا وصادقنا على كل هذه القرارات بالإجماع، فالطعن فيها خروجٌ وإضعافٌ لموقف العرب أمام الغرب؟ وما ذا نستطيع أن نفعل إذا وجدنا أنفسَنا عند كل مبادرة عاجزين عن الحركة عند تطبيقها بالفعل، وغالبا ما يكون عدمُ التطبيق صادرا منا بالإجماع؟ كفى لوما على قادتكم أيتها الشعوبُ المستنفرة، وهم مشدوهون أمام عولمة كاسحة، براكينُها حِمَمٌ متطايرةٌ في الجو، تُحجب الكواكبَ والسماوات، ونسمع فحيحَها مدويا صاعقا‮ ينتشر‮ في‮ كل‮ بقعة‮ من‮ الأرض،‮ أو‮ في‮ أية‮ موجة‮ من‮ كل‮ محيط،‮ كأنه‮ نفخةُ‮ الصور‮ في‮ يوم‮ النشور‮".
*
لذلك قمنا نحن القادةَ تحوُّطا لضررها بكثرة التهويل من أخطارها، حتى ولو كنا لا نعي بالضبط دلالاتِها، ولا ملجأَ في مخيلتنا أمام هذا الغول المتوحش إلا أن نقبعَ بجحورنا، مستعيذين محوقلين متضرعين لخالقنا، وذلك عندما تصلنا الأخبارُ عن شراسة هذه العولمة وقوة فتكها وعصفها بكراسينا، إن نحن قلنا أو فعلنا شيئا يخدش في سمعة مهندسيها ومروّجيها ومنفّذيها، ونحن نعرف مخاطر ذلك بالتجربة والاستنتاج، بعد ما وقع للعراق وأفغانستان، وما وقع قبلها باغتصاب فلسطيَن من أهلها، وزرع أجسامٍ شاذة غريبة صنعوا منها دولةً وقوة، وجعلوا من مجد العرب جيوشا لا تخرج من نكسة، كنا نظنها عابرة في مواجهة إسرائيل، إلا لتنتهي بهزيمة نكراءَ ما تزال جاثمة على صدور أمتنا، وها نحن رغم مسايرتنا وسكوتنا وقبولنا بتمريغ هاماتنا وقاماتنا جثاةً عند أقدام الغرب رُكَّعا، وأمام عتبات دوره المالية شحْذا وتسوُّلا، وعلى منابره، وأمام عدسات التصوير، نقدِّم صكوكَ الطاعة وأدلةَ الانصياع، ومع ذلك لم يثق في أقوالنا، معتقدا أننا نخادعه، ولم تشفع لديه أعمالنا، ظنا منه أننا نسايره تقيةً إلى حين، خوفا من حين نسترد فيه أنفاسَنا، ونستنهضُ فيه من كبوتنا، ونستحثُّ ما خار من عزائمنا، ونجمِّع ما تفرَّق من قوانا، وتوجُّسُه ربما له ما يبرره من شواهد التاريخ. لذلك، ورغم كل ذلك، سنظل نتعرض لهجمة شرسة من خلال ترسانة إعلامه، تسحقنا حكاما وشعوبا بالخبر المدسوس المدروس، والصور السريعة الباهرة المؤثرة على البصر والسمع، ومن خلالها ذاك الضغط المكثّف على العقول والبصائر، وازداد خوفُنا أكثر بتلك العولمة الداهمة الزاحفة، وباقتصاد أمريكي متوحش، لا يبغي شيئا إلا الاستيلاءَ على خيرات شعوبنا، وموارد أراضينا، والسيطرة على مقدَّراتنا، والمساس باستقلالنا وسيادة أوطاننا.
*
وإذا تجرأ أي حاكم أو شعب، ولاح منه أنه يريد أن يستفسر أو يفاوض حمايةً لبعض القليل من مصالحه، حفاظا على مستقبل أجياله، فإذا بمؤسساته المالية، من الصندوق الدولي، والبنك العالمي، إلى نادي باريس ولندن، تتحرَّك آلةً رهيبةً، فتقوم بالضغوط بدايةً، فتشطُّ في الشروط إجحافا، ثم تنتهي إلى قيود خانقةٍ نهايةً، وإذا الحاكمُ المستفهمُ أو المقاومُ لا يجد أمامه من مندوحة إلا القبولَ بشروط الإذعان، أو تحاك ضده مؤامرةٌ مدبَّرةٌ بإتقان، تُطيح به موتا أو سجنا أو رحيلا، وإذا بالبلد المعني يُفيق على كارثة تتجاوز الاستغلالَ إلى الارتهان، وربما يؤدي هذا وذاك إلى الغزو والاحتلال. هذا هو الهاجسُ الذي يساكن عقولَ قادتنا آناءَ الليل وأطرافَ النهار، ولا أحدَ منهم يستطيع أن يقارنَ نفسه بفيدال كسترو، أو شافيز، أو رئيس بوليفيا الجديد، وهم في خاصرة أمريكا جغرافيا، وعلى بعد أميال من شواطئها، وها هم ما زالوا يتحدَّونها جهارا نهارا بشجاعة مواقفهم المستمدَّة من إرادة شعوبهم. وليتهم، والهواجس تغشِّي أبصارَهم، يتذكرون، وبالأمس القريب فقط، قادةً كانوا أنموذجا في مواجهة الكبار بعزيمة لا تقهر في إدارة الصراع، مع نفس القوى الغربية المتغطرسة المتعنجهة، وكانوا قادةً لنفس الشعوب، وهي يومها جاهلةٌ متخلفةٌ عكس وضعها الحالي، وهي على درجة عالية من الوعي والثقافة والتعليم، ليتهم تذكروا، عبد الناصر، وابن بلة، وبومدين، وحافظ الأسد، ونهرو، وتيتو، ونكروما، وسيكوتوري، وغيرهم. ولكن ما ذا نقول لهم سوى هذه الصرخة من الأعماق‮: أيا‮ زمنَ‮ الرداءة‮ والردة‮ ما‮ أتعسَك‮! أيا‮ زمنَ‮ التخافت‮ والتهافت‮ ما‮ أبشعَك‮! أيا‮ زمنَ‮ الطوع‮ والصوع‮ ما‮ أقبحَك‮! أيا‮ زمنَ‮ الهزيمة‮ في‮ القلوب‮ والعقول‮ ما‮ أشدَّ‮ وطأَك‮ وأطولَك‮!.
*
كذا ذهب العربُ يا نبيل إلى قمة الخرطوم، وقد اتصلت أمريكا بدايةً بتحويل القمة إلى عاصمة عربية أخرى، ولكنها لم تُفلح، وضغطت على القادة العرب بعدم الحضور، ولكنها لم تنجح كلية، حيث حضر عددٌ معقول رغم الضغوط والتهديد، وكانت أخيرا تريد أن تكون رئاسة القمة لدولة عربية أخرى، كما فعلت مع القمة الإفريقية في الخرطوم، ولا يفوتني تقديم شهادة للقارئ اليوم، وللتاريخ غدا، بأن الرئيس بوتفليقة، وهو يستقبل السيد عمرو موسى، الأمين العام لجامعة الدول العربية، وبعد أن أصغى الرئيس بوتفليقة لمحدِّثه، وهو يعرض أمامه مطالبَ القائمة الأمريكية، فكان جوابُه فوريا وسريعا وحاسما: "إن القمة ستكون بالخرطوم، وأن الرئيس البشير، هو رئيس القمة العربية القادمة، وإني أحضر شخصيا فعاليات هذه القمة، حتى لا يتكرَّر ما وقع في القمة الإفريقية الأخيرة، ينعقد اجتماعُها بالخرطوم، وتُسنَد رئاستُها إلى دولة إفريقية ثانية". وكنت وعبد العزيز بلخادم حاضريْن هذا اللقاء، وكم كان شعورنا واعتزازنا كبيرا بموقف الجزائر في مثل هذه الملمّات، وفي وجه هذه التحديات، وكنت قبلها قد تلقيتُ تعليماتٍ فوريةً من طرف السيد الرئيس بوتقليقة، بعد إعطاء تعليماته لوزارتيْ الخارجية والمالية إلى تحويل المبالغ المستحقة عن التزامات الجزائر في العمل العربي المشترك، بأن أقوم بتسديد حصة الجزائر في مختلف المؤسسات العربية، ودعم السلطة الفلسطينية قبل قمة الخرطوم، وفعلا هو ما قمتُ به بصفتي سفيرا ومندوبا دائما للجزائر لدى الجامعة العربية، وكنتُ أرى على وجه الأمين العام، السيد عمر موسى، أثناء مقابلتي شيئا من الدهشة، وكثيرا من الابتهاج، وهو يرى الجزائرَ تدفع كل حصصها المحددة لسنة 2006، وكل المخلَّفات، ولكل المؤسسات والصناديق والمنظمات العاملة تحت لواء الجامعة العربية، وأنا أحاسب مسؤولي المالية بالجامعة‮ أمامه‮ على‮ آخر‮ مليم،‮ وقال‮ عمرو‮ موسى‮ بنشوة‮ ظاهرة،‮ تلك‮ هي‮ الجزائر،‮ وذاك‮ هو‮ رئيسُها،‮ وقد‮ تعوَّدنا‮ منها‮ مواقفَ‮ مشرِّفة‮ في‮ العمل‮ العربي،‮ مع‮ شكر‮ جزيل‮ من‮ طرفه‮ نحو‮ القيادة‮ الجزائرية‮.
*
ذهبتُ يا بني إلى قمة الخرطوم، وأنا بهذا الانتشاء الاستثنائي في عملي الديبلوماسي، مواقفُ بلادي مشرِّفةٌ ومتحدية، والوفاءُ بالتزاماتها كاملا نحو أمتها، وهذا يسرني ويُزهيني، ويماشي نضالي الطويلَ من أجل عروبة الجزائر. ذهبتُ إلى الخرطوم، وبلادي ترأس القمة العربية، وقد تمت في عهد رئاستها سلسلةٌ من الإصلاحات على عمل وهياكلِ الجامعة لم تشهدها منذ إنشائها سنة 1945، من إنشاء برلمانٍ عربي، يُعد نقلةً نوعية من جامعة الحكومات إلى جامعة الشعوب كذلك من خلال ممثليها، إلى تكوين هيئة متابعة لتنفيذ القرارات، إلى قانون أساسي يحدِّد مجموعةً من الضوابط الرادعة لكل دولة تماطلُ أو تستنكف عن تنفيذ القرارات التي صادقت عليها، تتدرج بها من التنبيه، إلى الحرمان من التصويت، إلى المنع من المشاركة في فعاليات الجامعة، إلى تجميد العضوية، إلى درجة الإقصاء. ثم ذلك القرار الهام المتعلق بآليات التصويت‮ من‮ الإجماع‮ إلى‮ الأغلبية‮ الموصوفة‮ بالثلثين‮ في‮ القضايا‮ الموضوعية‮ الجوهرية،‮ وبالأغلبية‮ البسيطة‮ في‮ القضايا‮ الإجرائية‮.‬
*
هنا تناهى إلى أبيك خبرُ مرضك المفاجئ كالصاعقة يا نبيل، وهو بالخرطوم في قمة عربية، يتدارس قادتُها أوضاعَ أمتهم، وهي تتهاوى بين الاختلال في النُّظم، والاعتلال في السياسة، والتخاتُل في المواقف، والاحتلال الأمريكي في العراق، والاغتصاب الإسرائيلي في فلسطين، والاقتتال‮ العرقي‮ في‮ الدارفور،‮ والتناحر‮ القبلي‮ في‮ الصومال،‮ والتلويح‮ الغربي‮ بالقوة‮ لاستباحة‮ الوجود‮ والحدود‮.
*
آهٍ يا ولدي من مرضك المباغت! ويا له من خبر كم كان مفزعا مؤلما سقط على رأسي صاعقةً هزَّتْ مني الكيانَ والوجدان، وأنا في خضم قمة عربية، منغمسا في جدول أعمالها ومشاريع قراراتها، قراراتٍ تريدها أمتها مصَّداتٍ لرد هوج الرياح الآتية من الغرب، وخاصةً من أمريكا، غربٍ متجبرٍ متغطرسٍ أرعنَ أهوجَ يريد إركاعَ الجميع من بني قومنا جثاةً أمام نزواته وشراهة حيوانته، من أقصى أطلس العروبة الهادر إلى خليجها الزاخر بالخيرات والثروات، وكم كان أبوك، قبل ما تدنو به خطوات العمر حثيثا نحو الشيب والكهولة، يجد المتعةَ والقدرةَ على المقاومة‮ في‮ مناحي‮ الحياة‮ ومضانك‮ العيش،‮ في‮ أهوال‮ الثورة‮ وغياهب‮ السجون،‮ في‮ نتوءات‮ السياسة‮ والعقائد،‮ في‮ معارك‮ الهوية‮ والعروبة،‮ في‮ وعكات‮ الصحة‮ والاعتلال‮.
*
ومع كل تلك المنعرجات في الحياة، ظل أبوك يصادم ويقاوم، يثابر ويصابر، يكابد معاناةَ الابتلاء ويتحمل، يدوس بأعقاب النعال على نوازع الشراهة، إيِّ شراهة كانت، وهي غريزيةٌ فطريةٌ في كيان كل إنسان، كان يدوسها تحت أخمص الأقدمين إن دفعته حاجةٌ إلى مطمع أيا كان، أو توجَّست نفسُه غوايةً في مناصبَ مهما كانت مغريةً بالدُّر والدُّرر، ومهما كان الموقعُ بريقُه وهاجا، إلا ويرميه ويزدريه إن كان مناقضا أو معارضا لمواقفه ومبادئه، ويترفَّع عن هذا وذاك زهدا وقناعة، ويواصل السير على دربه السالك أو الشائك، ميسورا كان أم مقتورا، غير‮ آبه‮ ولا‮ مبال‮.
*
آهٍ يا نبيل! لو كان جسمُ أبيك من حديد لذاب من صهد المواجهة وانطوى وتفاصم، لو كان قلبُه من فولاذ لأصابه الصدأ والبلى، فتهاوى كجذع نخل خاوية وارتطم، وكمْ وكم بذل أبوك من جهد شقي مضنٍ للتعامل مع ظروفه في قريته، وهو غر طري قبل أن يصلب العود ويشتد، فتحدى جفافَها، وجفوةَ طبيعتها، وتخلُّفَ أوضاعها، وكسَّر القيدَ الحديدَ المكبِّلَ لرجله، فتحرَّرتْ وسارتْ تختصر الوهادَ والفجاج، بعيدا بعيدا مخافةَ أن يلتحم القيد المكسَّر من جديد ويأسِر، وفكَّ الغُلَّ الطوقَ الخانقَ من حول رقبته، فتنشق الصدر الكظيم هواءً طلقا عند بزوغ فجر، أو نسيما عليلا عند مغيب شمس، وهو يرى الشفقَ محمرَّ الوجنات يودِّعها لمستقرها، وهي تتهادى نشوى فرحةً مرحةً بإنجازها في يومها الفارط، واستعدادها بهمة ليوم جديد في جهته، لأنها تواصل عملَها في مناطقَ أخرى من الأرض والأكوان بسطوعها لا تغرُب ولا تغترب، والليلٌ ديجورٌ قاتمٌ جاثٌم على قريته، خلافا لمناطقَ أخرى حتى داخل وطنه، وتلك عظمةُ النواميس الكونية، لا تُدرَك بالبداهة ولا بالبصيرة ولا بالحدس، لأنها بخلقتها ومهامها ودورانها الذي لا يتوقف حول نفسها، ودوران باقي الأكوان من منظومات سمائية أو أرضية حولها، شيءٌ أكبرُ من أن يحدَّ ويقدَّر، أسطورةٌ أعجوبةٌ فوق العقل والتصور والخيال، ولكن الفتى يبيت ليله سهدا وأرقا، أو نوما وحلما، منتظرا بشوق بزوغَها لتصابحَه غدا بخيوطها الذهبية، شلالا من ضياء، وسناءً من نور، ومنارةً تهديه السبيلَ القويم نحو الأفق الفسيح، وتُسعفه بنورها وخفوتها أحيانا، وبوهجها ولفحها أحايينَ أطولَ وأكدر، فيتحرَّك متوكِّلا على الله، مصمِّما بإرادة صلبة قُدَّت من ذلك الوادي الذي به وُلد وترعرع، ليشقَّ طريقَه الشائك لطيِّ المفاوز والتلال بمنحدراتها، ويتسلَّق المرتفعاتِ المتعرِّجةِ بنتوءاتها، يبغي الوصولَ بجهد ومشقة إلى ذرى الجبال، كنسر عاف مجالسةَ الثرى بين أطيان قريته، فقرر الطيرانَ عاليا متعاليا في أجواء فسيحة، وقد استنبت جناحاه كلَّ ما يعينه من خوافٍ وقوادمَ على الطيران والصعود، إسراءً من ضائقة القرية إلى فسوح المدينة، ومعراجا إلى فضاءات أخرى من المعمورة‮ أو‮ سعَ‮ وأرحب‮.
*
*
..‬‮ يتبع


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.